مشاهد الفوضى في مستشفيات العديد من دول العالم، جرّاء التفشي الواسع لفيروس كورونا وعجز القطاعات الطبية عن استيعاب كثافة الإصابات، لا سيما الحرجة منها، أعادت إلى ذهن هناء سالم* (33 عاماً) ذكريات واقع مشابه لكنّه أكثر بؤساً وفزعاً كانت قد أخفته في غياهب ذاكرتها عمداً. تذكّرت وقائع كان مسرحها مستشفى "قصر العيني" في مصر، قبل عشرة أعوام، أثناء ثورة 25 يناير.
حينذاك، روى لها زوجها الذي كان أحد العاملين في قسم الاستقبال أهوالاً عن الحالة التي وصل فيها ضحايا عنف الشرطة خلال الأيام الأولى للاحتجاجات الشعبية التي اندلعت أصلاً اعتراضاً على عنف الأمن.
على مدار الأعوام العشرة الماضية، سلّطت تقارير الضوء على أعمال التعذيب والقتل ومشاهد الأهالي وهم يتفحصون الجثث في مشرحة "قصر العيني" وغيره من المستشفيات الحكومية، بحثاً عن ذويهم المفقودين في الأحداث، لكن نادراً ما أُشير إلى المشهد داخل أكبر وأقرب مزوّد رعاية صحية من ميدان التحرير، ساحة الاحتجاجات الرئيسية في القاهرة، والذي وصفه ثلاثة من مصادر رصيف22، من مقدّمي الرعاية الطبية في المكان حينذاك، بأنه كان أشبه بـ"ساحة حرب".
أشلاءٌ مُقطّعة
بينما كانا يجلسان سويّاً يستمعان إلى الأخبار والبيانات حول الأحداث والضحايا، قال الزوج لهناء بلهجة استنكار وسخرية: "أنا مات عَ إيدي أكتر من كدا بكتير"، وروى لها كيف كان يستقبل حالات لـ"أشخاص متقطّعين، أشخاص بلا رجل أو ذراع، كتير أوي عينيهم متصفية، أشخاص الدم بيغطي جسمهم من فوق لتحت مش عارفين نحدّد إصابتهم فين".
كان زوج هناء يداوم يوم جمعة الغضب، في 28 كانون الثاني/ يناير 2011، بدوام 24 ساعة، لأنه كان "عريساً جديداً"، والعمل في أيام العطلات الرسمية يُعتبر امتيازاً لصاحبه. غير أن الأمور انقلبت إلى ما لم يكن يتخيّله أحد: أصبح ذاك اليوم "أكثر الأيام دموية" في الثورة المصرية.
و"جمعة الغضب" هو الاسم الذي أطلق على اليوم الرابع من أيام ثورة يناير، ويُعتبر البداية الحقيقية للاحتجاجات الشعبية الواسعة، وفيه خرجت الجماهير بالملايين في مختلف المحافظات المصرية رداً على عنف الشرطة.
عمّا عايشه في ذلك اليوم، أكد لزوجته أن ضغط الحالات أجبرهم في بعض الأحيان على "التخلّي" عن المصابين الأقل فرصاً للنجاة لتسخير مجهود الفرق الطبية لإنقاذ مَن هم أكثر حظاً للعيش.
قال لها: "مكنّاش مِلاحقين على الحالات، وكلهم حالتهم خطيرة. في وقت معيَّن، بقينا مضطرين نشوف مين اللي احتمال أكبر يعيش عشان نشتغل عليه ونحاول ننقذه واللي فُرصه أقل حطيناه ‘يخلّص’ (يموت) على جنب".
ثم أضاف متحسراً: "غصب عننا. لو مكناش عملنا كدا كان هيموت ناس أكتر".
على الرغم من كثرة تعامله مع الوفيات، اعتاد زوج هناء كما كثيرين في مجاله، رؤية الموتى حتى بات يألف المشهد ويتحكم في مشاعره. لكن مشهداً قصّه على زوجته جعله ينهار تماماً: "كان فيه شخص كبير بين 55 و60 سنة. كان الدم بينزل من كل مكان في جسمه وشبه بيحتضر. قررنا نسيبه لأن ملوش فرص في النجاة، ومكنش فيه سراير ولا تروللي (نقّالة) فاضية. فرشنا ملاية وحطيناه على الأرض. بعد شوية كان فيه حالة لشاب كمان ميؤوس من شفائه وفرشنا عشان نحطه جنب الشخص التاني، وغصب عنّي وبسبب ضيق المساحة، رأس الشاب جات على صدر الراجل. حسيت إنه عايز يقولي إنه مش متحمل الألم عشان أزود وجعه رغم أنه مكنش بيتكلم... بس نظرته… خرجت أعيّط ومكنتش قادر أرجع أكمّل شغل بس مكنش عندي خيار".
حادثة أخرى مؤلمة رواها لزوجته: "حضَرَت أسرة شاب لتتسلم جثته. كان متقطّعاً، ذراعه مفقود، بحثت عن ذراع مقطوع بين الجثث مجهولة الهوية لوضعه مع الجثة. حطيت نفسي مكانهم، كفاية على الأسرة حزنها على وفاته. لو لاحظ أهله اللي اتعرّض له ممكن يجرالهم حاجة".
هذه الذكريات قصّتها هناء لرصيف22 من ذاكرتها، فزوجها توفي بعد الثورة بأشهر.
طريق التحقق مما جرى في تلك الفترة في قصر العيني لم يكن سهلاً أبداً. واجهنا صعوبة في العثور على أشخاص كانوا يعملون هنالك وشهدوا على ما جرى، عدا عوامل أخرى مثل ضعف الذاكرة الذي يكون أحياناً آلية نفسية دفاعية غير واعية لنسيان المحن.
حتى عندما عثرنا على العديد منهم، كان أكثرهم خائفون من الحديث. فعلى الرغم من أن الشهادات تدين نظاماً سابقاً هو نظام الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، إلا أن النظام الحالي بات في الآونة الأخيرة يعتبر ثورة يناير وفكرة تشجيع الثورات تهديداً مباشراً له كونه مداناً على نطاق واسع بالقمع وانتهاك حقوق الإنسان وتقييد الحريات.
حصلنا على عدد من الشهادات التي تساعد في رسم صورة أقرب لما وقع في قصر العيني خلال 18 يوماً، من 28 كانون الثاني/ يناير وحتى تنحي مبارك في 11 شباط/ فبراير 2011. اشترط جميع أصحابها استخدام أسماء مستعارة وتجنّب عرض أية بيانات أو معلومات قد تكشف عن هوياتهم أو تُعرِّضهم للخطر، وتعهدنا لهم بذلك.
"أول حالة من الميدان"
كان صعباً تحديد تاريخ دخول أوّل حالة من الميدان إلى قصر العيني. أكدت لنا أربعة مصادرة مختلفة، متظاهر ومصاب واثنان من العاملين في القصر، أن المستشفى لم يستقبل حالات في أول ثلاثة أيام من محاولة قوات الأمن اقتحام ميدان التحرير من اتجاه القصر، وكانت تتمركز قربه حيث توجد مبانيَ مهمة مثل مقر مجلس الشعب.
ومما زاد صعوبة الأمر أن القصر يضمّ أقساماً عدّة أكثرها تعاملاً مع المصابين كان قسما الطوارئ والاستقبال، ولكل منهما عناية خاصة. كما يضم القصر عدداً كبيراً من الأقسام الأخرى مثل الباطنة والرمد وأمراض القلب ولكل منها رعايتها الخاصة أيضاً. وهنالك أيضاً قصر العيني الفرنساوي، التوأم الذي يقدّم خدمة مميزة بمقابل أكبر، وهو ملاصق لقصر العيني العام.
"في وقت معيَّن، بقينا مضطرين نشوف مين اللي احتمال أكبر يعيش عشان نشتغل عليه ونحاول ننقذه واللي فُرصه أقل حطيناه ‘يخلّص’ (يموت) على جنب"... مشاهدات عن وضع ضحايا العنف الأمني في مستشفى قصر العيني إبان ثورة 25 يناير
أُصيب وديع عابد* (44 عاماً) ليلة 25 كانون الثاني/ يناير بخرطوش في الوجه. كانت حالته حرجة للغاية ورغم ذلك نُقل إلى معهد ناصر البعيد، بسبب إغلاق الطريق في اتجاه قصر العيني، حسبما قال لرصيف22، مؤكداً عدم دخول مصابين إلى القصر قبل هروب الشرطة. وبعد التنقل بين عدد من المستشفيات الحكومية، فشلت محاولات علاج العصب البصري لعين وديع اليسرى وفقد القدرة على الإبصار بها تماماً.
أما علاء ظريف* (35 عاماً)، وكان يعمل في أحد أقسام العناية المركّزة في القصر العيني حينذاك، فأكد لرصيف22 أنه كان متواجداً يوم 25 يناير ولم تدخل أيّة حالة، موضحاً أن أول حالة دخلت مكان عمله كانت في يوم 28 وكانت "لشاب ثلاثيني مصاب بخرطوش في الصدر اخترق رئته وقلبه… وعقب تدخلات جراحية ومحاولات استمرت نحو عشرة أيام، فارق الحياة"، مستدركاً: "كان جاي خلصان (ميّت) تقريباً".
أحمد عادل* الذي كان بعمر الـ19 سنة وقت مشاركته في التظاهرات، منضوياً في إطار حركة "6 إبريل"، أوضح لرصيف22 أن "جميع الأحزاب والحركات اللي دعت للمظاهرات كانت بتحذّر الناس بتوعها من الذهاب للمستشفيات لو اتصابوا. كنّا متوقعين عنف الشرطة والإصابات. وكان فيه قناعة بأن المستشفيات هتكون أسهل مكان يتقبض على المتظاهرين فيه". وشدد على أن مَن لجأوا إلى المستشفيات "كانوا إما ناس عادية معندهاش خبرة (بانتهاكات الأمن) أو أشخاص فاقدين الوعي أو إصابتهم خطيرة مفيش فرصة لإنقاذهم إلا في مستشفى".
وروى محمود باهر*، الممرض الذي شارك في التظاهرات في يومها الأول وانضم منذ اللحظات الأولى إلى المستشفى الميداني الذي أقيم في "التحرير"، بجانب عمله في قصر العيني، لرصيف22، أنه كان شاهداً على هروب أحد المتظاهرين المصابين "خشية التعرض للاعتقال" عقب وضعه داخل إسعاف تمهيداً لنقله إلى أحد المستشفيات، رغم أنه كان "في حالة سيئة للغاية".
ومع اعتداء قوات الأمن على المتظاهرين يوم 25 يناير، قدمت مجموعة من الأطباء والممرضين إلى ميدان التحرير لتطبيب المصابين بحال تعذّر نقلهم إلى مستشفى قريب، ثم تطور عملهم مع ازدياد العنف إلى نصب خيمة كبيرة اعتُمدت كمستشفى ميداني رئيسي وسط الميدان، إضافة إلى مجموعة مستشفيات ميدانية فرعية في جميع المداخل المؤدية إلى الميدان، استمرّ عملها حتى توقف العنف.
وذكر المحامي والحقوقي جمال عيد لرصيف22 أنه تم تطبيبه في مدخل إحدى العمارات القريبة من مجلة روز اليوسف بعد أن أصابته قنبلة غاز في ظهره يوم 28، ولم يذهب إلى القصر.
في قصر العيني الفرنساوي أيضاً، أكد لرصيف22 شادي أشرف*، أحد أفراد طاقم التمريض حينذاك، أن "أوّل حالة من الميدان اشتغلنا عليها في العناية المركزة كانت يوم 28 وكانت حالة اختناق مش طلق ناري"، مشيراً إلى أنها كانت لشاب صغير تحسّنت حالته في اليوم التالي تقريباً. وأضاف: "لم يمهلنا ضغط الحالات. خلال دقائق معدودة كانت العناية ممتلئة بحالات ضرب الخرطوش وليس الرصاص الحي"، لافتاً إلى أنه لم يتعامل مع حالات مصابة بطلق ناري في العين لكنّ زملائه في قصر العيني قصّوا عليه قصصاً عن ذلك.
يدعم القول إن القصر لم يستقبل أيّة حالات قبل يوم 28 ما صرّح به أيمن صلاح، رئيس قسم الحوادث في مستشفيات قصر العيني إبّان الأحداث، في تقرير نشره موقع "اليوم السابع"، بمناسبة الذكرى الأولى للثورة، عام 2012. قال إنه "لم تكن هنالك استعدادات للطوارئ في قصر العيني خلال يوم الجمعة (جمعة الغضب) كيوم عطلة وأيضاً لأن الأوضاع كانت عاديه والأمور تمر بشكل طبيعي"، خاصةً أن التظاهرات كانت سلمية.
"اللي جاي بطنه كلها مفتوحة من كتر الخرطوش اللي جه فيها، أو دراعه مقطوع. شفت مثلاً واحد نص وشه طاير (غير موجود)... حاجات وكمية دم وطلقات مش ممكن تشوفيها غير في حرب مش في بلد عادي"
وأضاف صلاح أن توافد المصابين "بدأ" تقريباً في حدود الساعة الثالثة بعد ظهر يوم 28 وكانت إصابات بسيطة أو اختناق، مشيراً إلى أنه نحو الساعة الخامسة وصل عدد من المصابين بالخرطوش، ومنذ الساعة الثامنة توالت الإصابات بطلق ناري وقد بلغت نحو 70 مصاباً بطلق ناري خلال ساعة واحدة، من التاسعة إلى العاشرة مساءً، مضيفاً أن هذه الإصابات استمرت حتى الثانية فجراً لتكون حصيلة المصابين في تلك الليلة أكثر من 300 شخص، بالإضافة إلى 26 شخصاً كانوا قد توفوا لدى وصولهم إلى القصر العيني قبل تعامل الفرق الطبية معهم.
وأصدرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان كتيّباً إلكترونياً وثائقياً بعنوان "ضوء في درب الحرية" أحصت فيه سقوط 842 قتيلاً خلال 18 يوماً، مُفصلّةً أسباب وأماكن وفاة عدد منهم (673 قضوا بطلق ناري، و45 بالاختناق، وتسعة بالدهس)، عدا عن 31 بقوا "مجهولي الهوية". أما المصابين، فقدّرت عددهم بـ6500 مرجحةً أن العدد الحقيقي "أكبر".
ويصف الكتيب الوثائقي "جمعة الغضب" بأنه "أكثر الأيام دموية خلال أيام الثورة"، موضحاً أنه شهد استشهاد 551 شخصاً.
أما منظمة العفو الدولية، فنقلت عن وزارة الصحة والسكان المصرية أن عدد القتلى "لا يقل عن 840 شخصاً" وعدد المصابين "لا يقل عن 6467"، وفق تقرير "مصر تنتفض… أعمال القتل والاعتقال والتعذيب خلال ثورة 25 يناير" الصادر في أيار/ مايو عام 2011.
وتباينت تقديرات المجلس القومي لرعاية أسر الشهداء والمصابين، وفق المنشور في صحف محلية، لكنها دارت في فلك نحو 800 قتيل و5000 مصاب. حاول رصيف22 التواصل مع رئيس المجلس والمتحدث باسمه لكن هواتفهما كانت غير متاحة طوال الوقت.
وروى باهر أن الشرطة حاصرت قصر العيني يوم 27 وحاولت عصر يوم 28 دخول المكان والقبض على مصابين، وأقرّ في الوقت نفسه أن بعض المتظاهرين كانوا يحتمون في المكان بعد مطاردة الأمن لهم.
"خارجين من حرب"
اتفق جميع المتحدثين لرصيف22 على أن الوضع داخل قصر العيني اعتباراً من يوم 28 كان استثنائياً ومروّعاً. أكد جمال عيد أن قصر العيني كان في صدارة أربعة من مزودي الرعاية الصحية في العاصمة كانوا الأكثر استقبالاً للمصابين نظراً لقربهم من ميدان التحرير ولتجهيزاتهم، ومن بعده مستشفى أحمد ماهر، ثم المستشفى القبطي في رمسيس ومستشفى المنيرة العام في منطقة السيدة زينب.
بشكل منفصل، وصف ثلاثة من المصادر الوضع في قصر العيني بـ"ساحة حرب". قالت هناء إن زوجها أخبرها أن مظهر الضحايا بدا منه أنهم "خارجين من ساحة حرب مش من تظاهرات سلمية".
وقال محمود باهر: "كان الوضع استثنائياً. كنت تشم الخوف في الجو. عمرنا ما شفنا ناس مضروبة بالرصاص بالكمية دي… دم في كل مكان، ناس بتنزف لحد ما تموت"، معدداً الحالات التي تعامل معها داخل القصر بقوله: "اللي جاي بطنه كلها مفتوحة من كتر الخرطوش اللي جه فيها أو دراعه مقطوع. شفت مثلاً واحد نص وشه طاير (غير موجود)... حاجات وكمية دم وطلقات مش ممكن تشوفيها غير في حرب مش في بلد عادي".
وأخبرنا رياض إبراهيم* الذي كان يعمل في مستشفى خاص شهير في منطقة مصر الجديدة حينذاك أن رفاقه الذين كانوا يعملون في قصر العيني والمستشفيات الميدانية حينذاك رووا له قصصاً "لا تستطيع أيّة كلمات وصفها… حالات مشافوش ولا هيشوفوا زيّها… إصابات حروب".
وأوضح علاء ظريف أن غالبية الحالات التي تعامل معها كانت حالات اختناق شديد أدى إلى خفض نسب الأكسجين في الجسم، وخرطوش، مضيفاً أن هنالك حالات أخرى منها "نزيف في المخ نتيجة للتدافع خلال محاولات الهروب من الأمن" و"حالات اتوفت وفشلنا في إنقاذها". ولفت إلى أنه وصلهم مصابون من الشرطة التي وكانت غالباً ناتجة عن "الرشق بالحجارة والأشياء المعدنية" و"بعضها كان خطيراً".
كما ذكر أنه نتيجة ضغط الحالات على أقسام الاستقبال والطوارئ "كان ناس منّا بينزلوا يساعدوا معاهم"، معتبراً أن "حالات الكسور والبتر كانت أبسط إصابات شفناها من الميدان".
وقال جمال عيد: "في نهاية يوم 28، أثناء مروري على القصر العيني عائداً باتجاه الميدان، سمعت ممرضين يصرخون بأنهم لا يستطيعون استيعاب القدر الكبير من المصابين بالرصاص… كانوا يقولون: ‘مبقيناش قادرين نستوعب حالات تاني’".
كثيرون من المصابين كانوا غائبين عن الوعي أو في حالة لا يقدرون معها على النطق، تؤكد المصادر التي تحدثت لرصيف22 وكانت شاهدة على ما جرى في قصر العيني.
وقال باهر إنه من الصعب حتى محاولة استدعاء تلك اللحظات، مؤكداً أن ما لا يستطيع نسيانه "تلك النظرة في أعين الجميع لحظات الاحتضار… نظرة متشابهة لدرجة التطابق، شعور بالفخر بالذات ممزوج بالخوف من الموت والثقة أو الاطمئنان للاحتضار بين أيدي أشخاص يثقون بتعاطفهم معهم".
وعن الاضطرار للتخلي عن بعض المصابين لكثرة الحالات، أوضح باهر: "مكنش كدا بالضبط. زي القاعدة في أي ‘كارثة خارجية’ أو ‘جائحة’، ابتدينا نشتغل بالحالات حسب الأولوية، وللأسف كان في حالات بتموت قبل ما يجي عليها الدور بس مكنش في حل تاني لتثبيت الوضع وتقليل الخسائر".
ونقل عابد عن رفاقه من مصابي الثورة أنهم أخبروه قصصاً عن نزول العديد من المصابين من على سرير العمليات لإفساح المجال أمام العاملين الصحيين لإنقاذ مصابين آخرين، حين كانوا أكثر قدرة على تحمّل الألم.
مزاعم خطيرة
في طريقنا لرصد الوضع في المستشفيات الحكومية إبان الثورة، توصلنا إلى مزاعم خطيرة. قال شادي أشرف إن مدير المستشفى الفرنساوي أصدر أوامر بعدم استقبال أي مرضى إلا الحالات الحرجة فقط نظراً لضغط الحالات الواصلة من الميدان والتظاهرات، مشيراً إلى نقل جميع المرضى من أصحاب الحالات المستقرة ممَّن كانوا في كافة أقسام المستشفى حينذاك إلى مستشفيات أبعد لتوفير الأسرّة.
لكنه عاد ليوضح أن التعليمات تغيّرت بعد كثرة الإصابات في صفوف أفراد الجيش والشرطة ليتم إفراغ العناية المركزة لأجلهم. وأوضح: "من الحاجات اللي كانت مزعلانا كلّنا (الفرق الطبية) أنه كانت لدينا حالات خطيرة مصابة مثلاً بغيبوبة وتم إخراجها على الرغم من أنها لم تكن تحتمل مجرد نقلها من مستشفى إلى آخر، عشان في مصابين من الشرطة والعساكر جايين".
لم يستطع أشرف الجزم بما إذا كانت أيّة من الحالات توفيت خلال نقلها. لكنه لفت إلى أن عدداً من أطباء قصر العيني الفرنساوي وأطقم تمريضه قرروا في حينه الانتقال بمستلزماتهم الطبية إلى الميدان للمساعدة في تطبيب الجرحى.
وروى رياض إبراهيم لرصيف22 أن المستشفى الخاص الذي كان يعمل فيه ويقع في منطقة مصر الجديدة أصدر قراراً بمنع دخول أي مصاب بطلق ناري أياً كانت خطورة الحالة، موضحاً أن الكثيرين رُفض دخولهم بعد وصولهم مصابين بطلق ناري في الصدر أو البطن.
لم يوضح إبراهيم إذا كان موقف المستشفى نتيجة توجيه أمني في مسعى ربما إلى حصر ضحايا العنف الأمني في المستشفيات الحكومية، أو كان ناتجاً عن تخوف هذه المستشفيات الخاصة من "المسؤولية"، إذ يُلزم القانون المستشفيات بالإبلاغ عن أي حالة إصابة و/ أو وفاة فيها "شُبهة جنائية".
ولفت باهر أيضاً إلى أن عدداً من المستشفيات الخاصة رفضت استقبال مصابي التظاهرات "للبعد عن وجع الدماغ" ولأن "الأمن كان بيهاجم مستشفيات عشان ياخد مصابين منها"، في الأيام الأولى، قبل اختفاء الشرطة. ويفسّر رفض بعض المستشفيات الخاصة، إذا كان دقيقاً، الضغط الكبير على المستشفيات الحكومية لا سيما قصر العيني.
وقال أحمد عادل: "لحد يوم 28، كانت المستشفيات عامة وخاصة تحت سيطرة الأمن. كان بيتم وضع أمناء شرطة على الأماكن اللي فيها متظاهرين مصابين، وفي ناس اتّاخدت (قُبض عليها) من الإسعاف ومن المستشفيات حتى قبل علاجها".
وذكر وديع عابد أن أحد رفاقه من مصابي الثورة أكد له أنه نُقل إلى مستشفى الهلال الأحمر أولاً وأن أحد الأطباء حذّره من أن الأمن قادم للقبض عليه وساعده على الهروب، واستقر به الحال معه في معهد ناصر. ويشار إلى أن "الهلال" سبق أن نفى اتهامات وُجّهت له بـ"تسليم المصابين للأمن" عام 2011.
وأكد عابد أنه تم تعيين أمين شرطة لحراسته لدى دخوله معهد ناصر: "كان هنالك أمين شرطة مع كل مصاب، ومع زيادة عدد المصابين في اليومين التاليين بات هنالك أمين شرطة على كل غرفة أو عنبر يضم مصابين في الأحداث". كان أمين الشرطة يرافق المصاب كما ظلّه، "حتى داخل الحمام".
"مرة سألت أمين الشرطة: ‘إنتو هنا ليه؟’. قال لي: ‘والله أنا معرفش أنا بنفّذ الأوامر وهفضل معاك لغاية لما الليلة دي تخلص وكل واحد ياخذ حقّه’"، استطرد.
وتحدث مصدران عن رؤية مصاب واحد على الأقل وقد تم تكبيله في بعض المستشفيات بينما كان يتلقى العلاج، تمهيداً لاعتقاله. ولم نتمكن من التحقق من هذا الادعاء الذي نفاه عابد.
وقال جمال عيد إنه لم يسمع بذلك ولا بامتناع مستشفيات خاصة عن استقبال المصابين.
تعاطُف الفرق الطبية والضريبة المضاعفة
وجه شبه آخر بين أزمة كورونا الحالية في مصر وما حدث إبان ثورة يناير، لفت إليه أشرف: تتحمّل الفرق الطبية ضريبة كبرى. قال: "كنا بننضرب أكتر ما بنشتغل. كل شوية خناقات من أهل المرضى. عدم وجود الأمن في تلك الفترة جعلنا مقسمين بين حماية المستشفيات وإنقاذ المصابين والتعامل مع الأهل الغاضبين الذين أعذرهم بالمناسبة".
كما تحدث عن حصول نقص في المستلزمات نتيجة كثرة المرضى كـ"عبء إضافي" عليهم. موضحاً أنه "بعد أسبوع من الأحداث، حصل عندنا نقص في المستلزمات مثل القطن والمحاليل. مكنّاش عارفين نتصرف، حاولنا ساعات نعمل محاليل تعويضية من مكونات مختلفة لكن في مرضى اتوفوا بسبب نقص المحاليل… من ثلاث لأربع حالات اتوفوا في قصر العيني الفرنساوي حقيقي بسبب كدا".
وأوضح باهر أن عدم وجود مواصلات وقطع الاتصالات أعاق عملهم كثيراً، وأن غالبيتهم قضوا الأيام الأولى بشكل متواصل في مقار عملهم. وروى أن المستشفى الميداني الذي كان يطبب فيه المصابين تعرض لهجوم من عساكر الأمن المركزي في إحدى الليالي التي سبقت "موقعة الجمل"، مضيفاً: "استقبلنا نحو 15 مصاباً بخرطوش في أماكن متفرقة. وبينما كنّا نحاول وقف نزيفهم تعرّضنا جميعاً للضرب، مصابين وأطباء، رغم ارتدائنا المعاطف البيضاء. أحد الأطباء أصيب بكسر في ذراعه. لا أعرف إنْ كان أحد المصابين توفي، لكن حالاتهم كانت بالفعل حرجة".
وأُطلق مصطلح "موقعة الجمل" على هجوم مجموعة من البلطجية المحسوبين على الحزب الوطني الحاكم حينذاك، وهم يمتطون جِمالاً وخيولاً وحميراً، ومعهم أسلحة بيضاء، على المتظاهرين في ميدان التحرير يومي 2 و3 شباط/ فبراير بغرض ترويعهم وفضّ تجمّعهم.
واتفق عيد مع فكرة أن الفرق الطبية كانت ضمن أكثر الفئات التي عانت من التعنيف والمضايقات إبّان الـ18 يوماً، بسبب انقطاع الاتصالات وتوقف المواصلات والاستهداف في بعض أحيان كجزء من "شباب الثورة".
ويروي أشرف حكاية كان شاهداً عليها، وذكرها وهو يضحك بينما سبّبت له في حينها رعباً: "ركبنا الميكروباص (سيارة أجرة) أنا وصديقي أحمد. كان ملتحياً. أوقفتنا لجنة شعبية من أهالي إحدى المناطق واتهموه بأنه ‘من الناس اللي في التحرير’ وشتموه وحاولوا الاعتداء عليه ولم يتركونا نمرّ إلا بعد أن قام بحلاقة ذقنه في الشارع". يشار إلى أنه كان هناك في الأيام الأولى للثورة - قبل تنحي مبارك - اعتقاد لدى البعض بأن ما يحدث "مخطط تخريبي".
يروي عيد أنه "من واقع ما رصدناه، كانت طواقم التمريض والأطباء وغيرهم من مزودي الرعاية الصحية تتعامل مع المتظاهرين بتعاطف ودعم غير عادي يستحقون التكريم عليه"، متابعاً: "من خلف سور القصر العيني، وقف الممرضون يوزّعون على الناس الكمامات لمواجهة الغاز المسيّل للدموع، ولم يبخلوا بالنصيحة لتفادي الاختناق… أخذت منهم كمامة وساعدتني كثيراً".
*اسم مستعار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.