لا يزال الجدل في تونس مستمراً حول منع بث فيلم "محمد رسول الله" الإيراني، على قناة محلية بقرار قضائي. أثار القرار سجالات عنيفةً بين القناة التي كانت تنوي بثه، والقضاء، وكذلك بين معسكرين هما المعسكر المحافظ الذي يعارض بشدة تصوير النبي محمد وتجسيده، وبين العلمانيين الذين يؤكدون أن لا حدود لحرية التعبير.
ترتّب على هذا القرار، الذي جاء في وقت تسود فيه مخاوف من تراجع محتمل عن الحريات، جدل واسع بالرغم من أن قرار منع الفيلم الذي أخرجه الإيراني البارز مجيد مجيدي، لم يقتصر في الواقع على تونس فحسب، إذ منعته في السابق المملكة العربية السعودية.
تنديد واسع
منذ إعلان تلفزيون "التلفزة تي في"، وهي قناة خاصة أنشئت بعد الثورة، عن إبلاغها من قبل القضاء بمنع بث فيلم "محمد رسول الله"، لم تهدأ ردود الفعل داخل الأوساط الإعلامية والثقافية، خاصةً أن هناك من يرى أن المنع لن يزيد إلا الرغبة في مشاهدته.
وقال الصحافي فاهم بوكدوس: "إن ضغوطاً بالجملة مورست على قناة ‘تلفزة تي في’، من أجل عدم بث فيلم ‘محمد رسول الله’، ومنذ عرض البرومو لم تظهر أي اعتراضات أو انتقادات من الجمهور لبثه من الجمهور التونسي، ويرجح أن ما يحدث هو لإرضاء جهة أجنبية".
بدورها، انتقدت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، وهي هيئة دستورية، القرار القضائي بشدة، قائلةً في بيان لها، إنها تدين كل تعدٍّ على حرية الإعلام مهما كان مأتاه، وتدعو كل القضاة والمؤسسات والهياكل ومكونات المجتمع المدني إلى رفض هذه الممارسات والمحافظة على المكتسبات والعمل معاً على تركيز دولة مدنية ديمقراطية قائمة على احترام القانون والمؤسسات".
ورفضت نقابة الصحافيّين التعليق لرصيف22، على الحادثة، لكنها أكدت ضرورة احترام حرية التعبير.
منذ إعلان تلفزيون "التلفزة تي في"، وهي قناة خاصة أنشئت بعد الثورة، عن إبلاغها من قبل القضاء بمنع بث فيلم "محمد رسول الله"، لم تهدأ ردود الفعل داخل الأوساط الإعلامية والثقافية
من جانبه، علّق الصحافي التونسي، فاطين حفصية، على الأمر بقوله: "إن ما حدث يؤكد وجود شرطة دينية بغطاء قضائي".
أثار هذا الفيلم منذ عرضه الأول في العام 2015، جدلاً واسع النطاق، ومنعته الرياض بعد أن اتهمته هيئات دينية عدة بأنه يسيء إلى الرسول محمد. وتكتسي الأعمال الدينية في تونس أهميّةً خاصةً، ولطالما أثارت سجالات قويةً بين الإسلاميين والمحافظين من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى، لا سيما بعد ثورة الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011، التي أفرزت مشهداً سياسياً سيطر عليه الإسلاميون.
مخاوف من اتساع رقعة الرقابة
لكن الأمر مختلف اليوم، فالإسلاميون غادروا الحكم بعد أن أطاح بهم الرئيس قيس سعيّد، في العام 2021، بإجراءات وصفتها حركة النهضة الإسلامية بالانقلاب. ويُعدّ الرئيس سعيّد، محافظاً بشكل كبير من خلال مواقفه في شأن الإعدام والمساواة في الميراث وغيرها من القرارات المثيرة للمخاوف مثل سنّ قانون "الجرائم الإلكترونية"، الذي وُصف بالزجري.
يرى النائب في البرلمان المنحل، حاتم المليكي، أن "سياسات رئيس الجمهورية زجرية أكثر منها إصلاحية، فمعظم القوانين إن لم تكن كلها تتضمن عقوبات غير متناسبة مع الأفعال وتعتمد على الترهيب باستعمال القانون والقوة العامة والسجن والغرامات الكبيرة، وحرية الإعلام لا تخرج عن هذه السياسة".
وأضاف المليكي في حديث إلى رصيف22، أن "توجه رئيس الجمهورية في حرية التعبير والإعلام هو توجه زجري وهناك توقيفات في هذا الإطار. التذرع يحدث دائماً باسم المؤامرات، ولكن في جميع الحالات توجه الرئيس يميل إلى الجانب الزجري".
بعد منع بث فيلم إيراني عن سيرة النبي محمد في تونس. تجدّد المخاوف من أن تتجه البلاد نحو سياسة رقابية تحاصر مجالات الثقافة وتمتد إلى حرية الرأي والتعبير
ورأى المليكي، أنّ "ما يمكن تأكيده هو أن أي عملية منع غالباً ما تعطي آثاراً عكسيةً إذ يزيد الاهتمام بالموضوع، وفي التطورات التكنولوجية من الصعب مراقبة عملية البث التي تحدث عبر وسائط أخرى".
وأضاف: "في تقديري، هذا المنع لن يزيد إلا من تأزيم الأوضاع من خلال التضييق على الحريات، ما قد يشجع الناس على اللجوء أكثر إلى العنف".
وجاء هذا الجدل مع مثول مدير موقع إلكتروني إخباري بارز، هو رضا الكافي، أمام القضاء، ما يضاعف من التوجس في شأن مستقبل الحريات في بلد يعطي فيه الشارع الأولوية لتحسين الاقتصاد على حساب الحقوق والحريات بعد سنوات من الركود والتهميش.
وقال الصحافي محمد صالح العبيدي، إن "منع الفيلم أو أي مادة ثقافية أو إعلامية لا يمكن أبداً القبول به، لكن حتى نكون منصفين هذا ليس جديداً في تونس، إذ تم التهجم في وقت سابق من العقد الأخير على مؤسسات إعلامية بسبب أفلام، من بينها قناة نسمة في العام 2012".
وأوضح العبيدي في حديث إلى رصيف22، أن "المشهد اليوم مختلف إذ نحن إزاء رئيس محافظ أولاً، وشعبوي في الآن ذاته، ونحن أمام انفراد في القرار إذ لا توجد تشاركيّة في رسم السياسات العامة للدولة، وهو ما يُعدّ مدعاةً للقلق من تكريس رقابة في المرحلة المقبلة، خاصةً بعد إصدار المرسوم 54 المثير للجدل".
وشدد على أن "الحل يكمن في رفع أي رقابة، سواء على المواد الإعلامية أو الثقافية أو السياسية، لأنه لا يمكن أبداً خنق حرية التعبير، وأي تضييق لن يزيد إلا من متاعب السلطة نفسها".
وفوجئ المتابعون للشأن الإعلامي هذا العام، بتغليب البرامج الرياضية، سواء إذاعياً أو تلفزيونياً، على البرامج السياسية التي كانت تمثل عادةً فضاءً حراً للأطراف السياسية المتنافسة من أجل التعبير عن آرائها وتوضيح سياساتها مع الانفتاح الإعلامي غير المسبوق الذي عرفته البلاد بعد الثورة.
ومن غير الواضح ما إذا كانت السلطات تتجه إلى تكريس الرقابة، كتوجه سياسي، خاصةً أن الرئيس سعيّد، لم يلمّح إلى ذلك، لكن بعض الخطوات أثارت مخاوف مشروعة خاصةً في ظل انتقال سياسي هش ومحفوف بمخاطر هزات اجتماعية في ظل التدهور الاقتصادي غير المسبوق الذي تشهده تونس.
وكان الرئيس قد قاد البلاد بعد سنة من الحكم الاستثنائي إلى تغيير دستور 2014، واستبداله بآخر جديد أعادها إلى نظام الحكم الرئاسي المطلق، ما جعله في مرمى اتهامات المعارضة بتكريس "ديكتاتورية جديدة"، وهو ما ينفيه الرجل الذي يقول إنه في صدد تصحيح مسار الثورة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...