شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
صفحة من كتاب

صفحة من كتاب "اكتشاف البطء" لـستن نادولني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 26 يناير 202312:14 م

الفصل الثاني- الصبي البالغ عشر سنوات وساحل البحر

ما السبب؟ ربما كان الأمر نوعاً من البرد. يتخشب البشر والحيوانات عندما يرتجفون برداً. أو أن الأمر كان يشبه ما يحدث لأهالي إنغ مِنغ الجوعى. يتحرك على دفعات، إذن: إن غذاء خاصاً ما ينقصه. عليه أن يعرف ما هو، ويأكله. عندما فكر جون في ذلك، كان يجلس أعلى الشجرة، بجانب الطريق المؤدي إلى بارتني. سطعت الشمس على مداخن سبيلسبي، وكانت ساعة كنيسة سانت جيمس، المتأخرة أيضاً، تشير إلى الرابعة عصراً. الحيوانات الضخمة، قال جون لنفسه، تسير أبطأ من الفئران أو الزنابير. قد يكون عملاقاً كامناً. ظاهرياً هو قصير القامة مثل الآخرين، ولكن يجدر به أن يتحرك بحذر حتى لا يدهس أحداً، ويقتله.

هبط من الشجرة ثم صعد إليها ثانية. إنه يسير ببطء فعلاً: امتدت اليد إلى الغصن ووجدت شيئاً تستند عليه. يجب على عينه- الآن- أن تكون قد وجدت الغصن التالي. ماذا تفعل العين؟ لقد ظلت لدى اليد. السبب هو النظر إذن. كان خبيراً بهذه الشجرة، رغم ذلك لم يكن يتسلقها على نحو أسرع. لا تستجيب عينه للاستعجال.

سدد نظرة ثانية إلى الغصن المتفرع كالشوكة. الرابعة والربع. لديه كل وقت العالم. لا أحد يبحث عنه، شيرارد على أقصى تقدير، وهو لن يجده. صباح اليوم العربة التي تجرها الخيل! نافدي الصبر وجه له الإخوة نظرة متحجرة، وكرهوا أن يكونوا إخوته. كان جون يعلم أنه يبدو غريباً؛ عندما يكون متعجلاً. على الأقل بسبب العينين المفتوحتين على اتساعهما. بالنسبة إليه قد يتحول مقبض الباب فجأة إلى شعاع في عجلة أو إلى ذيل حصان. اللسان في زاوية الفم، الجبين مشدود، والأنفاس لاهثة، والآخرون يقولون: "ها هو يتهجى من جديد!"، هكذا كانوا يطلقون على حركاته. كان الأب نفسه هو الذي أطلق عليه ذلك.

صدرت مؤخراً رواية "اكتشاف البطء" لستن نادولني عن دار أطلس للنشر والتوزيع التي نقرأ فيها سيرة البحار الإنكليزي، جون فرانكلين، مستكشف القطب الشمالي

ببطء شديد كان يسدد نظرته. لو كان أعمى، لنظر على نحو أفضل. خطرت له فكرة! هبط من الشجرة مرة أخرى، ورقد على ظهره، وراح يدرس شجرة الدردار، ويحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب، من أسفل إلى أعلى، كل غصن، وكل ما يمكن الاستناد عليه. ثم ربط جورباً حول وجهه، وراح يتحسس الغصن الأسفل، وتحركت أطرافه بأوامر من رأسه، وفي الوقت نفسه أخذ يعد بصوت عال. كانت الطريقة جيدة، لكنها خطيرة إلى حد ما. ما زال لا يتحكم في شجرته، وما زال يقع في أخطاء. انتوى أن يصبح سريعاً إلى درجة أن فمه لن يستطيع أن يواكب العد.

مرت خمس ساعات بعد الظهيرة. جلس لاهثاً يتصبب عرقاً على الغصن المتفرع، ثم أزاح الجورب إلى أعلى في اتجاه الجبهة. لا تضيع الوقت، عليك أن تلتقط الأنفاس فحسب! عن قريب سيغدو أسرع رجل في العالم، لكنه سيخدع الآخرين، ويمثل أن لا شيء تغير. ظاهرياً سيسمع خاملاً كلام الآخرين، وسيتحدث بصعوبة، وسيتهجى المشي، وسيصل متأخراً في كل مكان. ثم يُقام عرض علني: "لا أحد أسرع من جون فرانكلين". سيجعلهم ينصبون خيمة في سوق الخيل في هورنكاسل. وسيأتون كلهم حتى يضحكوا عليه من القلب: آل باركر من سبيلسبي، وآل تنيسون من ماركت ريزن، والصيدلي ذو الوجه الحامض فلندرس من دونينغتون، وآل كراكروفت. كلهم سيأتون بين عشية وضحاها! سيعرض لهم أولاً كيف أن بمقدوره أن يتابع أسرع المتحدثين، حتى إذا استخدموا تعبيرات مهجورة تماماً، وسيجيب بسرعة هائلة؛ فلا يفهم أي شخص شيئاً. سيتلاعب بالكرات وأوراق اللعب إلى حد إبهار الجميع. استحضر جون الأغصان مرة أخرى في ذهنه، ثم تسلقها هابطاً. لكن قدمه لم تجد ما تستند عليه في الغصن الأخير، فسقط. نزع الغمامة عن عينيه: دائماً الركبة اليمنى!

ظُهر اليوم تحدث الأب عن طاغية في فرنسا أُسقِط، وفقد رأسه. يفهم جون ما يقوله الأب جيداً؛ عندما يُكثر من احتساء "لوثر وكالفين". مشيته أيضاً تختلف عندئذ، كأنه يخشى أن تهبط الأرض فجأة، أو أن يتغير الطقس. كان على جون أن يبحث ليعرف أي طاغية يقصده. عندما يفهم كلمة، كان يريد أن يعرف أيضاً معناها. "لوثر وكالفين" هو خليط من البيرة وشراب "جنيفر".

نهض. يريد الآن أن يتدرب على لعب الكرة. يريد خلال ساعة أن يرمي الكرة في اتجاه الجدار ثم يلقفها. لكن بعد ساعة لم يكن قد لقف الكرة مرة واحدة، بل نال العديد من الضربات، وقرر قرارات جديدة تماماً. جلس القرفصاء على عتبة منزل آل فرانكلين، وراح يجهد نفسه في التفكير.

كاد ينجح في التقاط الكرة؛ إذ إنه اخترع وسيلة تساعده: النظرة الثابتة. لم يكن يتابع الكرة، وهي تصعد ثم تهبط بسرعة، بل كان يركز بصره على نقطة معينة في السور. كان يعلم: لن يلقف الكرة إذا تابعها بعينيه، لن يلقفها إلا إذا تربص بها. في بعض المرات كادت الكرة تقع في الفخ، ثم تتالت المصائب. في البداية سمع كلمة "فجوة في الأسنان"، هكذا أمسى يُسمى منذ الأمس. لقد وصل توم مع الآخرين. كانوا يريدون الفرجة فقط. ثم لعبة الابتسام. عندما يبتسم المرء لجون، يجد نفسه يرد بابتسامة لا يستطيع كبتها. حتى إذا شدوا شعره عندئذ، وركلوه على قصبة ساقه، فإنه لم يكن يستطيع التخلص من الابتسامة بسرعة. كان توم يستمتع بذلك، ولم يقدر شيرارد على التدخل. بعد ذلك سرقوا الكرة.

كان الضجيج ممنوعاً في الممر المسقوف بجانب بيت آل فرانكلين. يستدعي الصراخ الأم هانا التي كانت قلقة من مزاج الأب. انتبه الخصوم إلى أنها تكاد تسير وتتحدث مثل جون. هي أيضاً لم يكن بمقدورها أن تغضب، وهذا ما جعل خصومها وقحين. طالبت الأم بالكرة، فَقُذفت في اتجاهها، ولكن بقوة أعجزتها عن التقاطها. كبر الفتيان، وأمسوا لا يطيعون امرأة تتسم بالبطء. والآن تدخل الأب. يسب مَن؟ الأم. ويضرب مَن؟ جون. ثم منع شيرارد المذهول من أن يجيء مرة أخرى إلى هنا. هكذا سارت الأمور.

النظرة الثابتة صالحة للتأمل. في البداية لم ير جون سوى قلب ساحة السوق، وبعد ذلك راحت أشياء عديدة تنضم إلى هذا القلب: دَرج، ومنازل، وعربات تجرها الخيل. كان يرى كل شيء بنظرة شاملة دون أن تُسرع عيناه، أو تحضه على فعل شيء. وفي الوقت نفسه تجمعت في رأسه أجزاء التفسير الكبير لأصل كل الشرور مثل صورة ملونة، صورة فيها درج ومنازل وفي الخلفية الأفق.

يعرفونه هنا، ويعلمون مقدار الجهد الذي يجب عليه أن يبذله. يود أن يكون بين غرباء، قد يكونون مثله. لا بد أنهم موجودون، ربما في مكان ناء للغاية. هناك سيكون بمقدوره أن يتعلم السرعة على نحو أفضل. إلى ذلك، فهو يريد أن يرى البحر. لن يكون بإمكانه هنا أن يصبح شيئاً. حزم جون أمره: في ليلة هذا اليوم! لا تستطيع الأم حمايته، ولا هو يستطيع حمايتها أيضاً، إنه بالأحرى مصدر هَم لها. يهمس جون:

- ليست الأمور سهلة معي. سأتغير، وسيختلف كل شيء عندئذ!

عليه أن يسافر، في اتجاه الشرق، إلى الساحل، مِن هناك تهب الرياح. بدأ منذ تلك اللحظة يشعر بالسرور.

يوماً ما سيعود مثل تومي في الكتاب، سريع الحركة وبملابس فاخرة. سيدخل الكنيسة، وفي وسط القداس سيصيح بصوت عال: "توقفوا!". كل الذين أهانوه أو أهانوا أمه سيهجرون القرية من تلقاء أنفسهم، وسيسقط الأب ويفقد رأسه.

في الفجر تسلل من البيت. لم يمر بساحة السوق، بل سار عبر الحظائر، على المراعي مباشرة. سيبحثون عنه، عليه إذن أن يفكر في الآثار التي يتركها. عبر إنغ منغ. لم يرد إيقاظ شيرارد، إنه فقير، وسيرغب في الذهاب معه، لكنه أصغر من أن يعمل على سفينة. وصل جون إلى حظائر هاندليبي. كان الجو بارداً ورطباً، وما زال الضوء ضعيفاً. كان يتطلع إلى العيش في الغُربة، وكانت خططه مُحكمة.

في قناة نحيلة سار حتى وصل إلى غدير "ليمن". سيظنون أنه سار في اتجاه هورنكاسل، لا إلى البحر. سار في قوس واسع ماراً بسبيلسبي من ناحية الشمال. عندما أشرقت الشمس، كان يجر قدميه عبر بقعة ضحلة من نهر ستيبينغ، حاملاً حذاءه في يده. كان في تلك اللحظة قد ابتعد عن القرية مسافة كبيرة ناحية الشرق. قد يقابل الراعي في الهضبة، لكنه نؤوم الضحى، فهو يرى أن الفجر لحيوانات الغابة. لدى الراعي فائض من الوقت، وهو يكثر من التفكير، في معظم الأحيان بقبضتين مضمومتين. كان جون يحبه، لكن من الأفضل ألا يقابله اليوم. قد يتدخل في أمره، فالشخص البالغ لديه دائماً رأي يختلف عن رأي الطفل فيما يتعلق بالهرب، حتى إنْ كان مجرد راعٍ ينام طويلاً، وشخصاً متمرداً.

بمشقة اخترق جون غابات ومراعي، متجنباً كل الطرق المطروقة، زاحفاً عبر الأسلاك والسياجات. عندما كان يجتاز الغابات المعتمة، ثم يغادرها مخترقاً الشجيرات، كانت الشمس تمد أشعتها تجاهه، بالضوء بدايةً، ثم بالدفء المتزايد. نالت ساقاه خدوشاً من الأشواك. كان سعيداً كما لم يكن من قبل، فهو الآن معتمد على نفسه فحسب. من بعيد تناهت إلى سمعه عبر سيقان الشجر طلقات رصاص لمجموعة من الصيادين. سار في قوس ناحية الشمال عبر المراعي؛ إذ لم يكن يريد أن يصادف حيوانات ضارية.

كان يبحث عن مكان لا ينظر فيه أحدٌ إليه على أنه بطيء أكثر من اللازم. لكن هذا المكان قد يكون نائياً.

لم يكن في جيبه سوى شلن واحد، هدية من ماثيو البحّار. سيحصل مقابله في حالة الطوارئ على قطعة لحم وسلطة. بإمكان المرء أيضاً، مقابل شلن، أن يسافر بضعة أميال بعربة البريد؛ إذا ركب خارجها، أي إذا جلس على سطحها. يجب عليه عندئذ أن يتشبث جيداً بالعربة، وأن يخفض رأسه عند مروره تحت البوابات المنخفضة. البحر والسفن أفضل دائماً.

ربما يمكن الاستعانة به كملاّح، لكن على الآخرين أن يثقوا به أيضاً. قبل شهور ضلوا طريقهم خلال تجوالهم في الغابة. وحده، جون، هو الذي راقب التغييرات التي حدثت شيئاً فشيئاً، وضع الشمس، ميل الأرض. كان يعلم كيف يرجعون. نقش رسومات على تربة الغابة، لكنهم لم يريدوا مطلقاً أن ينظروا إليها. اتخذوا قرارات متعجلة، وبالسرعة نفسها تخلوا عن تنفيذها. ليس بمقدوره العودة وحده، لن يتركوه. مهموماً راح يسير خلف ملوك فناء المدرسة الصغار، الذين كانوا يدينون بالفضل في مكانتهم إلى سرعتهم، لكنهم لا يعرفون الآن كيف يسيرون. لو لم يقابلوا راعي الأغنام الإسكتلندي؛ لقضوا ليلتهم في العراء.

أضحت الشمس في كبد السماء. بعيداً، في الناحية الشمالية من الهضبة، يقف قطيع من الخراف. قنوات المياه تتكاثر، والغابات تقل. سدد نظرة بعيدة إلى السهول، وتعرف إلى طواحين هواء، وطرق تحف بها الأشجار، وبيوت للسادة. كانت الريح منعشة، وأسراب النوارس تزداد ضخامة. متأنياً راح يجتاز سياجاً وراء الآخر. أتت أبقار تتفرج عليه وهي تومئ وتتأرجح.

استلقى خلف سياج من الشجيرات. بالنار الحمراء ملأت الشمس عينيه خلف الجفنين المسدلين. قال لنفسه إن شيرارد سيشعر بالخيانة. فتح عينيه ثانيةً حتى لا يشعر بالحزن.

لو كان المرء يجلس هكذا فحسب، وينظر إلى السهول مثل حجر، قروناً بأكملها؛ ستصبح المراعي غابات، والمستنقعات ستغدو قرى أو حقولاً! لن يوجه له أحد سؤالاً. سيتعرفون إليه إذا تحرك باعتباره إنساناً فحسب.

لم يكن بمقدور المرء هنا، خلف سياج الشجيرات، أن يسمع أي شيء صادر من سكان الأرض، باستثناء صياح بعيد من دجاج وكلاب، وبين الحين والآخر طلقة رصاص. ربما قابل في الغابة قاطع طريق. عندئذ سيفقد الشلن.

وقف جون، وواصل سيره في المرج بين المستنقعات. هبطت الشمس في الأفق، وأصبحت خلف سبيلسبي بمسافة كبيرة. آلمته قدماه، والتصق لسانه بفمه. سار حول قرية. كان عليه أن يسير في قنوات ضحلة تزداد اتساعاً، أو أن يقفز فوقها، ولم يكن جون يجيد القفز. اختفت سياجات الشجيرات. بعد ذلك سار في طريق يؤدي إلى قرية، غير أن كنيستها بدت مثل كنيسة سانت جيمس. أزاح بسهولة من خياله صورة بيت الوالدين وطعام العشاء. رغم الجوع كان يشعر بالسرور؛ لأنهم يجلسون الآن هناك وينتظرون، وهم لا يستطيعون الانتظار، وأنهم كانوا يجمعون الملاحظات التي سيسمعونها إياه، وأنهم لن ينطقوا بها.

كانت القرية تدعى إنغولدملس. غربت الشمس. اختفت فتاة في منزل حاملة أثقالاً على رأسها، دون أن تراه. في تلك اللحظة تعرف جون خلف القرية إلى ما يبحث عنه.

رأى بحراً رمادياً، رصاصياً، متسعاً اتساعاً لا نهائياً، قذراً ومسكوناً بالضباب، كعجين خبز متمدد، يبدو خطيراً بعض الشيء، مثل نجم بعيد عندما يتأمله المرء عن قرب. تنفس جون عميقاً. هرول متعثراً في اتجاه ذلك الشيء المنبسط، بأسرع ما يستطيع. ها هو قد وجد المكان الذي ينشده. كان البحر صديقاً، هذا ما شعر به، حتى إن لم يبدُ جميلاً في تلك اللحظة.

هبط الظلام. بحث جون عن المياه، لكنه لم يجد سوى الطمي والرمال ومجاري المياه الهزيلة الضحلة. كان عليه مواصلة السير. رقد خلف كوخ فيه قارب، وراح يحملق في الأفق المائل إلى السواد حتى نعس. في الليل استيقظ في قلب الضباب، شاعراً بالبرد والجوع. البحر هناك الآن، لقد سمعه. سار في اتجاهه، وهبط بوجهه حتى لم تبق سوى مسافة أصابع بينه وبين الخط الذي تلتقي فيه اليابسة بالبحر. لكنه لم يستطع أن يحدد بدقة موقع هذا الخط. كان يقعد مرة في البحر، وأخرى على اليابسة. دفعه ذلك إلى التفكير. من أين أتت هذه الرمال الكثيرة؟ أين يختفي البحر عند الجزر؟ شعر بالسعادة، ثم راحت أسنانه تصطك ببعضها بعضاً. عندئذ عاد إلى الكوخ وحاول أن ينام.

في الصباح أخذ يتلمس طريقه على طول الساحل، وهو يراقب رذاذ الزبد. كيف يمكنه أن يصعد على سطح سفينة؟ رأى صياداً يصلح قارباً مقلوباً بين الشِباك السوداء ذات الرائحة العفنة. على جون أن يفكر جيداً في السؤال الذي سيطرحه، وأن يتدرب عليه؛ حتى لا يفقد الصيّاد صبره فوراً. من بعيد رأى سفينة. برقت الأشرعة العديدة في شمس الصباح، كان هيكل السفينة مختفياً وراء سطح الماء. لاحظ الرجل نظرة جون، وضيق عينيه، ثم نظر نظرة فاحصة إلى السفينة، وقال: "هذه فرقاطة، رجلُ الحرب". جملة مدهشة بعض الشيء! ثم واصل عمله. تطلع جون إليه، ووجه سؤاله: "كيف يمكنني، من فضلك، الصعود على سطح سفينة؟".

"في هال"، قال الصياد مشيراً بمطرقته نحو الشمال، "أو سكيغنيس في الجنوب، ولكن بكثير من الحظ". نظر إلى جون نظرة سريعة من أعلى إلى أسفل، باهتمام، مثلما أظهرت المطرقة المعلقة في الهواء. ولم تخرج كلمة أخرى من فمه.

تلاعبت الرياح بجون وهو يشق طريقه تجاه الجنوب. سيكون محظوظاً بالتأكيد. إذن إلى سكيغنيس! لم يكد يحول بصره عن الأمواج التي تصل إلى اليابسة بلا توقف. بين الحين والآخر كان يجلس على أحد الحواجز الخشبية التي كان عليها، في هيئتها المتراصة، أن تعوق البحر عن قذف الرمال على الشاطئ. باستمرار كان يرى مجاريَ جديدة من المياه، بركاً وفجوات تنشأ، ثم تتحول بسرعة إلى مساحات ملساء ساطعة. صاحت النوارس منتصرة: "هذا صحيح!"، أو "واصل سيرك فحسب!". الأفضل ألا يشرع في التسول! أن يذهب فوراً إلى سفينة، وهناك سيجد شيئاً يأكله. إذا قبلوه؛ فسيلف حول العالم ثلاث مرات قبل أن يستطيعوا إرساله إلى بيته مرة أخرى. لمعت بيوت سكيغنيس من خلف التلال الرملية. كان واهن القوى، لكنه متفائل. قعد وراح يحدق برهة في الرمال ذات الأضلاع الرقيقة، فسمعت أذناه أجراس المدينة.

لاحظت صاحبة المطعم في سكيغنيس حركات جون فرانكلين، فنظرت في عينيه، وقالت:

- لن يتحرك من مكانه، إنه يكاد يتضور جوعاً.

أفاق جون فوجد نفسه يجلس إلى مائدة عليها مفرش خشن، وأمامه صحن فيه شريحة، تشبه شريحة سميكة من الخبز، لكنها مكونة من قطع اللحم. سُمح له بالاحتفاظ بالشلن. كان طعمها بارداً، مزاً، ومالحاً، وكانت بالنسبة إلى الحلق مثل الأجراس بالنسبة إلى الأذن، ومثل الرمال الناعمة المتموجة إلى العين. ببهجة عظيمة انهمك في الأكل، دون أن يزعجه الذباب النهم. طيلة تناوله الطعام كانت تعلو وجهه ابتسامة. المستقبل أيضاً بدا له ثرياً ولطيفاً، وواضح المعالم مثل الطعام في صحنه. كان في طريقه إلى مناطق غريبة من العالم. سيستقصي أمر السرعة، وسيتعلمها. لقد وجد امرأة منحته طعاماً. لن تكون السفينة المأمولة بعيدة عنه إذن.

"ما اسم هذا؟"، سأل مشيراً بشوكته إلى الصحن.

أجابت صاحبة المطعم:

- هذا طعام تقليدي، زولتسه* من رأس الخنزير، إنها تمنح قوة.

لديه الآن قوة، لكنه لم يجد سفينة بعد. لم يكن محظوظاً في سكيغنيس، باستثناء الطعام. زولتسه نعم، فرقاطة لا. لكن ذلك لن يثبط عزيمته. قريباً منه تقع "غيبرالتر بوينت"**، وهناك تمر سفن عديدة في طريقها إلى خليج "واش". هناك يريد أن يتجول في المنطقة. ربما يكون بمقدوره بناء طوف، وأن يبحر حتى خط انطلاق السفن، سيرونه، ولا بد عندئذٍ أن يأخذوه معهم. تجول في اتجاه الجنوب مبتعداً عن البلدة: غيبرالتر بوينت!

بعد مرور نصف ساعة على الرمال الحارقة استدار جون. غابت المدينة مرة أخرى وسط الضباب والدخان. لكن في مقدمة المدينة كانت هناك نقطة يمكن التعرف إليها بوضوح تام. شخص يقترب بسرعة كبيرة! راح جون يراقب الحركة بقلق. شيئاً فشيئاً كانت النقطة العمودية تستطيل، وتقفز إلى أعلى ثم تهبط. لم يكن هذا إنساناً يسير على قدميه! تعثر جون في سيره المتعجل خلف أحد الأعمدة الخشبية التي تكسر الأمواج، ثم زحف منبطحاً على الأرض حتى وصل إلى المياه، وحاول أن يشق طريقه وسط الرمال. كان يرقد على ظهره، يضرب الأرض بكعبيه ومرفقيه، والبحر يرسل إليه ضرباته الطويلة اللاعقة. كان يأمل في أن يظل تحت سطح المياه حيث لا يظهر سوى أنفه. سمع في تلك اللحظات نباح كلاب تقترب. حبس أنفاسه وحملق بنظرة متحجرة في غيوم السماء، شعر بأن أطرافه تخشبت، كأنه هو كاسر الأمواج. استسلم جون عندما واصلت كلاب الصيد نباحها في أذنه. لقد أمسكوا به. ها هو يرى الخيل أيضاً.

من نهر "ستيبينغ" جاء توماس على حصانه، ومن سكيغنيس أتى الأب مع الكلاب. جذبه توماس من ذراعه، ولم يعلم جون السبب. عندئذ تسلمه الأب، وتتالت الضربات، فوراً، في المكان نفسه، تحت شمس العصر.

بعد ست وثلاثين ساعة من بداية هروبه وجد جون نفسه في طريقه إلى البيت مرة أخرى، جالساً أمام أبيه على حصان لا يتوقف عن الهز والدفع، ومن خلال عينيه المتورمتين راقب الجبال البعيدة، التي كانت تعود معه إلى سبيلسبي كأنها تسخر منه، بينما كانت تعبر به إلى غير رجعة السياجات والجداول والأسوار التي كلفته ساعات لاجتيازها.

لم يعد متفائلاً. لم يعد يريد الانتظار حتى يصبح بالغاً! حُبس في غرفة مع ماء وخبز، حتى يتعلم الدرس، لكنه لم يعد يريد التعلم أيضاً. بلا حراك حملق في البقعة نفسها دائماً، دون أن يرى شيئاً. ضاق تنفسه كأن الهواء طمي. وانغلق جفناه طيلة ساعات، ترك كل شيء يسير مساره. لم يعد يريد أن يغدو سريعاً. على العكس، كان يريد أن يكون بطيئاً حتى الموت. بالتأكيد لم يكن سهلاً أن يموت كمداً دون استخدام وسيلة مساعدة، لكنه سينجح في ذلك. في مواجهة كل المواعيد سيتعمد منذ الآن أن يتأخر، وأن يتخلف حتى يظنوه ميتاً. نهار الآخرين سيكون بالنسبة إليه مجرد ساعة، وساعاتهم محض دقائق. شمسهم تطاردهم في السماء، تسبح في بحر الجنوب، ثم تشرق ثانية في الصين، وتتدحرج فوق آسيا مثل كرة من كرات البولينغ. الناس في القرى يثرثرون ويتململون طيلة نصف ساعة، هذا هو يومهم. بعد ذلك يخرسون وينطفئون، ويجذف القمر قاربه بسرعة عبر القبة السماوية؛ إذ إن الشمس قد عاودت اقترابها لاهثة من الناحية الأخرى. سيصبح أبطأ فأبطأ. تعاقب النهار والليل سيشبه رمشة العين، وسيكون أبدياً؛ لأنهم سيظنونه ميتاً. جنازته! ملأ جون رئته بالهواء، ثم حبس الأنفاس.

استفحل المرض، وآلمه جسده. قذف الجسم خارجاً ما دخله قبل قليل. تشوش الذهن. ساعة سانت جيمس، كان يراها عبر النافذة، لم تعد تعني لجون شيئاً، كيف يمكنه أن يجد علاقة بالساعة مرة أخرى؟ في العاشرة والنصف كانت الساعة تعود إلى العاشرة ثانية، وكل مساء كان كالمساء الذي سبقه. إذا مات الآن، فسيكون الأمر مثلما كان قبل الولادة، كأنه لم يكن.

كان محموماً، كأنه في فرن. وُضِعت له كمادات خردل، وقُطِر في فمه شراب من البوصير وحبوب الكتان، واحتسى فوق ذلك شراب عيدان الشعير. أمر الطبيب الأطفال الآخرين بالابتعاد عنه، وأوصاهم بأكل حبات الكشمش وعنب الأحراج لفعاليتها في مقاومة العدوى. كل ربع ساعة كانت ملعقة من مسحوق بذور القمرية ولحاء الكروتون والراوند المجفف تمر عبر شفتي جون.

لم يكن المرض سبيلاً سيئاً، لكي يكتسب وضوح الرؤية من جديد. عاده الزوار في فراشه: الأب، والجد، ثم العمة إليزا، وأخيراً ماثيو البحّار. كانت الأم موجودة على نحو شبه دائم، صامتة ومضطربة، لكنها لم تكن قط عاجزة، ودائماً تفيض سلاماً، كأنها متأكدة من أن كل شيء سيمر بسلام. كانوا جميعاً يفوقونها، ومع ذلك كانوا في حاجة إليها. الأب ينتصر، وهو دائماً معدوم الفائدة تماماً. كان دائماً في الأعلى، لا سيما عندما يتحدث، حتى إن أراد أن يقول شيئاً لطيفاً: "عما قريب ستذهب إلى المدرسة في لاوث. وهناك ستتعلم قواعد النحو، وستحفظ أشياء أخرى كثيرة". في حماية المرض أخذ جون يدرس كل ما يقع تحت يديه. كان الجد ثقيل السمع، ويحسب كل ألثغ، وكل مَن يغمغم في كلامه، متحدياً له. والخائن هو من يتجرأ ويفهم ما يقوله المُغَمغِم: "بذلك سيعتاد الأمر!". خلال هذه المحاضرة سُمح لجون بأن يشاهد ساعة الجيب. على ميناء الساعة المليء بالزخارف آية من الإنجيل تبدأ بـ"طوبى..."، كان الخط صعباً متداخلاً. خلال ذلك حكى له الجد: إنه هرب من البيت إلى الساحل، عندما كان صبياً. وهو أيضاً أمسكوا به، وأعادوه. انتهت الحكاية فجأة مثلما بدأت. تحسس الجد جبهة جون، ثم انصرف.

صورت العمة إليزا رحلتها إلى سبيلسبي، من "ثيدلثورب أُول سانتس" حيث تعيش، وهي رحلة لم تر فيها شيئاً. رغم ذلك واصلت حديثها، وواصلت، كأن الكلام حبل طائرة ورقية لا ينتهي. من العمة إليزا يمكن أن يتعلم المرء: أن مضمون الحديث السريع لا فائدة منه في معظم الأحيان، مثل السرعة نفسها. أغلق جون عينيه. عندما لاحظت العمة ذلك أخيراً، خرجت من الغرفة بصوت مبالغ في خفوته، شاعرة ببعض الإهانة. في يوم آخر زاره ماثيو. لم يدّعِ مطلقاً أن كل شيء يحدث بسرعة في البحر. كل ما قاله كان: "على المرء في السفينة أن يحسن التسلق، وأن يتعلم أشياء كثيرة عن ظهر قلب". أسنان فك ماثيو السفلي كانت قوية جداً، كان يبدو مثل كلب "بولدوغ" ألماني. كانت نظرته حادة ومحدقة، كان من الواضح دائماً إلى أين ينظر، وماذا يهمه حقاً. أراد ماثيو أن يسمع من جون الكثير، وانتظر صابراً حتى ينتهي من صياغة إجاباته والنطق بها. جون أيضاً كانت لديه أسئلة كثيرة. ثم هبط المساء.

إذا كان أحد يفهم في البحر، فهو يجيد الملاحة. راح جون يردد الكلمة عدة مرات. ومعنى ذلك: النجوم، والأدوات، والتفكير بعناية. أعجبه ذلك. قال: "أريد أن أتعلم قواعد الإبحار الشراعي!".

"لم يكن بمقدور المرء هنا، خلف سياج الشجيرات، أن يسمع أي شيء صادر من سكان الأرض، باستثناء صياح بعيد من دجاج وكلاب، وبين الحين والآخر طلقة رصاص. ربما قابل في الغابة قاطع طريق. عندئذ سيفقد الشلن"

قبل أن ينصرف ماثيو، انحنى على جون حتى اقترب منه تماماً. "سأسافر إلى تيرا أستراليس[1]، سأغيب سنتين. بعد ذلك سأحصل على سفينة خاصة". "تيرا أستراليس، تيرا أستراليس"*** ، راح جون يتدرب على نطق الكلمة.

"لا تهرب مرة أخرى! بإمكانك أن تصبح بحّاراً. لكنك شخص يميل إلى التأمل، عليك إذن أن تصبح ضابطاً، وإلا فستعيش في الجحيم. حاول أن تجتاز المدرسة حتى رجوعي. سأرسل لك كتباً عن الملاحة. وسآخذك كضابط صف في سفينتي".

رجاه جون: "مرة ثانية من فضلك!". وعندما فهم كل شيء بدقة، انتابته فوراً الرغبة في أن يكون سريعاً مرة أخرى.

أعلن الطبيب مزهواً: "الحالة تحسنت كثيراً. الدم الفاسد لا يستطيع مواجهة لحاء الكروتون!".

...

*Sülze "زولتسه"، ويطلق عليها أيضاً "آسبك"، عبارة عن قطع لحم في جيلاتين متماسك، وتقطع شرائح سميكة قبل تقديمها.

** Gibralter Point محمية طبيعية تقع على بحر الشمال، بالقرب من لينكولنشاير في إنكلترا.

 *** terra australis قارة افتراضية ظهرت في الخرائط القديمة، وتعني الكلمة اللاتينية "الأرض الجنوبية". وفكرة وجود تيرا أستراليس تقوم على افتراض وجود قارة جنوبية تقابل قارات الشمال.

....

الغلاف الخلفي للكتاب

ما زال فرانكلين يحيا. إنه أبطأ من الموت...

يرفض جون فرانكلين الاستعجال في إنجاز الأمور، هو الذي ولد بطيئاً! ولكنه يستمد من ضعفه تصميماً وسلاماً داخلياً، متحملاً سخرية الجميع من حوله. ويمضي محدداً أهدافه بدقة بالغة بوتيرته الخاصة حتى يصبح أحد المستكشفين البحريين الأوائل في العالم!

يستعير نادولني من فرانكلين هدوءه حيث تتسم اللغة بالسكون ويتسم الأسلوب بالاتزان حتى في أكثر اللحظات إثارة ما يرفع وتيرة التشويق في جميع فصول الرواية. يمكن تصنيف الرواية على أنها رواية مغامرات، أو رواية تاريخية، أو سيرة ذاتية متخيلة... ولكنها بكل تأكيد رواية عن قوة وصلابة البشر.

تتناول الرواية سيرة البحار الإنكليزي ومستكشف القطب الشمالي جون فرانكلين (1786 – 1847)، لكن الكاتب لم يلتزم تماماً بكافة وقائع السيرة، بل حوّل حياة فرانكلين إلى أمثولة عن البطء ومزاياه.

عاش فرانكلين في "عصر السرعة"، لكنه ظل وفياً لخصاله، ولسمة البطء التي ولد بها، وعرف كيف يحول الضعف إلى قوة، إذ اكتشف أن البطء ليس عيباً دائماً، وأنه لا يعني الخمول أو التلكؤ في كل الأحوال، بل قد يعني التمهل، والتريث، والصبر، والجَلد، والتمعن، والتدبر وقيماً كثيرة أخرى...

بروايته أصابَ نادولني عصب العصر المتعجل القلق وحقق شيئًا يكاد يستحيل تخيله في وقتنا هذا: إعادة تمجيد البطء!

ظهرت الرواية عام 1983 وجعلت صاحبها اسماً شهيراً على المستوى العالمي في غضون عدة سنوات، وأصابت نجاحاً لدى القراء والنقاد في آن واحد. وبيعت من الرواية حتى الآن ملايين النسخ، وترجمت إلى نحو عشرين لغة.

...

ستن نادولني : ولد في التاسع والعشرين من يوليو 1942، ابناً للكاتب بوركهارد نادولني (1905 – 1968) الذي لم يحقق نجاحاً أدبياً قط، والكاتبة إيزابيلا نادولني (1917 – 2004) التي أصابت شهرة كبيرة في مجال الروايات الترفيهية.

درس التاريخ وعلم السياسة، ثم عمل فترة مدرساً للتاريخ، لكنه سرعان ما استقال؛ ليعمل في مجال السينما، وكان ينوي أن يصبح مخرجاً. وعندما شرع في كتابة سيناريو لأحد الأفلام، حصل على منحة فتحت له آفاق الكتابة والأدب. لم يتحقق مشروع فيلمه، لكن نادولني حوّل السيناريو إلى رواية لم تنجح كثيراً، كان عنوانها "اشتراك شهري شامل"، سجل فيها الكاتب انطباعات بطل الرواية، أحد شبان جيل 68 الثائر، الذي اشترى تذكرة شهرية تتيح له السفر بالقطار مدة شهر في كل ربوع ألمانيا.

حقق نادولني النجاح والشهرة؛ عندما قرأ عام 1980 الفصل الخامس من روايته غير المنشورة بَعد، "اكتشاف البطء"، في مسابقة إنغبورغ باخمان الأدبية، ثم نال الجائزة التي بلغت قيمتها آنذاك أربعة عشر ألف مارك ألماني، غير أنه اقتسمها مع كافة المشاركين في المسابقة (سبع وعشرين كاتبة وكاتباً)؛ لأنه رفض فكرة المنافسة الأدبية. ظهرت الرواية عام 1983، وجعلت صاحبها اسماً شهيراً على المستوى العالمي في غضون عدة سنوات، وأصابت نجاحاً لدى القراء والنقاد في آن واحد. وبيعت من الرواية حتى الآن ملايين النسخ، وترجمت إلى نحو عشرين لغة.

تتناول الرواية سيرة البحار الإنكليزي، ومستكشف القطب الشمالي، جون فرانكلين (1786 – 1847)، لكن الكاتب لم يلتزم تماماً بكافة وقائع السيرة، بل حوّل حياة فرانكلين إلى أمثولة عن البطء ومزاياه. عاش فرانكلين في زمن الثورة الصناعية، حيث أصاب هوس السرعة كل شيء، لكنه كان إنساناً بطيئاً منذ مولده، أو كما يقول نادولني في مفتتح الرواية: "بلغ جون فرانكلين العاشرة، ومع ذلك ظل يتسم بالبطء الشديد، حتى إنه لم يستطع أن يلقف كرة".

عاش فرانكلين في "عصر السرعة"، لكنه ظل وفياً لخصاله، ولسمة البطء التي ولد بها، وعرف كيف يحول الضعف إلى قوة؛ إذ اكتشف أن البطء ليس عيباً دائماً، وأنه لا يعني الخمول ولا التلكؤ في كل الأحوال، بل قد يعني التمهل، والتأني، والتريث، والصبر، والجَلد، والتمعن، والتدبر وقيماً كثيرة أخرى.

بروايته أصابَ نادولني عصب الوقت، وكان ذلك سر نجاحها المذهل ألمانياً وعالمياً. وقد أصدر نادولني روايات عديدة بعد ذلك، لكنها لم تحقق له النجاح نفسه، منها: "سليم أو موهبة الخطابة" (1990)، و"إله الوقاحة" (1994)، و"هو أو أنا" (1999)، و"حظ الساحر" (2017).

....

المترجم سمير جريس: درس سمير جريس الألمانية وآدابها في القاهرة وفي ماينتس في ألمانيا. ترجم عن الألمانية ما يزيد عن ثلاثين عملاً من الأعمال الأدبية الحديثة، منها: "عازفة البيانو" لإلفريده يلينك، الحاصلة على جائزة نوبل عام 2004، و"الوعد" لفريدريش دورنمات، و"شتيلر" لماكس فريش، و"صداقة" لتوماس برنهارد، و"دون جوان" للكاتب النمساوي بيتر هاندكه، الحاصل على جائزة نوبل 2019. ألَّف كتاباً عن الكاتب الألماني غونتر غراس (نوبل 1999) بعنوان "غونتر غراس ومواجهة ماضٍ لا يمضي". حصل على جوائز عربية وألمانية تقديراً لترجماته.

...

جميع الحقوق محفوظة لدار أطلس للنشر والتوزيع

الكتاب متوافر على نيل وفرات


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image