في نهايات القرن التاسع عشر صدرت مجلة فكرية وأدبية في الإسكندرية كانت رائدة في التنوير والفكر في العالم العربي، ومارست تأثيراً عميقاً على جيل من الشباب المصري والسوري واللبناني الذين عملوا في مجال الأدب في العقود التالية: مجلة "الجامعة" التي أسسها فرح أنطون. كانت هذه المجلة منذ البداية منتبهة إلى متابعة التيارات الأدبية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية التي تتطور في العالم، وبذلك ساهمت مساهمة كبيرة في تداول الأفكار في العالم العربي.
فرح بن أنطون بن إلياس أنطون (1874-1922) صحافي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي واجتماعي ولد في طرابلس (لبنان). بعد أن أكمل دراسته تولى منصب مدير المدرسة الأرثوذكسية في طرابلس لعدة سنوات، وبدأ في الوقت نفسه العمل مع بعض المجلات. وفي عام 1897 انتقل إلى مصر بسبب الرقابة العثمانية التي خنقت الحريات في لبنان.
وفي الإسكندرية حيث استقر، أسس في عام 1899 مجلة "الجامعة" وكرس لها طاقاته كلها حتى باتت ثالث أهم مجلة في العالم العربي بعد "الهلال" و"المقتطف". وكان أنطون أول من نفذ مشروعاً مدروساً لترجمة الأعمال الأدبية الغربية الجيدة، وتقاطع عمله مترجماً مع عمله روائياً، فكثير من رواياته توازت بنيتها مع بنية الروايات التي ترجمها.
في عام 1905 انتقل فرح أنطون إلى أمريكا واستقر بمدينة نيويورك، وفي عام 1906 استأنف نشر مجلة "الجامعة" والصحيفة اليومية "الجامعة اليومية" التي لم يحالفها النجاح المأمول.
وفي عام 1909 عاد إلى مصر، وبالتحديد إلى القاهرة حيث واصل نشر مجلته، ولكنها لم تنجح في الصمود إلا لعام آخر، وفي السنوات التالية تفرغ لإعداد الأعمال الغربية للمسرح العربي، وكان المسرح من الأجناس الأدبية التي أظهر نحوها اهتماماً كبيراً.
التأثيرات الغربية على فكر فرح أنطون
ليس من قبيل الصدفة مهاجمة أنطون من المحافظين الذين اتهموه بنشر الهرطقة، ولكن في الواقع فإن الأفكار الجديدة التي طرحها كانت بمثابة نوع من الخميرة في الأدب العربي تهديه عندما تختمر إلى طريق التجديد الذي سينفذه الجيل التالي.
الأفكار الجديدة التي طرحها كانت بمثابة نوع من الخميرة في الأدب العربي تهديه، عندما تختمر، إلى طريق التجديد الذي سينفذه الجيل التالي
درس فرح أنطون في المدرسة المسيحية الأرثوذكسية في دير كفتين بلبنان، وبرغم أنها مدرسة دينية كانت تتميز بالانفتاح الكبير، فكانت على سبيل المثال تقبل طلاباً من جميع الأديان. ودرس التسامح الذي تعلمه غذّتْه وعززته قراءات واسعة أثرت على مستقبله وطبعت حياته بأكملها. في تلك المدرسة درس الأدب الفرنسي فأحس نحوه بحب شديد. ولم يكتف بهذا الحب بل مكنته معرفته باللغة الفرنسية من الاقتراب من الآداب الأوروبية الأخرى.
في الفرنسية، قرأ أعمال المؤلفين الألمان والروس يحركه في ذلك حب المعرفة والاكتشاف، لكي يقوم بعد ذلك بتعريف قراء مجلته "الجامعة" بالمؤلفين الأكثر أهمية ومدارس الفكر التي أغنت الحياة الثقافية في العالم.
تركت قراءة أعمال روسو بصمة حاسمة عليه مما جعله يطرح على قراء "المجلة" مقالات عديدة عن فكر الفيلسوف الفرنسي. واستعار أنطون من روسو الأفكار التي يمكنها أن تؤثر على الواقع العربي، وقد تقدم حلولاً لمشكلاته العديدة، فنجده على نحو محدد يمجد فكرة روسو عن ضرورة التعليم التي لا غنى عنها لإنقاذ ما هو جيد في الطبيعة البشرية ولا يمكن للمرء أن يأمل في إقامة مجتمع أفضل إلا بتشجيع تعليم البشر بمنأى عن التحيز والعنف والنفاق.
ومن الفلاسفة الآخرين الذين تأثر بهم فرح انطون الفرنسي جول سيمون وترجم عمله "المرأة في القرن العشرين". إن سيمون الذي يعترف له فرح أنطون مرات بإعجابه يوفر الوصفة الصحيحة التي إذا طبقت فستؤدي إلى الشفاء من الأمراض التي يعاني منها المجتمع العربي. وأصبحت مجلة "الجامعة" الناطق الرسمي لأفكار سيمون في العالم العربي إذ يدافع عنها أنطون ضد هجمات المنتقدين ويذهب إلى حد الإعلان عن أن الغرض من مجلته هو أن تكون بمثابة صدى صوتي لهذه المبادئ حتى تتمكن من اكتساب مناصرين لها في كل مكان بين العرب.
روح التنوير كانت تحرك أنطون لنشر الثقافة في كافة الطبقات الاجتماعية، اقتناعاً منه أن هذا من شأنه مساعدة العالم العربي في تحطيم التعصب والأفكار الجامدة.
والأسس في أفكار سيمون التي تبناها فرح أنطون بلا قيد أو شرط هي الاعتراف بالدور الرئيسي للمرأة التي تصبح عنصراً جوهرياً للعملية التربوية وتلقي في روح الأمة الأسس الصلبة التي يمكن تشييد الفضائل السياسية فوقها. ومن ناحية أخرى حق الجميع في تلقي التربية غير الدينية.
ويمكن أن يقال إن روح التنوير كانت تحرك أنطون لنشر الثقافة في كافة الطبقات الاجتماعية، اقتناعاً منه أن هذا من شأنه مساعدة العالم العربي في تحطيم التعصب والأفكار الجامدة وكل صنوف الظلامية التي يرجع إليها جميع أمراض الشرق، وأبرزها الطائفية التي يسميها "مرض العصر".
لم يعف فرح أنطون رجال الدين من الاتهامات وبصفة خاصة رجال الدين المسيحي الذين يتهمهم بأنهم بدلاً من محافظتهم على السلطة القديمة زرعوا في الناس مشاعر عدم التسامح تجاه الأديان الأخرى والتعصب والتحزب، التي شكلت عقبة في وجه التقدم. هكذا يحدد أنطون النضال ضد الجهل بغية الوصول إلى التعايش السلمي لملء التأخر الثقافي والاجتماعي للعرب.
ويرى فرح أنطون أن مؤلفين من أمثال تولستوي وهوغو وأرنست رينان يستطيعون بث تلك الروح التي تتسم بالتسامح بقوة أكثر من غيرهم من خلال أعمالهم، وكذلك تلك الرغبة في البحث عن الحقيقة التي هي وحدها يمكنها أن تكسب المعركة ضد التعصب، والخطأ حتى في الأعمال الرومانسية التي نشرها في تلك السنوات يعزو إليها أنطون ميزة تعزيز التجديد الداخلي للفرد الذي يتحقق عندما تتجذر بداخله مبادئ الخير والجمال الأخلاقي.
لذلك من الممكن التعرف في خلفيات الحركات والمدارس المختلفة التي تنتمي إليها الأعمال التي طرحها على الجمهور على تجانس في المحتويات والأغراض التي قصدت من أجلها والتي ظل فرح أنطون مخلصاً لها على مر السنين، مما يفرض علينا أن نراجع الحكم الذي يتردد عنه أحياناً فيما يتعلق بعدم اتساق خياراته.
إذا واصلنا النضال بلا كلل من أجل الخير والحق فسوف نحقق مستقبلاً يسوده السلام والتضامن من خلال مراحل مختلفة من التطور، يدرك فيه الجميع أن الحقيقة والفضيلة ليستا حكراً على مجموعة واحدة أو على شعب واحد أو على أمة واحدة. وبمجرد الاتفاق على هذه الحقائق الأساسية والتعامل مع البشرية جمعاء كأسرة واحدة ستسود الحرية والأخوة في كل مكان.
ووضع هذا التصور عن تقدم البشرية يمكن تعريفه بأنه ثوري، خاصة في ما يتعلق بالثقة التي يؤمن بها أنطون بالإنسان وقدرته على التقدم وتجاوز المراحل المترتبة عليه. ويقتنع أنطون بأن العرب وبقية البشرية سيتمكنون في المرحلة الأخيرة من التطور من اتخاذ الخطوة النهائية لنموهم وتحرير أنفسهم من الأوهام والتحيزات وتبني الدين "الطبيعي"، ولن يؤدي هذا بطبيعة الحال إلى انتصار الوحدة في العالم، فهو أمر مستحيل تحقيقه، ولن يستند هذا النظام إلى الوحدة بل إلى "التنوع في الوحدة"، مما يعني احترام تعدد الأفكار.
هذه المرحلة الأخيرة التي تصل فيها الإنسانية إلى الكمال والتي ستتحقق عندما يتم تبني الدين الطبيعي وقوامه الاحترام والتسامح. وهي تتطابق مع مرحلة ذاكرة الطبيعة لجان جاك روسو حيث يتم محو القلق والانزعاج والظلم والوهم والجبن والسفاهة التي سببها انتهاك الإنسان للنظام الطبيعي.
لم يعف فرح أنطون رجال الدين من الاتهامات، وبصفة خاصة رجال الدين المسيحي الذين يتهمهم بأنهم بدلاً من محافظتهم على السلطة القديمة زرعوا في الناس مشاعر عدم التسامح تجاه الأديان الأخرى والتعصب والتحزب
يصوغ فرح أنطون رؤيته الشخصية حيث تساهم عناصر فلسفة التنوير وفلسفة التطور الوضعية المتناغمة مع العوامل النمطية للمثالية الرومانسية في ميلاد تصور فلسفي خاص يتخلله ذلك الشعور الديني العميق المستوحى من المسيحية البسيطة والبدائية التي تتكثف على نحو خاص في "موعظة الجبل" التي وردت في الإنجيل.
وعلى ذكر الفلسفة الوضعية ساهم فرح أنطون في نشرها في العالم العربي، فضلاً عن تأثره الواضح ببعض جوانبها، وهو كرّس مقالات لأهم ممثليها مثل أوغست كونت وهربرت سبنسر، وقد تأثر بفكر كونت في تبنيه فكرة تسليم الحكم في كل دولة للحكماء من أهلها، لأنهم هم الذين يعرفون كيف يؤسسون دولتهم على معاني الواجب والخدمة لصالح الآخرين.
أعماله وترجماته
أثارت كتابات فرح أنطون الجريئة وأفكاره التنويرية التي تدعو إلى التسامح ونبذ التعصب واحترام عقول الناس عدداً من الكتاب السلفيين ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، فكتبوا منتقدين فكره ومتهمين إياه بالإلحاد والعلمانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...