تبدو القاهرة بالنسبة لي مكونة من طبقات عديدة، متاهة يدور فيها الناس حول أنفسهم، اتساعها يجبر كل شيء فيها على الاختلاف. ثمّة أشياء تضاف أو تنقص كلما اتجهنا من وسط المدينة إلى أطرافها، وكأنه تحور ما... تطور أو انحطاط. الأمر يتفاقم أكثر عندما نخرج من العاصمة، ونتجه إلى محافظات مصر الكثيرة والممتدة على مساحتها الشاسعة، بلاد يتوه فيها العباد، واختلافات أكبر من أن تحصى أو تُجمع في دراسة سوسيولوجية واحدة.
إلى جانب فوضى البنايات والمركبات والكائنات الحية باختلافها، الطعام والخضار والفاكهة والرسومات والألوان والعناصر التي لا يمكن تصنيفها، ثمة شيء ثابت ويومي نراه في كل مكان، إنها الملابس، القطع التي تغطي الأجساد وتتنوع تنوعات مذهلة، تمنحنا صورة كبيرة عن اختلاف الثقافات في هذا المجتمع، فخلف كل زيّ طبقة وانتماء وهوية ورغبات دفينة.
طبقات الملابس وطبقات المدينة
الأزياء في مصر تمتد من كونها مجرد عنصر خارجي ربما غير مهم لدى الكثيرين، إلى رصد لحياة وتغيرات مجتمعية، وتفاوت كبير يحدث شيئاً فشيئاً بين سكانها، لا يمكننا إلا ملاحظته وتتبعه حين نتمشى في منطقة وسط البلد، ثم ننتقل سريعاً إلى مول من المولات الشاهقة في الأماكن الجديدة وبالقرب من العاصمة الإدارية. وعند الدخول إلى الشوارع الضيقة الفرعية، والتجول في المناطق العشوائية والشعبية، والنظر إلى المحلات المتواجدة في هذه الأماكن، سوف نفهم كيف تتغير الهوية بتغير الملابس، أو حتى تُحدد وتُعرّف.
الأزياء في مصر تمتد من كونها مجرد عنصر خارجي ربما غير مهم لدى الكثيرين، إلى رصد لحياة وتغيرات مجتمعية، وتفاوت كبير يحدث شيئاً فشيئاً بين سكانها
ثمة خفة تزداد كلما اتجهنا للأعلى، هذه الجملة يمكن أن تختصر الكثير من الشرح، لأن ملابس النساء واحدة: فساتين، بلوزات، بناطيل، تنانير، قمصان، تيشرتات، عباءات، لكن ما الذي يجعلها تختلف هذا لاختلاف الكبير من مكان لآخر؟
الاحتياجات تفرض على توزيع الملابس هذا التفاوت، وبالتأكيد القدرات المالية، والتربية الاجتماعية ومستوى التدين. الملابس في نظر البعض ليس لها سوى مهمة واحدة هي التغطية، بينما بالنسبة لآخرين هي إبراز للشخصية، وجذب نظر، وتميّز، وإثبات ثقة واعتداد بالنفس.
وإذا رصدنا ثلاث فتيات من أماكن مختلفة، الأولى تتمشى في مول ضخم لامع، تتفرج على واجهات المحلات التي تحمل أسماء لعلامات شهيرة، بينما تتمشى الثانية في وسط البلد، في شارع 26 يوليو أو قصر النيل، وتتجه الثالثة إلى محل مجاور لبيتها، في جسر السويس أو شبرا، كيف ستختار كل فتاة ملابسها؟ وما الذي ستحويه حقيبتها في نهاية المشوار؟
بنت الـ"هاي كلاس"
الأولى ستدخل محلاً يحمل اسماً تعرفه ويعجبها، ربما علامة لا هي بالراقية الباهظة ولا هي بالمجهولة بلا تصنيف، تلجأ معظم فتيات الطبقة فوق المتوسطة في مصر إلى علامات اسكندنافية وتركية شهيرة، مثل زارا و h&m، وlc Wakiki، هنا سيمكنها إيجاد ما تحلم به.
قطع بخامات جيدة وخفيفة، لن تجعلها تضيف طبقات فوق طبقات لتلائم معايير الشارع، ستشتري فستاناً بكمين إلى المرفقين إن كانت غير محجبة، أو بكمين طويلين لو كانت محجبة، ستشتري بنطلوناً مُريحاً ومعطفاً يمنحها رقيّاً ملحوظاً وتنورة جلدية رائجة، وستتمكن هذه الفتاة من السير في الشارع بملابسها التي تناسبها بلا مشاكل. ستختار ألواناً محايدة، وربما تختار ألواناً لافتة إن كانت أكثر انطلاقاً وتحرراً.
إذا رصدنا ثلاث فتيات من أماكن مختلفة، الأولى تتمشى في مول ضخم لامع، بينما تتمشى الثانية في وسط البلد، وتتجه الثالثة إلى محل مجاور لبيتها، في جسر السويس أو شبرا، كيف ستختار كل فتاة ملابسها؟ وما الذي ستحويه حقيبتها في نهاية المشوار؟
بنت وسط البلد
الفتاة في وسط البلد، في المقابل، ستدخل إلى أول محل تغريها واجهته. الفساتين جميلة وملونة، وتنسيق الملابس على المانيكانات مثير: توبات بكتفين منسدلتين وتنانير متوسطة الطول، ربما شورتات مع قمصان مغرية، وفساتين قصيرة عارية الظهر أو من خامات شفافة مثل الشيفون والدانتيل المخرّم.
ستختار الفتاة فستاناً جذاباً ثم تتجمّد أمام كل هذه الفتحات التي يجب إغلاقها، فتضيف قميصاً ضيقاً أسفله وربما ليغينغ على الساقين، وسترتدي سترة فوقه، لأن الملابس هنا لا تناسب مجتمعها، فهي مستوردة من أماكن لا تهتم كثيراً بمشاكل فتاة تعيش في طبقة متوسطة أو أقل في مدينة عربية مزدحمة. وقد تصير عرضة للتحرشات إن ارتدت فستاناً قصيراً في الشارع، وتُمنع من الخروج من المنزل لو رآها شقيق أو أب أو حتى ابن. هكذا تخرج الفتاة بأكياس كثيرة، فيها ما يمحي شكل الفستان مع إضافة طبقات تغطّيه، كي تمّحي معه هوية الفتاة أيضاً، وتندمج وسط هويات كثيرة مشابه وتتحول إلى... لا أحد.
البنت الشعبية
بعيداً عن سطوة القاهرة
تختلف الصورة في بعض الأحيان في المدن الأخرى البعيدة عن مركزية القاهرة، ففي مدينة تعتمد على البضائع المستوردة مثل بورسعيد، وأخرى بمستوى معيشي ربما أعلى قليلاً مثل المحلة الكبرى أو الزقازيق، يعتمد السكان بشكل أكبر على التجارة الخاصة، فترتدي الفتيات ملابس أكثر قيمة، ولا يحدث مثل هذا التفاوت الكبير بين طبقات المدينة. الفترينات تعرض ملابس جيدة بشكل ما، كما تملك الفتيات في المدن الصغيرة مقدرة على التنسيق والتبديل. وربما لمحدودية الخيارات، يضفن أكسسواراً أو يمزجن بين الألوان بشكل جذاب، يمنحهن تفرّداً كي لا تضعن في زحام متوحش كزحام القاهرة.
وفي مدن أخرى، تتشابه الأزياء مع الطبقتين الثانية والثالثة في مثال القاهرة، ملابس لا تعيش، وصيحات موضة زائلة، وألوان غير محايدة، إنها قطع للاستخدام الواحد أو الاثنين، مصنوعة لإرضاء حاجة السكان للتميّز والرضا ولو لوقت قليل. وفي هذه المدن الصغيرة التي لا تضم مولاً ولا توكيلات لعلامات تركية، تلجأ الفتيات من الطبقات الأعلى إلى السفر للعاصمة، لشراء الملابس المختلفة، وإبعاد أنفسهن عن مجتمعهن بأكمله. أما في مدن وسط الدلتا، فمن الصعب رؤية فتيات يرتدين ملابس مكشوفة أو لافتة، إلا في الأماكن المغلقة، مثل مراكز التجميل أو داخل البيوت.
عادة ما تنتقل النساء بالسيارات من وجهة إلى وجهة، ولا يظهرن بشكل كبير، إلا خلال التسوق أو المناسبات، ورغم هذا الابتعاد أو "الارتقاء" عن بقية الطبقات، سنلاحظ التشابه التام بينهن: الإيشارب المعقود إلى الخلف لدى المحجبات، القرط في الأنف، التاتو على اليدين، الصندل الفخم والبنطلون القصير مع القميص، أو الفستان المفتوح والخفيف.
محلات كل البضائع والماركات المزيفة
انتشرت مؤخراً محلات البضائع المتفرقة الرخيصة حتى في المولات الكبيرة والأماكن الراقية، حيث تتنوع المنتجات من توك الشعر إلى النظارات الشمسية، الحقائب والأحزمة والأقراط والتاتو المؤقت وأدوات العناية بالجسم والبشرة والمكياج، وحتى الألعاب ومراوح اليد وربما الأدوات المكتبية والمنزلية.
تحمل الفتيات سلالاً صغيرة تزدحم بعد بضع دقائق بمشتريات كثيرة، يغريهن السعر القليل لكل عنصر على حدة بالشراء، وفي النهاية تدفع الفتيات مبالغ مرتفعة في أشياء ربما لن يستخدمنها أبداً، مثل الحقائب الصغيرة جداً، اسفنجات توزيع المكياج وأكسسوارات الشعر.
أما الظاهرة الثانية فهي انتشار الملابس والأكسسوارات التي تحمل توقيعاً مزيفاً لعلامة كبرى، مثل شانيل وديور ولوي فيتون، وتتدرج درجة التزوير من الهاي كوبي إلى تلك المقلدة برداءة. ولأن العالم صار قرية صغيرة، لم يعد من الصعب إدخال البضائع المهربة من الدول العربية والآسيوية والأوروبية، سواء كانت أصلية تماماً (وهذا في حالات نادرة) أو مقلدة بدرجات متفاوتة، لكن ثقافة الأزياء المنخفضة أصلاً في مصر، لا تسمح للكثيرات بمعرفة الفارق، والتعرف على لوغو علامات شهيرة مثل شانيل وديور، أو طبعات صارخة للوي فيتون وبربري.
صور المقال من تصوير أحمد الكيّال.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحلو نعرف ان كان اسلوب البرنامج ينجح في خلق نقاش حقيقي حول قضايا حقوق المرأة...
Chrystine Mhanna -
منذ 5 أيامصعب يا شربل.. معظم الناس لا يتحدثون صراحة عن تجاربهم الجنسية/الطبيّة وهذا ما يجعل من هذا الملف ضروري
Ahmed Gamal -
منذ أسبوعتقديم جميل للكتابين، متحمس اقرأهم جداً بسبب المقال :"))
Kareem Sakka -
منذ أسبوعما وصلت جمانة لهون الا بعد سنين من المحاولة بلغة ألطف..
Charbel Khoury -
منذ أسبوعموضوع مهم، وغير مسلط الضوء عليه كثراً في المواقع المستقلة.
يا ليت استطعنا قراءة تجارب أكثر.
Farah Alsa'di -
منذ أسبوعبحب كتابات جمانة حداد بالعادة، بس مرات بحس أنه اعتمادها الأسلوب الاستفزازي ما بحقق الهدف اللي هي بتكتب عشانه