ستيفن ترول، مدرّس اللغة الإنكليزية في منظمة إغاثية تُدعى "ميلينيوم"، يعيش في بغداد منذ عام 2019، أعلن حبه للعراق على صفحته في تويتر، كما عبّر عن إعجابه بالشعب العراقي، لكنه لم يدرِ أن مستقبله سينتهي مثله مثل ضحايا الوضع الأمني المتوتر في البلاد.
في مساء يوم 7 تشرين الثاني/نوفمبر، استهدف مسلحون مجهولون سيارة ترول، في منطقة الكرادة وسط بغداد، حيث يقطن مع عائلته، وأردوه قتيلاً، من دون مبرر.
السلطات العراقية أعلنت فتحها تحقيقات حول الحادثة، وبحسب وكالة الأنباء العراقية، فإن رئيس الوزراء الجديد وعضو الإطار التنسيقي الشيعي، محمد شياع السوداني، قد أوعز إلى وزير داخليته عبد الأمير الشمري، للمباشرة في التحقيق في الحادث، وصرّح السوداني في مؤتمر صحافي عقده عقب اجتماعه بمجموعة من القادة الأمنيين في مقر رئاسة الوزراء، أن "الوضع الأمني خط أحمر، والإساءة إلى البلد والتعدّي على المواطنين الأجانب المقيمين فيه، أمر لا يمكن الاستهانة معه".
تصريح رئيس الوزراء الحالي، لم يتضمن توضيح الإجراءات المتبعة كعادة سابقيه، وسرعان ما تطرق إلى بقية نقاط تصريحاته بعيداً عن الحادثة، وكذلك بالنسبة إلى سفيرة الولايات المتحدة في بغداد آلينا رومانوسكي، فهي لم تسارع إلى إعلان موقفها كما كان يفعل سفراء بلادها إزاء حوادث مماثلة أو أقل حتى، ونشرت بيانها بعد يوم من الحادث، على صفحتها الشخصية في تويتر، وقالت فيه: "نحن نراقب من كثب التحقيقات المحلية حول سبب وفاة المواطن الأمريكي"، وقدمت تعازيها إلى عائلته، وأنهت بيانها بعبارة: "ليس لدينا أي تعليق آخر".
استهدف مسلحون مجهولون سيارة ترول، في منطقة الكرادة وسط بغداد، وأردوه قتيلاً، من دون مبرر
ردود الفعل الباردة
وُصفت ردود الأفعال بالباردة وغير المعتادة إزاء هذه العملية، فالولايات المتحدة لطالما عُرفت بمسارعتها إلى انتقاد أي عملية موجهة ضدها أو ضد مواطنيها، ومنها انتقاداتها السابقة للقصف الذي طال مواقعها الدبلوماسية في بغداد وأربيل، وكانت تتهم المجاميع الإرهابية والمقربة من طهران بالضلوع في هذه الهجمات، مثل تصريحها ضد استهداف مجمع السفارة الأمريكية في بغداد بعد أقل من ساعة من استهدافه في 13 كانون الثاني/ يناير الماضي، وكذلك مسارعتها إلى انتقاد الهجمات الصاروخية الإيرانية التي طالت محيط قنصليتها الجديدة في أربيل يوم 13 آذار/ مارس الماضي، وعدّه انتهاكاً للسيادة العراقية وممتلكات المدنيين، كما هددت سابقاً بإغلاق سفارتها في بغداد في حال استمرار استهدافها.
مثل هذه الردود تثير موجةً من التساؤلات عن أسبابها، خاصةً أن السفيرة الجديدة، قادرة على توجيه أصابع الاتهام نظراً إلى خبرتها السابقة في مجال مكافحة الإرهاب، إذ كانت تشغل منصب نائب منسق دائرة مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية من عام 2016 وحتى 2020، ولكن على ما يبدو فإن هناك دوافع تحثّها على التهدئة.
الولايات المتحدة في موقف ضعيف حالياً أمام الحكومة العراقية، فهي ترغب في نفط البلاد وبسعر خاص، من أجل مساعدتها في تخطي أزمة الوقود التي تعاني منها، بعد أن رفضت السعودية ودول الخليج الموافقة زيادة إنتاجها النفطي وبيعه لواشنطن، بحسب مصدر في رئاسة الوزراء.
يقول المصدر الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، في تصريحه لرصيف22، إن الحكومة أدركت هذا الجانب، وتالياً لم تعطِ للعملية الأولوية في تصريحاتها، ولكنها وجهت بأهمية إجراء تحقيق سريع وكشف المتورطين ومحاسبتهم.
واشنطن وفقاً لذلك لا ترغب في توجيه أصابع الاتهام إلى فصائل معيّنة من شأنها أن تعكر مفاوضاتها مع الجانب العراقي، ويعزز هذه الفكرة، ترحيبها بتشكيل الحكومة العراقية بالرغم من الانتقادات التي وجهتها الصحافة الأمريكية إليها، والتي وصفتها بحكومة إيران الجديدة في المنطقة.
تقارب جديد أم مصالح
رد الفعل الأمريكي البارد إزاء مقتل ترول، لا يتوقف عند محاولة أمريكا ضمان نجاح مفاوضاتها النفطية مع العراق، ويقول مصدر سياسي في الإطار التنسيقي لرصيف22، إن الاجتماعات الأخيرة التي جمعت السفيرة الأمريكية ورئيس الوزراء وسياسيين آخرين في الحكومة، قد ناقشت أيضاً سبل تعزيز التوافق في المنطقة.
بحسب المصدر، "هي لا ترغب في زوال التأثير الإيراني على السياسة العراقية، خاصةً في ظل اعتقادها بأن هذه السياسة تشكل محور توازن في المنطقة، وتالياً تحاول تقريب وجهة النظر تمهيداً للخطوة القادمة".
لا ترغب الولايات المتحدة في زوال التأثير الإيراني على السياسة العراقية، خاصةً في ظل اعتقادها بأن هذه السياسة تشكل محور توازن في المنطقة، وتالياً تحاول تقريب وجهة النظر تمهيداً للخطوة القادمة
وكان رئيس الوزراء العراقي قد اجتمع بالسفيرة الأمريكية في بغداد، وبقائد قوات التحالف الدولي في العراق ماثيو مكفارلن، في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وبحسب المكتب الإعلامي لرئاسة الوزراء، فإن الاجتماع ناقش سبل تعزيز العلاقات الأمنية بين البلدين، وتوسيعها لتشمل الجوانب الاقتصادية والثقافية والعلمية وغيرها.
التوجّه الإيراني
من الجانب الإيراني، وبالرغم من الاعتقاد الشائع، أو محاولة حلفائها، إشاعة عدم رضاها على هذا التوافق، ولكن مؤشرات عدة تدل على تغيّر سياستها في المنطقة، نظراً إلى الموافقة التي أعلنها حزب الله الموالي لها، على الوساطة الأمريكية بين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية، والتي على أثرها أنهى حالة استنفاره المستمرة منذ عام 2006، وشكلت هذه الموافقة سابقةً جديدةً منذ عام 1985، حين فضيحة تزويد إيران بأسلحة إسرائيلية وبوساطة أمريكية، والتي عُرفت وقتها بإيران كونترا.
وجدير بالذكر أنه وبالرغم من توقف المحادثات التي بدأها رئيس الحكومة الأسبق مصطفى الكاظمي، للتقريب بين إيران والسعودية، ولكنها لم تصل إلى اتفاق مبدئي، وأبقى الطرفان على بعض قنواتها مفتوحة، وبحسب مصدر مقرب من الكاظمي، فإن توقف هذه المحادثات يستند إلى محاولات تقريب العلاقة بين طهران وواشنطن حالياً، بدلاً من الرياض.
العملية لم تكن سوى رسالة اعتراض من الفصائل المسلحة إلى الحكومة العراقية الجديدة وإيران في آن واحد، رفضاً للتقارب مع أمريكا
ويلفت المصدر في حديثه لرصيف22، إلى أن هذا التقارب ينبع من إدراك الطرفين بأن خلافاتهما المستمرة لن تثمر عن أي تقدم، وتالياً يتجنب الطرفان تأزيم الوضع بعد حادثة مقتل ستيفن ترول.
إيران بالفعل لم تتبنَّ العملية، كما لم تصدر أي تصريح رسمي بشأنها، فيما أعلنت أذرعها المسلحة والسياسية في العراق رفضها لاستهداف الأجانب، ومثالاً على ذلك، فقد نشر مسؤول المكتب الأمني لكتائب حزب الله في العراق، أبو علي العسكري، بياناً وصف فيه منفذي عملية الاغتيال، بـ"المرتزقة بلا ضمير"، ودعا الحكومة إلى الإسراع في الكشف عن الجهات المتورطة وتقديمهم إلى العدالة.
تشير أصابع الاتهام إلى سرايا أصحاب الكهف، وهي مجموعة مسلحة نشطة، سبق أن تبنت هجمات عدة ضد القوات الأمريكية، ويستند الاتهام إلى تهديدات سابقة، نشرها التنظيم في 30 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، على صفحته في تطبيق تليغرام، أطلقها ضد كل من أيّد أو له علاقة بالقوات الأمريكية، ولكنه لم يعلن تبنيه للعملية أيضاً حتى الآن.
خلافات الفصائل
لم تكن الخلافات الحاصلة بين الفصائل المسلحة بعيدةً عن واجهة الأحداث، ويعتقد البعض أن العملية تمّت برعاية إيران ولكن الأخيرة وأذرعها لا رغبة عندهم في تبنيها أو التصريح بالضلوع فيها، من أجل عدم الخوض في خلافات جديدة مع الولايات المتحدة.
في المقابل، هناك من يتحدث عن أن هذه العملية لم تكن سوى رسالة اعتراض من الفصائل المسلحة إلى الحكومة العراقية الجديدة وإيران في آن واحد، تعبيراً عن رفضهم لمثل هذه الخطوات.
ولكن مصدر مقرب من الفصائل، ينفي مثل هذه الاعتقادات، ويؤكد أن "الفصائل تعلن ولاءها للمرجعية الدينية في إيران، وهي تؤمن بأن قرار المرشد الأعلى الإيراني واجب الطاعة، وبذلك من المستحيل أن تكون هناك أي رسائل قد تدلّ على وجود اعتراض على الحكومة الإيرانية"، ولكنه يستدرك بأن الكثير من الأحداث تجري حالياً بعيداً عن علم قيادات الفصائل وتتم بشكل مباشر بين القيادة الإيرانية وفصائل معيّنة دون غيرها، وهو ما قد يمنع معرفة هوية المتهم الحقيقي في هذه العملية وعلاقته بفصائل المقاومة أم لا.
توقف المحادثات بين طهران والرياض يستند إلى محاولات تقريب العلاقة بين إيران وأمريكا حالياً، بدلاً من الرياض، إذ يدرك الطرفان بأن خلافاتهما المستمرة لن تثمر عن أي تقدم، وتالياً تجنبا تأزيم الوضع بعد حادثة مقتل ستيفن ترول
هذا الأمر يشمل أيضاً التيار الصدري، إذ برزت شائعات تشير بأصابع الاتهام إلى التيار الصدري ومحاولته ضرب التقارب الأمريكي مع حكومة السوداني، ولكن الأخير سبق أن أعلن عبر منشور نشره صالح محمد العراقي، المقرب من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في 20 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وضح فيه رفضه تشكيل أي مجاميع مسلحة جديدة أو القيام بأي عمليات من شأنها الإخلال بالوضع الأمني، ودعا للإبلاغ عن أيٍّ من هذه الممارسات.
يقول النائب السابق في البرلمان العراقي عن محافظة السليمانية، سركوت شمس الدين، في تصريح لرصيف22، إن هذه العملية كانت منظمةً جداً، وتشبه الأسلوب الذي تعتمده بعض الجهات المتطرفة، ويعتقد بأن هناك دوافع سياسيةً تقف خلف هذه العملية وتهدف إلى الإضرار بسمعة البلاد.
وبذلك تبقى هوية منفذ العملية طي الكتمان، ولائياً كان أم صدرياً أم من تيار جهادي. لا أحد يعلم، كما أن الخوض في تفاصيل التقارب الأمريكي-العراقي-الإيراني، سيكون بلا شك مجرد خوض في تخمينات، في ظل التقلبات التي تشهدها المنطقة، ولكن المؤكد أن الحكومة وُلدت بهذا الشكل نتيجةً للتقارب بين الطرفين، وهي تعمل بشكل مزدوج بينهما، فيما يذهب ضحية هذه الخطوات العديد من المواطنين والمقيمين، وستيفن ترول كان واحداً منهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون