غمس نجيب محفوظ قلمه في محبرة المدن الفاضلة، من دون أن يتبنى واحدة منها بصورتها الكاملة. أراد أن تكون مدينته الفاضلة ذات أساس واقعي وتاريخي معاً، ولم يكن الأمر فراراً أو رفضاً لماضيه في وطنه، وإنْ كانت له عليه مآخذ شتى. وظل على مدى رحلته الإبداعية الطويلة الممتدة على 60 عاماً من الإنتاج الأدبي، يستدعي الماضي ويختزن التجارب ليضعها بين أهله على أرض الواقع.
انتقد محفوظ نظام الحكم، وحاول تسليط الضوء على أخطائه. صحيح أنه لم يدخل معتقلات جمال عبد الناصر أو أنور السادات، على الرغم من الانتقادات الصريحة التي كان يوجهها إلى نظاميهما، عن طريق رواياته وقصصه، إلا أنه لم يكن بعيداً عن المخاطر أو المتاعب، أو "نائماً في العسل" على حد تعبيره. وفي مرات كثيرة كاد أن يتعرض لمشاكل جدية تحدُّ من حريته الأدبية والشخصية معاً.
تربّينا على كراهية النظام الملكي"
عند سماع "مصر القديمة" أو "فرعون" في سياق واحد مع اسم نجيب محفوظ، ينصرف الاهتمام إلى رواياته الثلاث الأولى: "عبث الأقدار" (1939)، "رادوبيس" (1943)، و"كفاح طيبة" (1944). هذه الروايات تضع الزمن الفرعوني، وشخصياته الإلهية المعبودة والعابدة، وقيَمه وتصوراته وصراعاته، في مركز الاهتمام.
أراد محفوظ أن يحشد خبرة الماضي لتوجيه المستقبل، وهذا الحضور الفرعوني امتد وانحسر حسب مقتضيات رؤيته، إذ تلت تلك الروايات روايته "القاهرة الجديدة" (1945)، ثم الثلاثية التي استغرق في كتابتها أربع سنوات متصلة من عام 1948 وحتى 1952، ونُشرت عام 1956، وهي: "بين القصرين"، "قصر الشوق" و"السكّرية"، وجسّد فيها كفاح الشعب المصري من أجل الاستقلال بقيادة زعيم حزب الوفد، وزعيم الأمة سعد زغلول باشا، الذي كان نفيه إلى جزيرة مالطا بداية مرحلة إيقاظ الوعي الشعبي لدى الجماهير المصرية والعربية.
تعرّض محفوظ لانتقادات كثيرة بعد الثلاثية، وكان من أشهر مَن هاجموه الناقد الدكتور لويس عوض في كتابه "أوراق العمر"، وردّ على هذا الانتقاد في كتاب "نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته" للكاتب رجاء النقّاش، قائلاً: "نقطة رابعة أحب أن أقف عندها، وهي الرد على الانتقادات التي وجهها لي النقاد اليساريون حول الثلاثية، فقد ذهبوا إلى أنني أبرزت دور الموظفين والطلبة والتجار وأهل المدن في أحداث ثورة 1919، في حين أغفلتُ دور العمال والفلاحين. هؤلاء النقّاد نسوا شيئاً مهماً وهو أنني لست مؤرخاً، والثلاثية ليست كتاب تاريخ عن أحداث ثورة 1919، وكان من واجبهم أن ينظروا إليها على أنها عمل فني روائي، بطلها تاجر صغير، وأحداثها تدور في المدينة. ولو أنني نقلت الأحداث إلى الريف كي أُبرز دور الفلاحين، لكان قد حدث خطأ فني في تسلسل الأحداث، ولخرجت الرواية عن الهدف الذي قصدتُه من كتابتها. لقد فكرت في بداية حياتي أن أكتب تاريخ مصر، ووضعت فكرة مشروع يتكون من ثلاثين إلى أربعين عملاً تتناول كل فترات التاريخ المصري، ولكنني انصرفت عن هذا المشروع بعد أن كتبت رواية ‘كفاح طيبة’. ومن أسباب انصرافي عنه عدم معرفتي بحياة الريف والعمال".
سعى محفوظ إلى تحريك وعي القارئ، وإغرائه بالتنظير، واستحضار ما يشاهد وما يسمع، وقرر انتقاء شعارات نابعة من زمن الكتابة، ليتجلى الرومانسي التاريخي ممتزجاً بالواقع المشاهَد. يقول الدكتور محمد حسن عبد الله في كتابه "جماليات الحضور الفرعوني في روايات نجيب محفوظ": "هكذا وجدنا حواراً سياسياً حادّاً، يجري بين أفراد من الشعب أو الكهنة: ‘ما ينبغي لمن يجلس على عرش مصر أن يلهو، ملكنا يلهو. نريد ملكاً جادّاً’. إن مثل هذه الشعارات المسبوكة موجهة إلى الملك فاروق بقدر ما هي موجهة إلى الفرعون القديم، وقد استخدمت الجماهير هتافاً متحدّياً: ‘ليسقط الملك العابث’".
بالانتقال إلى موضوع رواية "كفاح طيبة إلى الحاضر"، اتسعت مساحة نقد العصر والحفر تحت سلبياته وأخطائه وانحرافاته. وإبراز المفارقة أو الصعود بدرجة التهكم حدث أيضاً في "القاهرة الجديدة" ليُبرز ثورة الاشتهاء المعجونة بموروث احتقار المرأة في شخص "محجوب عبد الدايم"، يضيف عبد الله.
لم تنفصل روايات محفوظ عن اعتقاده الشخصي. ففي كتاب النقّاش، يعترف محفوظ: "أعتبر نفسي من براعم ثورة 1919، فإذا كان للثورة رجالها الذين قادوها، وشبابها الذين اشتركوا فيها، فأنا من البراعم التي تفتحت وسط لهيب الثورة، وفي سنوات اشتعالها، ولم يكن عمري حين قامت ثورة 1919 يزيد على سبع سنوات. تشبعت بأفكار سعد زغلول التي أوضحت أن الثورة قامت من أجل استقلال مصر، وأن الوفد قام من أجل تحقيق هذا الهدف، وأصبحت هذه الأفكار في وجداني وكأنها تعاليم دينية، ورغم أنني لم أنضم إلى لجنة الطلبة أو أيٍّ من لجان الوفد إلا أنني اشتركت في المظاهرات، ولا بد أن أعترف أنني لم أكن مخلصاً للنظام الملكي، ولم أكن أطيقه، حتى أنني عندما كتبت رواياتي الأولى، خاصةً ‘عبث الأقدار’ و’رادوبيس’، تطورت الأحداث في الروايتين للتعبير عن هذا الرأي وتأكيده، وكان ضمن أحداث الروايتين ملكان يخونان شعبيهما، فيكون مصيرهما العزل، ونحن كأبناء لثورة 1919 وحزب الوفد، تربّينا على كراهية النظام الملكي".
يقول رئيس اتحاد كتّاب مصر السابق، الكاتب محمد سلماوي، والذي ألقى كلمة محفوظ أثناء استلام جائزة نوبل، وأوصاه الأخير بأن يقرأ كلمته من منصة الحفل في ستوكهولم باللغة العربية قبل أن تُنقل إلى الحضور بالإنكليزية، لرصيف22: "لم يحدث صدام بين نجيب محفوظ والنظام في العهد الملكي. محفوظ كانت قضيته الأساسية هي الاستقلال، ووقتها لم تكن قد ذاعت شهرته، فهو لم يحقق شهرة كبيرة إلا بعد نشر الثلاثية".
"مأخذي على الثورة هو تنكّرها للديمقراطية"
يقول محفوظ للنقّاش: "لم يخطر على ذهني مطلقاً أن يقوم الجيش المصري بانقلاب عسكري يطيح فيه بالحكم الملكي عام 1952، وذلك على الرغم من أن سهرات مقهى ‘عرابي’ في العباسية، قبيل الثورة، كانت تضم عدداً من الضباط الأحرار، منهم عبد اللطيف البغدادي وجمال سالم. وهذان الضابطان لم ألتقِ بهما لأنهما كانا يفضّلان الذهاب إلى المقهى طوال أيام الأسبوع باستثناء يوم الخميس، موعد سهرتنا الأسبوعية، حيث الازدحام والصخب، حتى أننا كنا نسميه ‘يوم الزيطة’. كان البغدادي وجمال سالم يجلسان طويلاً مع شلّتنا، ومع ذلك لم يشعر أحد بالتحركات التي تتم داخل الجيش".
"لم تكن انتقاداتي لثورة تموز/ يوليو في أيٍّ من كتاباتي موجهة ضد النظام، بل كنت أنتقد غياب الديمقراطية في هذا النظام، ولم تكن الديمقراطية من المحرّمات، بل هي المبدأ السادس من مبادئ الثورة التي أعلنت أنها تسعى لتحقيقه"
يصف محفوظ شعوره عن الثورة قائلاً: "في الفترة الأولى من عمر الثورة كانت مشاعري تنقسم بين الخوف على استقلال مصر، وبين الارتياب في الذين قاموا بها، ومع مرور الأيام بدأت مشاعري تتغير بعد ما وجدت أنها تسعى لتحقيق عديد من الآمال التي طالما حلمنا بها وتمنينا تحقيقها مثل الإصلاح الزراعي، والاستقلال التام، وإلغاء الألقاب، وكان كل قرار من قرارات الثورة الإصلاحية يقرّبني لها، ويملؤني حباً فيها يوماً بعد يوم. وقد لعب محمد نجيب دوراً كبيراً في تقريب الناس من الثورة والتفاهم حولها، بما كان يملكه من شخصية بسيطة ساحرة، تحمل في طياتها الطابع الشعبي نفسه الذي ميّز شخصية مصطفى النحاس. فمنذ اللحظة الأولى التي تراه فيها تشعر فيه بالزعامة، وذلك على عكس جمال عبد الناصر الذي كان وجهه المتجهّم لا يوحي لك بزعامته. ولكنك لا بد أن تتغاضى عن هذا التجهّم عندما ترى أعماله وقراراته وتصرفاته العظيمة. كان المأخذ الأول لي على الثورة هو تنكّرها للديمقراطية، ولحزب الوفد الذي ظل يجاهد في سبيل مصر واستقلالها من عام 1919 حتى عام 1952، وكنت أتعجب من استعانة رجال الثورة بأعداء الوفد والحاقدين عليه من أمثال علي ماهر ورجال الحزب الوطني".
ويروي محفوظ للنقّاش: "‘أولاد حارتنا’ هي أول رواية أكتبها بعد قيام ثورة تموز/ يوليو 1952، وسبقتها خمس سنوات من الانقطاع التام عن الكتابة، وتحديداً بين عامي 1952 و1957، وهي من أشقّ الفترات التي عشتها في حياتي وأصعبها على نفسي، والحقيقة أنني لم أعرف سبباً واضحاً لهذا الانقطاع... ولما طالت فترة التوقف وأصبحت كالتائه، استقر في وجداني أنني انتهيت كروائي، وأنه لم يعد عندي جديد أقدمه للناس، لدرجة أنني ذهبت إلي نقابة الممثلين، وقيّدت اسمي ككاتب محترف للسيناريو، وكنت قبل ذلك أعمل كهاوٍ في كتابة السيناريو مع المخرج صلاح أبو سيف، وتصورت أن كتابة السيناريو سوف تكون هي عملي الوحيد الذي يمثّل لي العزاء، ويسد الفراغ الذي تركه الأدب في حياتي".
لم أكن ضد النظام
يقول محفوظ للنقاش: "كانت ثورة 1952 تدرك تمام الإدراك أنني لست من بين خصومها، وقد أعلنتُ عن تأييدي للكثير من القرارات التي ظننت وقتذاك أنها سليمة وحتمية، مثل: تأميم القناة، ومجانية التعليم، والوحدة مع سوريا، والحرب في اليمن... فأنا إذاً لم أكن ضد النظام، وليس هناك أحد من رموز النظام يأخذ مني موقفاً عدائياً، بل كنت أعمل في نادي القصة مع يوسف السباعي، أحد رجال النظام، وأعمل مع محمد حسنين هيكل في ‘الأهرام’، وكان هيكل أقرب كاتب وصحافي إلى عبد الناصر، وكان المعبّر عنه وعن نظامه".
كانت رواية "أولاد حارتنا" هي أول رواية يكتبها محفوظ بعد قيام ثورة تموز/ يوليو 1952، ونُشرت في جريدة "الأهرام" على حلقات مسلسلة وانتهى من كتابتها في نيسان/ أبريل 1958، وهي الرواية التي جلبت الكثير من المتاعب له، ويصفها للنقّاش قائلاً: "إلى جانب تلك المتاعب التي سببتها لي رواية ‘أولاد حارتنا’، من صدام مع الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية، كنت أتلقى أحياناً رسائل مليئة بالشتائم، وبأقذع الألفاظ، ولكنها لم تصل إلى حد التهديد بالقتل".
تعرّض محفوظ لمحاولة اغتيال عام 1994، وتبين أن ما قاله البعض عن رواية "أولاد حارتنا" بأنها تصوّر الأنبياء، وتسخر من الدين، قد وجد صداه عند بعض المتطرفين، فقرروا قتله، وقد نجا من هذه المحاولة التي كادت أن تنجح بعد علاج لأشهر عدة.
مع تولّي السادات الحكم في مصر قال نجيب محفوظ لزوجته: "هذا الأضحوكة هل سيصبح رئيساً لمصر؟"
تحدث محفوظ عن أزمة "أولاد حارتنا" قائلاً للنقّاش: "بدأت جريدة الأهرام في نشر الرواية، ومرّت حلقاتها الأولى دون أن تظهر أي ملاحظات عليها، فالجزء الأول من الرواية لا يسبب أية مشاكل، ولكن الأزمة بدأت بعد أن نشرت الصفحة الأدبية في جريدة الجمهورية خبراً يلفت فيه كاتبه النظر إلى أن الرواية المسلسلة التي تنشرها جريدة الأهرام، فيها تعريض بالأنبياء. بعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض ومن بينهم أدباء للأسف، في إرسال عرائض وشكاوى إلى النيابة العامة ومشيخة الأزهر، بل وإلى رئاسة الجمهورية، يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمي إلى المحاكمة. وبدأ هؤلاء يحرّضون الأزهر ضدي على أساس أن الرواية تتضمن كفراً صريحاً، وأن الشخصيات الموجودة في الرواية ترمز إلي الأنبياء، وخُدع رجال الأزهر في هذه الأزمة، لأنهم لم يحسنوا قراءة الرواية وفهمها، بل إن بعضهم لم يقرأ رواية أدبية من قبل، ومن هنا فسّروا رواية ‘أولاد حارتنا’ تفسيراً دينياً، ورأوا أن شخصية أدهم في الرواية ترمز إلى آدم، وشخصية جبل هي موسى، وشخصية رفاعة هي شخصية المسيح، أما شخصية قاسم فهي شخصية محمد عليه الصلاة والسلام... وهكذا دافع عن الرواية الأستاذ محمد حسنين هيكل ‘رئيس تحرير الأهرام’، ولولاه لكان توقف نشرها في ‘الأهرام’ فوراً".
المخبرون راقبوا زوجته
"أثناء نشر رواية ‘أولاد حارتنا’ مسلسلةً في الأهرام"، يتابع محفوظ في حديثه للنقاش، "كنت في تلك الفترة من رواد كازينو ‘أوبرا’، وفي الندوة الأسبوعية لاحظت وجود فتاة جديدة، وعرفت أنها ابنة أخت الدكتور حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر. كانت فتاةً ظريفة ولا أذكر اسمها الآن، وبعد إحدى الندوات التي حضرتُها، همست في أذني بأن سيارة محمّلة بمجموعة من العسكر، ومعهم ضابط برتبة كبيرة، ذهبت إلى بيتي لاعتقالي، وقبل أن تصل إلى منزلي جاءها الأمر بالعودة، وعدم إكمال المهمة. ولم تذكر لي الفتاة أي تفاصيل أخرى، ولا أعرف مدى صدق هذه الواقعة، كما لم أحاول التأكد من صحتها، ولكن أثناء نشر الرواية كانت زوجتي تشكو لي من وجود مراقبة مستمرة لها، وأن أشخاصاً لا تعرفهم يتتبعون حركتها كلما نزلت إلى الشارع وحتى في أثناء تجوّلها في السوق لشراء احتياجات البيت، وربما لو كنت أنتبه أثناء سيري في الطريق لاكتشفت أنني مراقب، ولكن الأفكار التي كانت تدور في ذهني وأنا أمشي، كانت تشغلني عن مثل هذه الأمور".
ويضيف محفوظ للنقّاش: "لم تكن انتقاداتي لثورة تموز/ يوليو في أيٍّ من كتاباتي موجهة ضد النظام، بل كنت أنتقد غياب الديمقراطية في هذا النظام، ولم تكن الديمقراطية من المحرّمات، بل هي المبدأ السادس من مبادئ الثورة التي أعلنت أنها تسعى لتحقيقه، وربما كان الكاتب الوحيد الذي كتب رواية يهاجم فيها النظام بشكل مباشر هو ثروت أباظة؛ ففي روايته ‘شيء من الخوف’، أظهر بوضوح موقفه من الثورة، وأعلن بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام القائم غير شرعي، وأن زواجه من مصر باطل. ليس معنى ذلك أنني كنت نائماً في العسل بعيداً عن المخاطر والمتاعب، بل في مرات عديدة كنت على حافة الهاوية".
روايات وأزمات
وعن الأزمات التي مرّ بها مرات عدة، يقول محفوظ: "أولى هذه المرات كانت بسبب قصة قصيرة نشرتها في ‘الأهرام’ بعنوان ‘سائق القطار’، وبعد النشر سرى الهمس في أوساط المثقفين، بأنني أقصد عبد الناصر. والقصة تدور حول سائق قطار يفقد صوابه، ويتسبب في حادث تصادم مروّع، وكان التفسير السائد هو أنني أشير إلى أن عبد الناصر يقود مصر إلى كارثة، ولك أن تتصور ما نتيجة هذا التفسير؟ ومن خلال مكالمات الأصدقاء التليفونية عرفت مدى خطورة القصة، وتأثيرها على الناس، وتوقع بعضهم اعتقالي حتى أن صديقي محمد عفيفي اتصل بي على غير عادته من دون مناسبة، وفي ساعة متأخرة من الليل، لكي يطمئنّ فقط على أنني ما زلت موجوداً في منزلي ووسط أسرتي. كل هذا جعلني أتوقع شراً محدقاً".
عام 1966، نشر محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، وتدور أحداثها في عوّامة على النيل، روّادها جماعة من المثقفين تجتمع في مجلس الكيف لتناقش همومها وهموم المجتمع، وهي إحدى الروايات التي سببت المتاعب لمحفوظ. وعنها يقول: "الأزمة، أو قل الورطة الثانية، كانت بسبب رواية ‘ثرثرة فوق النيل’. فبعد نشرها ثار المشير عبد الحكيم عامر، وبلغني أنه هدّد وتوعّد بإنزال العقاب بي، بسبب النقد العنيف الذي تضمنته الرواية عن سلبيات قائمة في المجتمع، وسمعه البعض وهو يقول ‘نجيب زوّدها قوي ويجب تأديبه ووقفه عند حده’، وعندما تخرج كلمة ‘يجب تأديبه’ من المشير عامر، فإنها تحمل معانيَ لا تخفى على الذين عاشوا في ذلك العصر".
تراجع المشير عامر عن تهديده بعقاب محفوظ بعد تدخّل عبد الناصر، ويكشف محفوظ كواليس هذه الأزمة قائلاً للنقّاش: "عندما جاء ثروت عكاشة لتهنئتي بجائزة نوبل حكى لي تفاصيل ما دار في كواليس السلطة عن أزمة رواية ‘ثرثرة فوق النيل’، فقد كان عكاشة وقتئذ وزيراً للثقافة. وبينما هو يستعد لرحلة عمل إلى إيطاليا، استدعاه جمال عبد الناصر وسأله عما إذا كان قد قرأ الرواية، ولم يكن قد قرأها، فقد طلب منه عبد الناصر قراءتها، وإبداء رأيه فيها بعد عودته من إيطاليا. قرأ الدكتور ثروت عكاشة الرواية أثناء رحلته، وفي أول لقاء له مع الرئيس عبد الناصر دافع عنها، وفنّد اتهامات المهاجمين لها، وأكد للرئيس أنني أنبّه إلى أخطاء موجودة، وليس لدي سوء نية في مهاجمة نظام الحكم".
النكسة ومتاعب ما بعدها
نُشرت رواية "المرايا" في مجلة الإذاعة والتلفزيون بدءاً من الأول من أيار/ مايو سنة 1971، في عهد وزير الإعلام محمد فائق، ونُشرت بعدها رواية "الحب تحت المطر" في مجلة "الشباب" في أواخر سنة 1972، ورفضت "الأهرام" نشرهما على صفحاتها.
وعن ذلك يروي نجيب محفوظ للنقّاش قائلاً: "كل تلك المتاعب لا تُذكر بجانب تلك التي حدثت بعد النكسة، ولم تكن خاصةً بي وحدي، بل قاسى منها كل أدباء مصر. وكانت أغلب معاناتي مع إدارة ‘الأهرام’، رفض الأستاذ هيكل نشر رواية ‘المرايا’، فنشرتها أنت في مجلة الإذاعة والتليفزيون، ورفض الأستاذ أحمد بهاء الدين عندما كان رئيساً لتحرير ‘الأهرام’ نشر رواية ‘الحب تحت المطر’، فنشرتها أنت في مجلة ‘الشباب’ بعد أن حذفَت منها الرقابة أشياء كثيرة، أما رواية ‘الكرنك’ فقد كانت أكثر الروايات التي عانيت في نشرها، حيث قدمتها إلى الأستاذ محمد حسنين هيكل، وبعد أن قرأها ظنّ أنها هجوم مباشر على عهد عبد الناصر، فحمل أصول الرواية، وذهب إلى مكتب توفيق الحكيم يشكوني إليه، وقد حكى لي الحكيم استنكار هيكل لما جاء في الرواية وقال له ‘يرضيك كده... خد شوف نجيب باعت لي إيه؟’".
أما قصة الرقابة مع "الكرنك" التي نُشرت عام 1974، فكانت حسب رواية محفوظ للنقّاش كما يلي: "كنت أجلس في مقهى ‘ريش’ عندما سمعت أخبار المعتقلات والقصص التي تروى عما حدث للمعتقلين السياسيين في سجون عبد الناصر، وقد تألمت كثيراً مما سمعت، وقلت في نفسي إن الكتابة عن هذا الموضوع مغامرة، وأغلب الكتّاب سيجدون رهبة وخوفاً من إثارته حتى لا يتعرضوا للأذى، فلماذا لا أكتب أنا عنه؟ إنني لم أعش تجربة الاعتقال، ولا أعرف تفاصيلها. ولكنني اقتنعت بإمكانية سرد الأحداث على لسان الراوي. وعندما انتهيت من كتابة ‘الكرنك’، قدمتها إلى عبد الحميد جودة السحّار لإصدارها من مكتبة مصر. وكان الأسلوب المتّبع في ذلك الحين هو أن تقوم دار النشر بجمع الرواية وإرسالها إلى الرقابة، وكان الرقيب آنذاك هو طلعت خالد، وكان يداوم على الاتصال بي تليفونياً بصفة شبه يومية، ليطلب حذف فقرة أو تغيير جملة، أو يبدي اعتراضاً على رأي معين، وهكذا إلى أن تم طبع الرواية، فاكتشفت أنه تم تشويهها، وأن الأصل مختلف تماماً عن النسخة التي طُبعت وظهرت في المكتبات، واعترضت وطلبت من السحّار وقف عملية النشر، ولكنه أقنعني أن الوقف معناه خسارة مادية كبيرة له". وقال محفوظ إنه سلّم أمره إلى الله ووافق على ظهورها بهذا الشكل المشوّه قائلاً: "‘الكرنك’ و‘الحب تحت المطر’، هما العملان الروائيان الوحيدان اللذان ظهرا بهذه الصورة الناقصة".
ويكمل محفوظ قائلاً إن "أغرب أزمة أثارتها الرواية ولم أكن أحسب حسابها، هي غضب صلاح نصر منها على أساس أنني أقصده بشخصية الضابط الكبير الذي أشرف على تعذيب أبطال الرواية. وعندما تحولت ‘الكرنك’ إلى فيلم سينمائي كتب له السيناريو ممدوح الليثي، ولعب دور الضابط فيه الفنان كمال الشناوي، فوجئت بصلاح نصر يرفع دعوى قضائية ضدنا بتهمة التشهير به، وأذكر أنني ذهبت مع ممدوح الليثي إلى المحكمة لحضور إحدى جلسات هذه القضية التي لا أذكر تفاصيلها الآن".
محفوظ والسادات
مع تولّي السادات الحكم في مصر قال محفوظ لزوجته: "هذا الأضحوكة هل سيصبح رئيساً لمصر؟". وعن شكل المتاعب التي تعرّض لها في عهده روى للنقاش قائلاً: "ربما كانت من أصعب المتاعب التي واجهتها في علاقتي مع السلطة، هو ما حدث في بدايات عصر السادات، وأقصد هنا تداعيات البيان الشهير الذي كتبه توفيق الحكيم، ووقّع عليه عدد كبير من الأدباء وكنت من بينهم، يعترضون فيه على حالة ‘اللا حرب واللا سلم’ التي كانت تعاني منها مصر. كان ذلك في أوائل عام 1973. وفي شهر شباط/ فبراير من ذلك العام إن لم تخنّي الذاكرة، سرعان ما صدر قرار بعزل الموقّعين على البيان، ومنعهم من الكتابة، ونشرت الصحف أسماء هؤلاء الممنوعين، وتم منع الحكيم وأنا، على الرغم من عدم نشر اسمينا في قائمة الممنوعين في الصحف. فتوقفت ‘الأهرام’ عن نشر أعمالي، ومُنعتُ من الحديث في الإذاعة والتليفزيون كما حدث مع غيري من الذين وقّعوا على البيان، ولكن بالنسبة لي كان هناك عقاب إضافي، وهو منع عرض أفلامي في التلفزيون، سواء أكانت هذه الأفلام مأخوذة عن رواياتي، أم كانت من الأفلام التي شاركت في كتابة السيناريو لها".
وأضاف: "استمرّت أزمة هذا البيان من 4 شباط/ فبراير إلى 28 أيلول/ سبتمبر 1973، ففي خطاب السادات في ذكرى رحيل عبد الناصر أعلن العفو عن الكتاب والأدباء المعزولين".
نجيب محفوظ ومبارك
أصدر نجيب محفوظ بعد "الحرافيش" (1977)، "ليالي ألف ليلة وليلة" (1982)، "رحلة ابن فطومة" (1983)، و"العائش في الحقيقة" (1985)، وكان عام صدورها قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره. لم تحدث متاعب شخصية لمحفوظ في عهد مبارك. ففي عهده حصل على جائزة نوبل، ومنحه مبارك قلادة النيل.
وقدّم محفوظ شهادته على عهد مبارك قائلاً للنقّاش: "شهادة لله والتاريخ، إن حسني مبارك شخصية ممتازة جداً ورجل نظيف، ومخلص ومهتم بمشاكل البلد، إلى جانب أنه مستوعب تماماً للتجربتين اللتين سبقتا حكمه، ومن هنا ركّز الرئيس مبارك جهوده على الإنتاج والتطوير في الداخل، وعلى السلام والعلاقات الحسنة في الخارج، وهي السياسة التي كنا نأمل في تحقيقها منذ اليوم الأول لثورة تموز/ يوليو عام 1952، ولكن من سوء حظ حسني مبارك أنه بدأ حكمه فوق بركة من الفساد والديون. أنا أثق في أنه رجل ديمقراطي وحريص على تطبيق الديمقراطية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون