تمارس قوى الإطار التنسيقي، ضغوطاً سياسيةً على حليفها ورئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، من أجل إنهاء الوجود الأمريكي في البلاد، ويتزعم هذه الضغوط، كلّ من ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، وائتلاف الفتح برئاسة هادي العامري.
العامري عبّر عن هذه الرغبات، في تصريح له، بمناسبة ذكرى تأسيس الجيش العراقي، أكد فيه انتفاء حاجة البلد إلى القوات الأجنبية، نظراً إلى فاعلية القوات الأمنية في مواجهة الإرهاب.
ولكن الولايات المتحدة، لا تزال متمسكةً بوجودها في العراق، وكذلك الحال بالنسبة لرئيس الوزراء الحالي، الذي أكد في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تمسكه بالتعاون الأمني مع الولايات المتحدة خلال اجتماعه مع السفيرة الأمريكية في بغداد، إلينا رومانوسكي.
بين الضغطين الأمريكي والإطاري، يعيش السوداني أزمةً في اتخاذ قراره السياسي، فهو لا يريد التخلي عن دعم واشنطن لحكومته من جهة، كما يرغب في الحفاظ على دعم الإطار التنسيقي له داخل البرلمان من جهة ثانية.
يعيش السوداني أزمةً في اتخاذ قراره السياسي، فهو لا يريد التخلي عن دعم واشنطن، كما يرغب في الحفاظ على دعم الإطار
الإطار الإستراتيجي
وقّع العراق اتفاقيةً أمنيةً مع الولايات المتحدة، إبان رئاسة نوري المالكي لمجلس الوزراء، في عام 2009، وعُرفت هذه الاتفاقية بالإطار الإستراتيجي، وحُددت بموجبها أواصر التعاون بين البلدين، في المجالات الاقتصادية والثقافية والقانونية، بالإضافة إلى التعاون الأمني، إذ نصت المادة الثالثة من القسم الأول منها، على أن وجود القوات الأمريكية مؤقت، وبناءً على طلب من الحكومة العراقية، بالإضافة إلى قسم خاص بالتعاون الاستخباري والتدريبي مع القوات العراقية.
ولم تحدد الاتفاقية سقفاً زمنياً لنهايتها، فيما أتاحت إمكانية تعديل بنودها، وعدّها سارية المفعول، ما لم يقدّم أحد جانبيها، إخطاراً خطياً لإلغاء العمل بها، على أن يسري مفعول الإلغاء بعد عام من تاريخ تقديم هذا الإخطار.
ورافق هذه الاتفاقية لغط كبير، يخص بنودها، إذ يزعم البعض أن رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، قد أعاد العمل بموجبها، بعد مفاوضاته مع الجانب الأمريكي في عام 2021، فيما يقول آخرون إنه عدّل بعض بنودها، ولكن النصوص الأساسية بقيت على حالها منذ عهد المالكي، ولكن الأخير تجنّب الإفصاح عن كافة بنودها وقتها، واكتفى بالإعلان عن الملحق الخاص بانسحاب القوات الأمريكية من البلاد، وهو ما تم بالفعل، في 18 كانون الثاني/ ديسمبر عام 2011، وعُدّ حينها، نصراً لحكومة المالكي.
وبالرغم من انتهاء مدة الملحق الأمني منذ عام 2012، لكن البرلمان أعاد التصويت على إلغائه، في 5 كانون الثاني/ يناير عام 2021، بعد يومين من اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي "أبو مهدي المهندس"، في عملية البرق الأزرق الأمريكية، قرب مطار بغداد الدولي.
تبرر القوى الموالية لإيران موقفها تجاه إلغاء الاتفاقية الأمنية مع واشنطن بانتفاء أسبابها بعد "استباب الأمن"، لكن هناك من يطرح مقابل هذا الأمر، حل الحشد الشعبي للسبب ذاته، بعد زوال تهديد داعش
وبحسب مصدر في المكتب الخاص بالكاظمي، فإن "الاتفاقية الأمنية كانت مقصورةً على التعاون الاستخباري فقط، وأن وجود القوات الأمريكية وقتها، لم يكن مستقلاً، ولكن كجزء من التحالف الدولي، في حين أعاد الكاظمي في عام 2022، تفعيل هذا الجانب، ومنح القوات الأمريكية حق التواجد المستقل في قاعدتي عين الأسد في محافظة الأنبار، وقاعدة حرير في إقليم كردستان، ضمن مساعيه لردع التجاوزات الإيرانية".
صراع طهران-واشنطن
لطالما كان الوجود الأمريكي، مرتكزاً إلى الصراع بين الكتل السياسية العراقية منذ عام 2003؛ ففي البداية طالب التيار الصدري بإخراج القوات الأجنبية، وخاض ضدها حروباً عدة ضمن عمليات المقاومة الشعبية وقتها، وكذلك الحال بالنسبة للسُنّة، في حين وقفت القوى السياسية المقربة من طهران إلى جانب القوات الأمريكية، على غرار عمليات المالكي العسكرية ضد التيار الصدري في مدينتي النجف والبصرة، بالإضافة إلى بغداد، كما شارك في اقتحام مدينة الفلوجة برفقة القوات الأمريكية عام 2006.
ولكن هذا الأمر تغير بعد عام 2007، وبدأت الكتل السياسية المقربة من طهران تطالب بإخراج القوات الأمريكية، وسبب ذلك يرجع إلى رغبة إيران في الانفراد في حكم العراق، بحسب الباحث المختص بالشأن الإيراني، مصطفى النعيمي، و"استمرت على موقفها، في حين لم ترّد الولايات المتحدة على هذه الدعوات حتى عام 2020، باغتيال سليماني، وأوحت بذلك عزمها استهداف أي تهديد ضد وجودها في العراق، بغض النظر عن جنسية المستهدفين".
ويفنّد النعيمي في حديثه إلى رصيف22، أسباب تحفيز طهران لهذه الدعوات حالياً، "كونها نابعةً من رغبتها في التخفيف من حدة اضطراباتها الداخلية، وزيادة موجة الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام فيها، وتحاول تحقيق هذا الطموح، عبر أذرعها السياسية في البرلمان".
الهيئة أدركت احتمال بروز دعوات لحلها، لذلك دفعت البرلمان، بمباركة من طهران، إلى إقرار قانون الحشد الشعبي
حل الاتفاقية... والحشد؟
تبرز ضرورة إعادة النظر في التعاون الأمني بين بغداد وواشنطن، بعد القضاء على تنظيم داعش الذي برر وجودها داخل العراق، بحسب النعيمي، ولكنه يؤكد في الوقت ذاته، على "ضرورة إعادة النظر في طبيعة نفوذ هيئة الحشد الشعبي ووجودها على الساحة، خاصةً أن دواعي وجودها قد انتفت أيضاً، بعد تحرير المناطق المحتلة من قبل تنظيم الدولة".
وبرأيه، "تزداد الحاجة إلى حل الحشد الشعبي، على خلفية المشكلات الجمة التي تسبب بها واعتداءاته على المواطنين، بالإضافة إلى استغلاله من قبل الحكومة الإيرانية في استهداف المناوئين لمشروع تمددها في المنطقة".
وكان المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف، علي السيستاني، قد أصدر في 13 حزيران/ يونيو عام 2014، فتوى الجهاد الكفائي، ونصت على "أن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي".
وضمن هذا السياق، يؤكد مصدر في قيادة عمليات هيئة الحشد الشعبي، أن "الهيئة أدركت احتمال بروز دعوات لحلها، لذلك نفذت خطوةً مسبّقةً لتجنب هذا السيناريو ودفعت البرلمان، بمباركة من طهران، إلى إقرار قانون الحشد الشعبي".
وصوّت البرلمان على قانون هذا القانون، في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2017، في ظل مقاطعة القوى السنّية والكردية له، وصرّح رئيس ائتلاف "متحدون" ونائب رئيس الجمهورية وقتها، أسامة النجيفي، بأن إقرار القانون سيضر بالعملية السياسية، وبأن بناء أي مؤسسات عسكرية جديدة خارج الجيش ستؤدي إلى تشتت الإدارة السليمة، وإضعاف الثقة بالمؤسسة الأمنية.
الأموال لمواجهة الإلغاء
عززت هيئة الحشد الشعبي وجودها بشكل أعمق داخل الدولة، من خلال تحقيق استقلاليتها الاقتصادية، كإجراء احتياطي، يُبعد مثل هذا المخططات عنها، بحسب قول المصدر لرصيف22، وباعتقاده، فإن "هذا الجانب سيدرّ موارد ماليةً إلى جيوب السياسيين ويمنع دعوتهم إلى حل الهيئة أو التفكير في مثل هذه الخطوة".
وكان مجلس الوزراء قد وافق في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، على تأسيس شركة المهندس، وربطها بهيئة الحشد الشعبي، وبحسب معهد الإمارات للدراسات السياسية، فإنه وبدخول هذه الشركة إلى الواجهة الاقتصادية، فقد خلق نموذجاً مشابهاً للحرس الثوري الإيراني في العراق.
ويوضح التقرير المنشور في 14 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أن "ارتباط الشركة بالحكومة والجماعات المسلحة في آن واحد، سيمنحها امتيازات خاصةً، تساعد في سيطرتهم على تدفق الدولار إلى السوق العراقي، بالإضافة إلى إدارتها المحتملة للريع النفطي العراقي، وتالياً تأثيرها على السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، وإخضاع الدولة لقرار القوى الموازية لها، والمتمثلة في قيادات الحشد الشعبي".
عزز الحشد الشعبي وجوده بشكل أعمق داخل الدولة، وستلعب شركة "المهندس" الدور الأبرز في تحقيق استقلالية اقتصادية للحشد في نموذج مستنسخ عن "الحرس الثوري"، فما هي خطوات واشنطن للرد؟
مثل هذه الخطوات، قد تبرر علاقة إيران بدعوات إلغاء الاتفاقية الأمنية، ولكن الولايات المتحدة تداركت بالفعل هذا الأمر، وفرضت قيوداً صارمةً على أسواق بيع الدولار في العراق، منذ مطلع العام الحالي، كإجراء لمنع تهريب الدولار إلى إيران، أو المساهمة في دعم اقتصادها المنهار.
عواقب حل الاتفاقية
لا تقتصر خطوات الولايات المتحدة ضد طهران على فرض القيود على سوق العملة الأجنبية في العراق، فقد عمدت إلى إضعاف بقية الاقتصادات المموّلة لها، في بيروت، بحسب النعيمي، الذي يشير إلى أنه "وبرغم محاولات الحكومة الإيرانية اللجوء إلى اقتصادات الظل المتمثلة في تجارة المخدرات، ولكنها أصبحت عاجزةً عن مقاومة الضغوط الأمريكية، وستعيش عزلةً تامةً، تدفعها إلى الخضوع تالياً، ومن ثم استبعاد قدرتها على تنفيذ مخطط إلغاء الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة".
من جهته، يلفت رئيس أكاديمية التطوير السياسي والحكم الرشيد، عبد الرحمن الجبوري، إلى إمكانية تعديل بنود الإتفاقية مع الولايات المتحدة، و"لكن إلغاءها صعب من الناحية الفنية، إذ لا يزال العراق بحاجة إلى دعم واشنطن، وشبكتها التي تسيطر على المؤسسات الأممية والاقتصادية، وتالياً، هو لا يستطيع تحمل معاداة واشنطن حالياً، والنتائج المرافقة لذلك من حيث فقدان الدعم المقدّم له من قبلها، في ظل الأوضاع الاقتصادية والأمنية الهشة التي يمر بها البلد"، بحسب تصريحه لرصيف22.
كذلك، هناك عوائق داخلية أخرى قد تعيق مثل هذه المساعي، وتبرز حاجة العراق الحالية إلى الدعم الاستخباراتي الأمريكي، في متابعة تحركات خلايا تنظيم الدولة عبر أقمارها الصناعية، بالإضافة إلى الخبرات التدريبية المتطورة التي تقدّمها واشنطن للقوات الأمنية العراقية.
ويشهد البلد زيادةً في نشاط خلايا التنظيم مؤخراً، ويعتقد مراقبون بأن هذا النشاط مرتبط بمحاولات طهران، إبعاد سيناريو حل الحشد الشعبي عن الواجهة، والإيحاء باستمرار الحاجة إلى وجوده، وهو إشارة أيضاً إلى أن التعاون الأمني مع واشنطن لم يبعد مخاطر التنظيم عن الأمن العراقي.
ووفقاً لجميع هذه المؤشرات، وما بين حاجة العراق إلى التعاون مع واشنطن والحشد الشعبي، فإن الجدل لا يزال قائماً، وسيبقى على ما يبدو، ضمن محاولات توظيف الوضع الأمني في حملات سياسية تستهدف تحقيق طموحات وأجندات خارجية، على أرض العراق، كما كان الحال منذ سنوات، وسيستمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...