شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"سادة" المسلمين واليهود والمسيحيين معاً... أولياء لكلّ الأديان في المغرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 19 يناير 202303:46 م

توجد في المغرب أضرحة ومزارات يزورها "مسلمون ويهود ومسيحيون"، وأحياناً يتناوبون على زيارتها؛ ينظّمون مواسمَ وطقوساً خاصةً بكل ديانة وفق طقوس خاصة في طلب البركة وتفاصيل الزيارة وغيرهما. لكن المشترك بينهم هو الطقس الروحي الذي يعرفه الضريح والقاسم الأقوى هو حاجة إيمانهم بالقوى الخارقة إلى ساكن الضريح مهما كانت الديانة التي انتمى إليها حيّاً، وأصبح من "سادتها" و"أوليائها" الصالحين.

"سيّد الجميع"

كان الإسلام المغربي، وفقَ السرديات التاريخية الرسمية، إسلاماً معتدلاً متسامحاً مع الديانات والثقافات الأخرى، إذ تعايش المسلمون مع باقي الديانات و"تَبرَّكوا" بالأضرحة نفسها. وفي كل ديانة من الديانات التي انتشرت في المغرب، يشكّل الأولياء وأضرحتهم رمزيةً معيّنةً، حين تندمج تشكل الهوية الدينية والروحية عند المغاربة التي ظلت إلى عهد قريب عبر المزارات المشتركة أحد أبرز أوجه التثاقف الديني.

تنتشر في المغرب مزارات أولياء صالحين يتجه إليهم المسلم واليهودي والمسيحي، في مظهر من مظاهر "التثاقف الديني"، النادرة في أنحاء أخرى من العالم

أشار كتاب "يهود المغرب والأندلس"، للمؤرخ المغربي حاييم الزعفراني (ج1 ص 508)، إلى أنه "يمكن أن يكون نفس المزار مقصداً لليهود والمسلمين وموطناً حوله تتفق آراؤهم، وتتجلى فيه مظاهر ثقافتهم المشتركة، بل فيه تتمثل توفيقية دينية قد تدهش الناظر. إنهم، يهوداً ومسلمين، يرجون معاً الشفاعة والحماية من نفس الأولياء والصالحين، ويقومون بنفس التعبد وبنفس الرموز ويقدمون نفس الصدقات ويتوسلون بنفس الدعوات ونفس الصلوات. ويعود كل واحد منهم إلى بيته بعد أن زار نفس الولي، غنياً في خياله بكل الخيرات التي كان يرتقبها من توفيق زيارته هذه، مزوداً على كل حال بمزيد من الإيمان والآمال".

سيدي يحيى: سرديات مختفلة وتعبّد واحد

شرق المغرب في مدينة وجدة الحدودية، يرقد الولي سيدي يحيى بن يونس، وخلال جولة في ضواحي الضريح التقى رصيف22، بعابر بالقرب من المزار، يعتقد كما قال في حديثه إلى رصيف22، أن الولي الصالح سيدي يحيى هو أحد حراس المدينة والذي تنبأ بقدوم الرسول من القدس (ليلة الإسراء والمعراج)، وهو أحد رجالات الورع والتقوى يقصده الناس للتبرك وقضاء الحاجة.

تختلف السرديات الدينية حول الضريح، وتظهر تنوع الروافد التي تصنع مركزيته في الإيمان المحلي. فالسردية المسيحية تقول إن سيدي يحيى عاصر المسيح وقضى حياته في التعبد وحين اشتد عليه المرض حمله من معه على ظهر جمل إلا أنه استشعر بأن نهايته قد حانت ليطلب أن يُدفن في المكان الذي يتوقف فيه الجمل وكان هذا المكان في مدينة وجدة.

بسبب "الطبقات التاريخية" للأماكن المقدسة في المغرب يتحول الضريح إلى حاضنة لروايات تاريخية مختلفة، يضحي معها "الولي الصالح" سيد الجميع وبأسماء مسلمة تارة وعبرانية تارة ونصرانية تارة أخرى... ويزوره أبناء الديانات الثلاث

أما السردية اليهودية فتقول إن يهودياً من قشتالة "ربي يحيى بن دوسة"، جاء إلى مدينة وجدة بعد أن طرده المسيحيون من الأندلس، وعند وصوله المنطقة أراد الوضوء شقّ الأرض وظهر مجرى مائي، ليقضي حياته بجانب العين إلى حين وفاته كما حفر قبره بنفسه.

يعتقد آخرون حسب ما استقى رصيف22، بأن سيدي يحيى هو الولي المخفي الذي لا يُعرف قبره بالضبط، لكن البعض يتجه إلى أنه على مسافة ثلاثة أقدام من المنبع الكبير بالقرب من شجرة، ولهذه الأسباب توجد هناك قطع من القماش تحت الشجرة المائلة جداً، وقد عُرف عند المسلمين بعلاج العقم والروماتيزم ومس الجنون.

المُقدس ووسيط السماء... أي علاقة؟

يرى يوسف هريمة، وهو كاتب وباحث في مقارنة الأديان، في حديثه إلى رصيف22، أن الضريح بدايةً ليس مجرد قبرٍ أو مزار، منزوع عن سياقات تشكله الأنثروبولوجي والثقافي والإنساني، يقصده الناس. فالضريح عبارة عن 'مؤسسة الضريح'، لما تقوم به أو على الأقل قامت به من أدوار اجتماعية واقتصادية وروحية على مدار فترات طويلة من تاريخنا الممتد. ولكي نفهم الأدوار المهمة لهذه المؤسسة يلزمنا أن نستحضر بعداً يغفله الناس وهو جزء من تركيبتهم وطبيعتهم، إنه الحاجة إلى المقدس، فالإنسان هو الكائن الوحيد المرتبط بفكرة ما وراء الأشياء، إذ تجده يبحث عن القداسة في شجر أو حجر أو بشر، المهم أن يروي حاجةً داخليةً يسقطها على كل الأشياء. فالمقدس ليس خاصيةً ثابتةً في جوهر الأشياء، وإنما هو هبة يعطيها الإنسان ويمنحها لمن يستقر عليه عقله وروحه، فيستثيران الشغف والرهبة.

أورد الكاتب أن زيارة الأضرحة لا بد من أن تُفهم ضمن عوالم دراسة الإنسان وخبايا الثقافة، فالزيارة هي طقس من الطقوس المصاحبة لعالم المقدس، ووظيفة هذه الطقوس هي تنظيم العلاقة بين عالمين، أو هي الصلة الجامعة بين الإنسان الأرضي، وبين الوسيط الذي يربط بين السماء والأرض.

يضيف هريمة: "إذا فهمنا العلاقة الجامعة بين الإنسان والمقدس على أنها علاقة ممتدة في الزمان والمكان، سهل علينا الفهم بأن قضية الضريح أو المزار هي قضية إنسانية بامتياز، وغير محصورة في دين بعينه، فلليهود مزاراتهم، وللمسيحيين كذلك، وفي المغرب وحده، كما يؤكد بعض الباحثين، أكثر من 656 ولياً يهودياً يقصدهم اليهود، وهناك بعض المزارات المختلف عليها يقصدها اليهود والمسلمون على حد سواء بسبب الاختلاف في النسب والانتماء الديني، أو لأن الضريح أصلاً ليس شكلاً من أشكال التعبد والتقرب فحسب، بل لأنه مؤسسة قائمة بحد ذاتها يختلط فيها البعد الديني بالاقتصادي والاجتماعي كذلك.

إسلام لم يجبّ ما قبله

يقول ياسين بوشوار، الباحث في علم الاجتماع، في حديث إلى رصيف22، "إن هوية تجربة التدين في المغرب المعاصر حصيلة تشكلت تاريخياً بفعل التلاقي والاندماج بين مختلف التجارب الدينية التي استقرت في المغرب، بدايةً بالمعتقدات الوثنية، مروراً باليهودية والمسيحية وصولاً إلى الإسلام، وبمجيء الإسلام واستقراره في المنطقة لم تندثر هذه المعتقدات والطقوس، إلا أنها فقدت جزءاً من مظهر حضورها العام، لذلك فهي حاضرة في الممارسات الإسلامية كجزء من الممارسات التعبدية للمجتمع المغربي".

الزيارة هي طقس من الطقوس المصاحبة لعالم المقدس، ووظيفة هذه الطقوس هي تنظيم العلاقة بين عالمين، أو هي الصلة الجامعة بين الإنسان الأرضي، وبين الوسيط الذي يربط بين السماء والأرض

يُورد بوشوار أن الإسلام إذا كان يجُبُّ ما قبله، فإنه في الحالة المغربية لم يستطع التخلص من ثقل الممارسات الدينية المحلية، بفعل الثقافة التي نشأت على التوسط في التعبد والتي كانت السمة الغالبة على تعبّد المغاربة، وفي هذا السياق برزت نظرية "أسلمة البقايا الوثنية"، وتُعدّ المواسم الدينية وتقديس الأشخاص، من هذه الممارسات التي لا تزال تحتفظ بهذا التدين المركب، الذي يجمع في طياته مختلف أنماط الاعتقاد، التي يُعبَّر عنها بمصطلح ''الإسلام الشَّعبي'' أو بالأحرى الذي أسهم في نشوء ما بات يُعرف أكاديمياً اليوم باسم ''الإسلام المغربي''.

وفق الباحث، يتوزع أكثر من 100 ضريح مشترك بين اليهود والمسلمين في مختلف المناطق المغربية، ويرى بعض الدارسين أمثال إدمون دوتي، وألفريد بيل، جاك بيرك وميشو بلير وغيرهم، أنها امتداد لأطروحة الأسلمة من جهة، وفي الوقت نفسه تعبّر من جهة ثانية عن العلاقات الاجتماعية المتجذرة بين اليهود والمسلمين المغاربة التي انعكست على الممارسات الطقوسية والاحتفالية الدينية التي لا تختلف كثيراً عن طقوس الممارسة في المواسم الدينية بين المسلمين واليهود، فكلاهما يمارس طقوس الذبح، والقراءة الجماعية، والمشي، والتبرك، والإنشاد.

يورد الباحث أن إدموند دوتي، في كتابه "الصلحاء"، على سبيل الذكر، قدّم نماذج مختلفةً لصلحاء مسلمين يقدّسهم اليهود، وصلحاء يهود يقدسهم المسلمون. من بينهم ''جبل الخضر/ عمران بن ديبان'' في فاس، و''يحيى بن يونس/ يحيى بن دوسة''، دفين وجدة، وفي الناظور ضريح سعديا عداتي/ سي يوسف، و''سيدي بلعبّاس'' في القصر الكبير، و''كف اليهودي''، و''سيدي أبار/ ربي يحي للو'' في الرشيدية، و"يحي بن يحي/ سيدي قاضي حاجة" في تادلة، و''للا تَاكْرْكُوسْتْ'' في مراكش.

يضيف بوشوار أنه فضلاً عن الأسلمة والمشترك الاجتماعي، يمكن الحديث أيضاً عن قوة هذه الممارسات الطقوسية في ضمان استمرارية العلاقة المشتركة، من خلال ما تقدّمه هذه الأضرحة والمزارات والمواسم من وظائف مختلفة لفائدة المريدين والزائرين مهما كانت أصولهم الدينية. ومن وظائف تجارية واقتصادية، وسحرية علاجية، ودينية وسياحية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image