شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
صفحة من كتاب

صفحة من كتاب "الحياة الآثمة" لماريز كونديه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 4 يناير 202311:29 ص

لطالما كرهت إيلاييز الريف، تلك الليالي التي لا تنتهي وصخب المطر على الصفيح، وحفلات نباح الكلاب، وتلك البعوضات النهمة لمصّ الدم، العصيّة على دخّان اللحم المدخّن، والجرذان القارضة الشديدة البأس التي يُخرجها أبناؤها من مكامنها في كل الزوايا. وكرهت الريف بخاصةٍ لأنّها تشعر فيه بوجود ليزا أكثر مما تشعر به في أيّ مكانٍ آخر. إذ تنتقم ليلاً غريمتُها المهزومة نهاراً. تحوم في أوقات الوجبات. تدور في دوائر أصغر فأصغر فوق السرير، مفسدةً المتعة التي كان ألبير لا يزال يقدّمها بسخاء. انتظرت إيلاييز الضربة القاضية، ولم تُفاجأ عندما استيقظت ذات صباحٍ وهي تفقد دمها بكمياتٍ كبيرة. كان ألبير، المستيقظ قبل بزوغ ضوء النهار كعادته، يدعّم اليام. رفعت صوتها لتنادي أحد أبنائها، لكن لم يصدر عنها سوى أنينٍ قبل أن تغرق واهنةً في المحيط الأحمر حولها. قرابة الساعة التاسعة، ولأنّها لم تكن تتأخر في الاستيقاظ، استغرب يعقوب، فأتى ليفتح بابها مواربةً وسقط على ركبتيه.

تلك أولى حالات نزف إيلاييز الشديدة.

بما أنّ العائلة، وقد أصيبت في أعزّ ما لديها، لم تفعل سوى الأنين والنحيب والدعاء لله واستشارة الشامانات، فقد تولّت الممرضة جان لوميرسييه الوضع بتنفيذ وصفات الطبيب، مضيفةً إليها ابتكاراتٍ من عندها، لأنّها في الأصل من جزيرة ماري غالانت، جزيرة أوراق المداواة التي جعلت إيلاييز في غضون بضعة أسابيع تجلس ضعيفةً، لكن باسمةً، في كرسيٍّ هزّازٍ قرب سريرها. كان لهذه الممرضة ابنة وحيدة، اسمها أولتيما، تيما، وهو اسمٌ جميلٌ لمن هي الأولى والأخيرة معاً في الولادة، تساعدها في مناوباتها وفي علاجاتها، شابّةٌ مستفِزّةٌ وصعبة، رفضت واحداً واحداً جميع الزنوج الصالحين الذين قدّمتهم لها أمها، فقال عنها الناس إنها لا تحبّ لونها. ذات يوم، كان يعقوب قرب أمّه وصدمه جمال تيما في صميم قلبه. تراجع على العتبة وبقي هناك يلهث تحت وطأة ذلك الألم الرائع والقاسي. لم يكن قد نظر قطّ إلى امرأةٍ غير أمّه، وفجأة أدرك أنّه سيموت إذا لم يمتلك تلك المجهولة.

صدرت مؤخراً رواية الحياة الآثمة لماريز كونديه ترجمة رندة بعث عن دار سرد للنشر ودار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، ونقرأ فيها عن حياة عدة أجيال من الطبقة الوسطى في الكاريبي 

كم كانت جميلة، جدّتي تيما! فلون بشرتها أسود ولمّاع، وشعرها كثيفٌ كغابة، تسرّحه على شكل ضفائر عريضة، مدهون بزيت الخروع، ومقلتاها تلتمعان بنار الوصولية والشهوانية. يقول الناس إنّها تزوّجت جدّي يعقوب من دون حبّ، بسبب حسابه في المصرف، والمخزن، واللاكو، والبيتين وهكتارات أراضي اليام في جوستون! صحيحٌ أنّ شكل يعقوب لم يتحسّن مع السنين، وأنّه كان سيّئ الهندام ويضع على رأسه قلنسوةً استعماريةً واسعةً، تقع على جذر أنفه، ويرتدي جزمة جندي!

من أجل تيما، بات هذا الشاب شبه الأميّ الذي لم يفعل في حياته سوى البيع بربحٍ خبيراً بالسجاد والتحف والسواتر. راودته فكرة تقزيم شجيراتٍ وشجرات، وهكذا دخلت في أصصٍ ترابيةٍ نبتة عصفور الجنّة، ونبتة زهرة القشّ الإيطالية، وشجرة جاكرندا، متوهّجة ذات أزهار زرقاء باعه بذورها زنجيٌّ من غرينادا. وضع أوّل حمّامٍ في بيت شارع فوبور دينري، مختاراً بنفسه الصنابير على شكل حصان البحر، والبلاط الخزفي المصنوع بتدرّجاتٍ من لونٍ واحد. وهو أيضاً من حوّل المنزل الخشبي الصغير في شمال جوستون إلى بيتٍ للاصطياف لا يقلّ في شيءٍ عن بيوت البيض في سان كلود.

قبل ثمانية أيامٍ من الزفاف، أدرك يعقوب أنّه سينتقل مع تيما من مرحلة المحادثات الرخوة، على بعد خطوتين من جان لوميرسييه التي تغزّ إبرتها في غطاء الطاولة، وقبلة متقشفة على الخدّ في آخر اللقاء، إلى حميميةٍ مخيفةٍ بين ملاءتين. والحال أنّه لم يكن قد مارس الحبّ بعد، في حين أنّه بلغ التاسعة عشرة من عمره! ما السبيل للنجاح؟ لقد تمتّع غريزياً باحترامٍ للمرأة بلغ منه أنّ فكرة السعي للحصول على شيءٍ من الخبرة لدى عاهرةٍ لم تخطر مطلقاً على باله. هكذا صعد مرعوباً في عربةٍ ليقود تيما إلى جوستون. صهلت الخيول وهي تعبر جسر غابار، ورفعت ذيولها لتُفرِغ طناً من الروث، ونهبت وهي تعدو الكيلومترات الاثني عشر. غاب تعالي تيما فارتمت لتلاصق يعقوب الذي شعر لأوّل مرّةٍ في حياته، وهو يتحكّم بالأحصنة ويهدّئ روع محبوبته، بأنّه كبيرٌ وقويٌّ وغير قابلٍ للهزيمة. في جوستون، وأمام السرير الهائل ذي القبّة، الذي أمر بنفسه بوضعه في أفضل غرفة، كادت تلك الثقة بالنفس غير المعهودة أن تتخلّى عنه. لكن ظهرت أم أربعٍ وأربعين وكأنّها تتمشّى في الناموسية، فاستفاد من هبّة رعبٍ جديدة لدى تيما ليعانقها. بعد ذلك، دمّر عذريّتها بقوة.

فما إن ذاق يعقوب تيما حتى ما عاد قادراً على أن يتركها بسلامٍ، لا في عتمة الليالي ولا في عزّ قيلولة النهار عندما لا تستطيع حصائر النوافذ منح ظلّ. أخذ يستكشف كلّ زواياها الخفية، يولِج في كلّ فتحاتها. وعندما يرفض عضوه نفسه الاستجابة بسبب تعبه، يستخدم اللسان والأصابع، متمايلاً على ذروة متعةٍ لم يكن قادراً على منحها

غداة العرس مباشرةً، تخلّت إيلاييز لتيما عن إدارة شؤون البيت، فباتت هذه الأخيرة السيّدة لوي الوحيدة، الحقيقية! وباستثناء إيلاييز التي عاملتها كأمٍّ لها، ضبطت شؤون المنزل. تعلّمت الخادمة أن تخفض نظرها وألّا تردّ. وتعلّم إخوة يعقوب ترتيب أسرّتهم وإفراغ النونية المهجعية الخاصة بكلٍّ منهم. كما تعلّم الأقارب والأنسباء عدم الزيارة إلّا بدعوة. هل هنالك حاجةٌ للقول إنّ المتمرّد الوحيد بقي ألبير؟ فقد كان يمشي بحذائه الموحل على الأرضيات المعالجة ويبصق عصارة غليونه في الزوايا، ويعرض عضوه العضِل ليبول في الباحة. على الفور، اندلعت الحرب بين الكنّة وحميها، لكنّ الأولى تغلّبت على الدوام.

لم يكن زواج جدّي يعقوب وجدتي تيما سعيداً، لأنّ عدم اتفاقهما الجنسي أفسد كلّ شيء.

فما إن ذاق يعقوب تيما حتى ما عاد قادراً على أن يتركها بسلامٍ، لا في عتمة الليالي ولا في عزّ قيلولة النهار عندما لا تستطيع حصائر النوافذ منح ظلّ. أخذ يستكشف كلّ زواياها الخفية، يولِج في كلّ فتحاتها. وعندما يرفض عضوه نفسه الاستجابة بسبب تعبه، يستخدم اللسان والأصابع، متمايلاً على ذروة متعةٍ لم يكن قادراً على منحها. كان يرى جيّداً أنّه يُتعِب تيما ويزعجها وينهكها ويعظ نفسه. لكنّه للأسف يقع مجدداً في براثن رغبته مثلما يقع آثمٌ في براثن إثمه. بعد ستة أشهرٍ من الزواج، انتقم جسد تيما بطريقته من تلك الاعتداءات المستمرة، فطرد جنيناً. ولمرّتين أخريين، نزف دماً من بطنه، سميكاً وأسود، قبل أن تولد البنت الصغيرة المتمرّدة والفائقة الموهبة: أمي. أجرؤ على الظنّ بأنّ الحمل بها تمّ في لحظة سماح.

...

مقطع الغلاف الخلفي

محاولةً التصالح أخيراً مع ماضٍ ظلَّ يطاردها طوال حياتها، تروي "كوكو" حكاية عائلتها عبر عدّة أجيال، بدءاً من السلف "ألبير لوي" الرجل الطموح الذي غادر أرضه محاولاً إعادة تكوين نفسه كرجلٍ يتمتّع بثروة، مروراً بأبنائه وأحفاده، وصولاً إليها هي ذاتها: "كوكو"، الراوية التي تشعر أنها يجب أن تحكي هذه الحكاية، وسيكون ذلك هو النصب الذي تبنيه للأموات. هو الدَّين الذي يجب أن تسدّده. حكايةٌ خالية من الجلّادين الكبار ومن الشهداء المبجّلين، لكنه سيكون لها مع ذلك وزنٌ من لحمٍ ودم، لأنها حكاية أهلها، بأحلامهم وآمالهم، بأوهامهم، بإخفاقاتهم، وبإرثهم المعقّد الذي يعاني منه العِرق كله.

"الحياة الآثمة" روايةٌ تفيض بالحكايات المتشابكة، وتعجّ بالتفاصيل التي تقدّم شهادة مهمة عن حياة عائلات الطبقة الوسطى في منطقة الكاريبي، كتبتها "ماريز كونديه" الروائية الغوادلوبية التي حازت جائزة نوبل البديلة لعام 2018، بعذوبةٍ ودفءٍ لا متناهيَين، مستندةً إلى حدٍّ كبير على تاريخ عائلتها ذاتها. كتبتها لتكون نصباً تبنيه للأموات، مسدّدةً بذلك الدَّين هي أيضاً.

...

ماريز كونديه: كاتبة روائية ومسرحية وناقدة من غوادلوب، المستعمرة الفرنسية الواقعة في منطقة البحر الكاريبي. بدأت نشر كتبها بعد أن تجاوزت الأربعين من عمرها، وتراوحت أعمالها بين الرواية، والمسرحيات، والأدب الموجّه للأطفال، والدراسات النقدية والسياسية. تستكشف في أعمالها موضوعاتٍ متعددة: الزنوجة، علاقة السود في منطقة الكاريبي بالقارة الإفريقية، الاستعمار، حقبة ما بعد الاستعمار، الكاتبات النساء... تنقّلت بين بلدانٍ عديدة وحازت عدداً من الجوائز، آخرها جائزة نوبل البديلة للآداب في عام 2018 لأنها «تصف ويلات الاستعمار وفوضى ما بعد الاستعمار بلغة دقيقة وبالغة التأثير. وهي تستحضر في رواياتها الأموات إلى جانب الأحياء، في عالمٍ يدور فيه الجندر والعِرق والطبقة باستمرار في تشكيلاتٍ جديدة».

من أبرز أعمالها: ملحمة «سيغو» بجزأيها، «بانتظار السعادة»، «آخر الملوك المجوس»، «هجرة القلوب»، «ديزيرادا»، «الحياة الآثمة». وقد نشرت آخر رواياتها بعد تجاوزها الثمانين من العمر.

...

رندة بعث: مترجمة سوريّة، حاصلة على إجازة في الصيدلة من "جامعة دمشق" وعلى ماجستير في الترجمة الفورية. صدرت لها ترجمات عدّة، من بينها: "معنى الحياة: مقدّمة وجيزة" لـ تيري إيغلتون (2007)، و"البحث عن الشرق المفقود" لـ أوليفيه روا (2014/ الغلاف)، و"الأشكال الأوّلية للحياة الدينية" لإميل دوركهايم (2019)، و"الحياة الآثمة" لـ ماريز كونديه، و"الحب: مقدّمة وجيزة" لـ رونالد دي سوزا.

...

جميع الحقوق محفوظة لدار سرد للنشر و دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.

...

الكتاب متوافر في المكتبات وعلى نيل وفرات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image