في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2022، نشرت قناة سما القدس على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي ضمن برنامج "مغارة"، حلقة عن السكان الأصليين لفلسطين، تستعرض فيها ما هو متداول من معلومات عن فلسطين، قدّمتها بعض المصادر العربيّة التاريخيّة، والغربيّة من المستشرقين، وسبق أن تعرّضت لانتقادات عديدة من مؤرّخين فلسطينيّين وعرب، لتشكيكها في أصلانيّة الفلسطينيّين في هذه المنطقة.
البرنامج استعرض ما جاءت به بعض المصادر الإسرائيليّة، بأنّ جزءًا من سكّان فلسطين، هم من جنوب أوروبا، بالإضافة إلى عرضه قصص معارك حدثت بين قبائل سكنت فلسطين، بطابع كوميديّ، حتّى انتهت هذه المعارك إلى أنّهم عاشوا معًا، لكن بشكل عام، يمكن القول إنّ هذه الحلقة في ملخّصها، كانت أقرب لوصف أنّ أرض فلسطين سكنها الجميع، وهو ما يتّفق مع تصريحات الكثير من السياسيّين الإسرائيليين، ومنهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
في تمّوز/ يوليو عام 2019، نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ما مفاده أنّ الفلسطينيّين جاءوا من جنوب أوروبا، وذلك بناء على دراسة نشرتها مجلّة "ساينس أدفانسر" المدعومة من الرابطة الأميركيّة للعلوم المتقّدمة "AAAS"، والمعتمدة على تحليل لحمض نوويّ أخذ من موقع فلسطينيّ قديم في مدينة عسقلان.
وذكرت الدراسة أنّ الفلسطينيّين القدماء ورثوا نحو 25٪ إلى 70٪ من حمضهم النوويّ من أسلافهم في جنوب أوروبا، بعد تطابقات مع أشخاص قدامى، من بحر إيجه الفاصل بين تركيا واليونان وسردينيا الإيطاليّة. ولفتت الدراسة إلى أنّ ذلك جاء نتيجة التزاوج مع الجيران الأوروبيين قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، وكذلك استندت إلى نصوص توراتيّة وصفتهم بـ"أعداء الإسرائيليين القدماء".
في كتابه "مستشرقون في علم الآثار"، حذّر الناقد والشاعر الفلسطينيّ محمّد الأسعد من الاعتماد على الفكر التوراتيّ خلال أعمال التنقيب وإخضاعها، وزجّ هذه الأعمال داخل "علم الآثار التوراتي"، فهذا ما يناقض علم الآثار في صلبه العلميّ.
وحاولت معاهد دراسات وأبحاث مختلفة دعم هذه الرواية التي تقول إنّ اسم فلسطين يُنسب لقبائل سكنت هذه المنطقة، ومن قبلهم كان العبرانيّون، وأنّ الفلسطينيّين كانوا مجرّد محتلّين لهذه الأرض، كما صدرت العديد من الوثائقيّات والأفلام السينمائيّة التي تروّج لهذه الرواية، وكان آخرها فيلم شمشون، وهو للمخرج الأمريكي ديفيد أندرو وايت، المتخصّص في إنتاج أفلام تاريخيّة مبنيّة على روايات دينيّة مسيحيّة وتوراتيّة، ومن بطولة الممثّل البريطاني تايلور جيمس.
أقدم اسم بلد عربي؟
ويرى علماء آثار أنّ اسم فلسطين هو الاسم الوحيد الذي لم يزل على ما هو عليه منذ قرابة 4000 عام، والذي أثبتته المراسلات القديمة بين حضارات المنطقة والنقوش القديمة، إذ أُخذت بداية الاسم من مدينة غزّة القديمة "بلست"، وهي كلمة أكّديّة معناها "بلاد"، والمستمدّة من كلمة "بليشتي"، وتعني "أهل البلد".
يرى علماء آثار أنّ اسم فلسطين هو الاسم الوحيد الذي لم يزل على ما هو عليه منذ قرابة 4000 عام، والذي أثبتته المراسلات القديمة بين حضارات المنطقة والنقوش التاريخيّة
من جهته، يلاحظ الباحث في التاريخ الاجتماعيّ والهندسة المجتمعيّة، مؤنس البخاري، أنّ الرواية التي تقول إنّ الشعب الفلسطيني جاء غازيًا من البحر، لا تزال متداولة حتّى اليوم بين عرب وفلسطينيّين على السواء، وهذا يساعد في ترويج الرواية الإسرائيليّة التي تركّز على أنّ الفلسطينيّين جاءوا من اليونان مثلًا وإنّهم ليسوا عربًا، من أجل فصلهم عن محيطهم العربيّ، ليصبح وجودهم طارئًا على مجرى التاريخ، على حدّ تعبيره.
ويقول البخاري لرصيف22: "لو كان الفلسطينيّون القدماء جاءوا من جنوب أوروبا، لما أطلق الأكديّون على مدينة غزّة وما حولها اسم "بلست" قبل غزو شعوب البحر بألف سنة، إذ بقي الاسم الأكديّ نفسه مستمرًّا ما بعد الأكديّين، وموجودًا في النقوش البابليّة والآسوريّة (الآشوريّة) والمصريّة القديمة، وقد ورد اسم فلسطين بالآسوريّة "پَلَشتو" و"پِلِستو"، وبالمصريّة القديمة، ورد باسم "پلست" ووپرست". ونشأت التسمية الإغريقيّة "پيلَسگوس" أو "پيلَزگُس"، التي قصد فيها منطقة فلسطين، كما جاء ذكرها في المعجم اليونانيّ القديم، ثمّ تحوّل هذا الاسم في الإغريقيّة الهيلينيّة إلى "پَلَيستيني"، ونشأ عنه في اللاتينية تسمية محافظة فلسطين "پَلَيستينه - Palaestīna".
تطرّق الأسعد لقضيّة الاستشراق في علم الآثار، وكيف تمّ إغراق الساحة الأكاديميّة وبحوثها بترجمات مغلوطة تخدم أجندات دينيّة أو سياسيّة معيّنة، في حين أنّ أغلب منشورات القرنين التاسع عشر والعشرين كتبها مستشرقون ورحالة ليسوا مختصّين في علم الآثار وتفرّعاته، وكانوا على الأغلب متديّنين.
المحتوى المسموم
ويتبنّى الكثير من صنّاع المحتوى المرئيّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأهمّها يوتيوب هذه الرواية، لكن دون أيّ معرفة حقيقيّة بمنابعها وأهدافها، إذ وصدنا في هذا التقرير نحو 45 حلقة على يوتيوب، تتحدّث عن تاريخ فلسطين والفلسطينيّين، وتقدّم شرحًا عن قبائل "البلستيا" وتنسب الفلسطينيّين إلى جزيرة كريت اليونانيّة، وبعض هذه الحلقات، تخلط ما بين الكنعانيّين والعرب.
تطرّق الأسعد لقضيّة الاستشراق في علم الآثار، وكيف تمّ إغراق الساحة الأكاديميّة وبحوثها بترجمات مغلوطة تخدم أجندات دينيّة أو سياسيّة معيّنة
محمّد العقّاد، أستاذ مادّة التاريخ المتقاعد (68 عامًا)، كان من الأساتذة الذين رفضوا الاستسلام لـ"الإسرائيليّات"، وقام بتدريس منهج التاريخ المصريّ الذي كان يدرّس في قطاع غزّة، قبل قدوم السلطة الفلسطينيّة عام 1994 ووضعها للمنهاج الفلسطينيّ، إذ ينتقد العقّاد بعض محتواه، والذي اعتمد على كتب تاريخيّة تتحدّث حول أصول الفلسطينيّين.
ويعتبر العقّاد موقع يوتيوب "سمّ التاريخ"، لأنّ المحتوى الذي يقدّم على الموقع، كثيرًا ما يكون مسمومًا، ليس فقط فيما يخصّ التاريخ الفلسطينيّ، وإنّما المصري والعراقي وغيرهما. يقول لرصيف22: "ظهرت برامج تحاول الانسياق وراء المؤثرات الصوتيّة وغيرها، لكنّها بعيدة عن الواقع العلميّ، وهذا يمكن أن يكون جريمة في حقّ الرواية الفلسطينيّة. أنا أؤيّد علم الآثار حين يقارن بالمكتشفات الأثريّة، هذا هو المفتاح الحقيقيّ لفهم تاريخ الفلسطينيّين الحقيقيّين الممتدّين في آثارهم وتواصلهم مع حضارات المنطقة، لما يزيد عن عشرة آلاف سنة".
وينظر المحاضر في المخطوطات العربيّة والدراسات شمال أفريقيّة وشرق أوسطيّة، نائل خضر، إلى اللغط الحاصل عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ، من خلال صانعي المحتوى، بأنّه تصدير موادّ أكاديميّة دون التحقّق منها أو من مصادرها وأجنداتها، والجمهور متعطّش للمعلومات بسبب حالة طمس الهويّة التي تعاني منها الدول العربيّة".
في المقابل، يجد خضر أنّ الساحة الأكاديميّة هي ساحة ديناميكيّة بامتياز، وكلّ يوم تشهد اكتشافات وأبحاثاً وترجمات وإعادة ترجمات جديدة، وبالنسبة له، فإنّ الخطر الثاني يكمن في ترديد هذه المرويّات التوراتيّة الإنجيليكيّة لتلائم وجهة نظر ناشريها، ويشدّد على وجوب التركيز على تاريخ فلسطين، والاطلاع على الأبحاث الأكاديميّة وإعادة تقييم كلّ ما كتب خلال القرنين الماضيين.
يقول خضر لرصيف22: "يمكننا تعزيز المحتوى الفلسطيني من خلال تضافر الجهود الأكاديميّة والشعبيّة لتبسيط المحتوى الأكاديميّ، لعرضه على الجمهور، وتعميم الدراسات الحديثة التي تستند إلى العلوم والأبحاث الدقيقة، سواء من المكتبة العربية أو غير العربية، وعلينا تغيير مناهجنا التعليميّة بما يتلاءم مع السرديّة التي تحفظ حقّ السكّان الأصليّين".
ويشير البخاري إلى أنّ التقصير الحاصل بخصوص التاريخ الفلسطيني يقع على عاتق كلّ المؤسسات التعليميّة في البلدان العربيّة، لأنّها لا تزال تتكل على نفس المرجعيّة الإنجيليّة، دون تأسيس أكاديميّ حقيقيّ لدراسة التاريخ، ويرى الحل من خلال نشوء مجموعات دراسيّة عربيّة يشتغل فيها عرب متخصّصون، تعيد مراجعة وقراءة كلّ المكتشفات الأثريّة المستخرجة من البلاد العربيّة، لفهم تاريخ المنطقة العربيّة على وجه العموم، وتاريخ فلسطين على وجه الخصوص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...