شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
في شَعري خبّأتُه وبين نهديّ دفّأته... الحرير، حكاية بطلتُها المرأة

في شَعري خبّأتُه وبين نهديّ دفّأته... الحرير، حكاية بطلتُها المرأة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 23 يناير 202311:51 ص

قبل اكتشاف الحرير النباتي أو الصناعي، لدود القز تاريخ عريق على امتداد طريق الحرير الشهير، وحكاية طويلة بطلتها امرأة. وفي أيّ زمان ومكان حلّ الحرير فيه تناسجت خيوط حكايته على يد المرأة. بداية مع أميرة صينيّة فكّت الحصار عنه ولم تبقه رهن أسوار الصين، انتقالاً إلى جزر اليابان فأوروبا والعالم. ولم يكن العرب بمنأى عن حبكة هذه الرواية المُربحة. في حين أنّ المرأة اللبنانيّة شكّلت عمدة اقتصاد الحرير في حقبة ليست ببعيدة. ومثلما أحيته فأحياها، نَكبَها بِنَكبتِه في بدايات القرن العشرين.

حل خيوط الحرير، من كتاب "القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال" لأنيس فريحة

بدخول الحرير، تربيةً وإنتاجاً وتجارة وثقافة، في التاريخ اللبناني، انسلّ بطبيعة الأمر إلى المتخيّل الروائي مثلما ترسّخ في الذاكرة الجمعيّة من خلال الأمثال الشعبيّة. لم تغب عن بال أنيس فريحة ضرورة جمع التراث القروي وفولكلوره، فكتب "القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال" (1957)، ليتابع فواز طرابلسي كتابات في الثقافة الشعبية ويصدر كتابه "إن كان بدّك تعشق..." (2005)، وهو –أي طرابلسي- مترجم رواية "حرير"(إصدار 1996/ ترجمة 2010) للإيطالي أليساندرو باريكو، وقد حوّلت إلى فيلم (إخراج فرنسوا جيرارد، 2007).

بوستر فيلم "حرير" 

في شَعر المرأة وبين نهديها أبصر الحرير النور

بين اقتصاد الحرير والثقافة الشعبية لأهالي جبل لبنان تنعقد أكثر من صلة، بل يرتبط الحرير بالمرأة في علاقة يراها فواز طرابلسي سحرية. ويروي تاريخ اكتشاف الحرير لأول مرة في الصين على يد الأمبراطورة "سي لينغ تشي"، ليحتكر الصينيون إنتاجه لأكثر من عشرين قرناً، وينتقل في القرن الرابع ميلادي إلى خارج الصين على يد أميرة صينيّة تزوجت من أمير مملكة بوخاريا، وقد هرّبت كمية من بزر الدود (بويضات دود القز) في شعرها إلى مملكتها الجديدة.

في ذلك الوقت كان أحد أمراء اليابان يوصي النساء بقوله: "ليكن جسدكنّ مقاساً لتحوّلات الدفء والبرد في تربية الدودة". يبدو أن نساء الجبل اللبناني عملن بهذه الوصيّة بالفطرة، وأيضاً لقلّة حيلة الفقيرات اللواتي ليس بمقدورهنّ إرسال "البزر" إلى "المداخن"(أي المناحل، والمنحل غرفة دافئة يشعلون فيها النار ويحكمون سد النوافذ والثقوب)؛ فوضعنه في أكياس صغيرة من الشاش وعلّقنها في الأعناق، لتفقس البيوض بعد أيام في دفء النهود. لكن القزويني جاء على ذكر هذه التقنية محذّرا من استخدامها كي لا يتلف الإنتاج لارتفاع درجة حرارة الجسم (37 درجة) بينما الحرارة المطلوبة للتفقيس هي (25 درجة).

وفي كتابه "تاريخ بيروت" يذكر سمير قصير أنّ الحرير، في السنوات 1853-1856، بات يتصدّر المرتبة الأولى في الصادرات عبر مرفأ بيروت، ويحتل ربع الحجم العام. وفي تلك المرحلة (منتصف القرن التاسع عشر) راجت أيضاً تربية دود القزّ لتصل إلى 65% من إنتاج جبل لبنان، ولتبلغ تجارة الحرير أوجها مع اقتراب نهاية القرن، وبدء مرحلة جديدة من نقص الإنتاج.

تم اكتشاف الحرير لأول مرة في الصين على يد الإمبراطورة "سي لينغ تشي"، ليحتكر الصينيون إنتاجه لأكثر من 20 قرناً، وينتقل في القرن الرابع ميلادي إلى خارج الصين على يد أميرة صينيّة تزوجت من أمير مملكة بوخاريا، وقد هرّبت كمية من بزر الدود (بويضات دود القز) في شعرها إلى مملكتها الجديدة

كان للعرب دور بارز في تعميم تجارة دود القز، وتوزيعه في أرجاء العالم القديم: من إيران إلى القفقاس، إلى إسبانيا فصقلية ابتداءً من القرن الثامن. لتغدو مدينة باليرمو (في جزيرة صقلية) أحد المراكز الأساسية للحرير في حوض المتوسّط. ومدينة ليون الفرنسية مركزاً لتصنيع الحرير في بدايات القرن الثامن عشر. يصف طرابلسي طريق الحرير التجاري وقد ربط الشرق بالغرب في العصور القديمة (وصل الصين بساحل المتوسط)، بأنه "أوّل أوتوستراد للمعلومات في العالم"؛ إذ كانت تتبادل الأقوام عبره، ليس الحرير والسلع الأخرى فحسب، بل الفلسفات والأديان.

"زهّر البلاّن وصار الحكم للنسوان"... الأمثال الشعبية اللبنانية

يتحدّث أنيس فريحة عن مراحل إنتاج خيوط الحرير في كتابه المذكور "القرية اللبنانية"، بدءاً "بعَوْدة" التوت، وهي قطعة أرض كبيرة نسبياً تزرع فيها أشجار التوت، بحيث يتوقّف مقدار البزر الذي يفقّسه الفلاح على مقدار التوت الذي يملكه. يستورد البزر من أوروبا لخلوّه من الأمراض الوراثية، ويحفظ في المناطق الباردة إلى موعد تفقيسه في الربيع، لترتسم حياة الدودة من تفقيسها إلى شرنقتها مدة خمسين يوماً، في ارتباط مصيري بجهد المرأة اللبنانية ورعايتها.

في كتابه "تاريخ بيروت"، يذكر سمير قصير أنّ الحرير، في السنوات 1853-1856، بات يتصدّر المرتبة الأولى في الصادرات عبر مرفأ بيروت، ويحتل ربع الحجم العام

القاموس القروي الشّفوي ثري بمفردات تتعلّق بتربية دود الحرير من أدوات ومراحل، مثل: تدليل القز (أي توزيعه على الأطباق)، والإطعام (طعمة القز ورق توت مهروم)، والتشييح (وضع أغصان الشجيرات حول الأطباق لتحوك الديدان شرانقها)، والقطاف (أي قطف الشرانق). ويذكر فريحة بهجة عيد القطاف في سنة الإقبال (إنتاج وفير)؛ فيتعاون الجيران على العمل وتجتمع النساء، لينتهي القطاف بوليمة تزيّنها "الكبة" و"الحلاوة الجوزانية" وغيرها من الأصناف العزيزة.

وإذا كان الحرير جليّ الحضور في التداول اللغوي اللبناني في تلك الحقبة، فإنّ الأمثال الشعبيّة أشدّ رسوخاً في التراث الشفويّ، نراها تختزل حياة دود الحرير وتربيته ومدى التصاقه بحياة المرأة نفسها. يورد بعضها طرابلسي، على غرار: "بعيد البشارة تتفرّق البذارة" (أواخر نيسان توزّع البيوض)، و"ليلة الخمسة كبّري الكمشة، وليلة الستّة اكمشي وحطّي، وليلة السبعة ما لها شبعة" والقصد من المثل الموجّه للمرأة إطعام الديدان وفق نموّها ومراحل صومها الأربع. و"زهّر البلاّن وصار الحكم للنسوان" (التشرنق على أغصان شجيرات البلان)، انتهاءً بالمثل "بحزّير بيطلع موسم الحرير"، أي أنّ شهر حزيران (يونيو) هو موسم القطاف وحلّ خيوط الحرير في معامل تسمّى "كارخانات".

فيما بعد أصبحت الكرخانة سيئة السمعة مع نكسة الحرير اللبناني، وتسليع جسد المرأة. على الرغم من الأوضاع الصحيّة السيئة التي لا تقلّ سوءاً عن الأجور للعاملات، وقد بلغ عددهنّ آنذاك عشرة آلاف فتاة في مقابل ألفين من الذكور، غير أنّها ساهمت في حفظ العائلات من العوز وتعزيز مكانة المرأة. في تسعينيات القرن التاسع عشر، قدّم هيلير دو شاردونيه الفرنسي (1839-1924) مكتَشَفَه من الحرير الصناعي، المُنتَج من غذاء دود القز نفسه، ألياف ورق التوت. ويتردّد المثل: "الإسكافي حافي والحايك عريان"، وفي هذا السياق بإمكاننا الإضافة أنّ صانعة الحرير تشتهي ارتداءه؛ هذه هي المفارقة في أن ارتداء الحرير كان ولا يزال حكراً على الطبقة الميسورة.

المرأة والحبّ ولوثة الحرير في المتخيّل السردي: لمَ الصمت؟

من لم يكتفِ بالتواريخ والأرقام ودقة مدلولاتها، ومن حفّزته لغة الأمثال الشعبية لكي يستزيد من منبع أكثر رحابة هذه المرة، فله أن يقرأ ثلاث روايات مجتمعة يستحوذ على أجوائها الحرير وما يرافقه من حضور للمرأة. ويبدو أن كاتب روايتَي "كنت أميراً" و"الفراشة الزرقاء" لم يكن بعيداً عن تأثيرات رواية "حرير" الإيطالية، أعني به ربيع جابر.

يتبدّى نَزل "الغريب" مكاناً مكرّساً لتخليد ذكرى حبيبين في حب لم يكتمل باللقاء بين زهية وجوزف في (الفراشة الزرقاء)، بناه الأخ التوأم جورجي ملتزماً الوحدة والصمت في أيامه الأخيرة. ذلك في تحاور جميل مع بناء مَعلم آخر في رواية (حرير)، وهو حديقة من زهور الليلك والزنبق في بلدة لافيلديو تحقيقاً لحلم الزوجة - الحبيبة هيلين، ولتكون ملاذاً للزوج الأرمل هيرفي جونكور يستعيد فيها ذكريات حبه وأسفاره إلى اليابان (إلى نهاية العالم) سعياً لجلب بيوض دود القز.

"الرجال في الشرق عندما يرغبون في تكريم وفاء عشيقاتهنّ لهم لا يهدونهنّ المجوهرات وإنما أجمل الطيور النادرة"

جونكور نفسه أثار إعجابه المَطيَر الباذخ بالطيور على أنواعها قرب منزل الرجل الياباني هارا كاي. فيتذكّر أمام المطير ما قرأه ذات مرّة أنّ "الرجال في الشرق عندما يرغبون في تكريم وفاء عشيقاتهنّ لهم لا يهدونهنّ المجوهرات وإنما أجمل الطيور النادرة". فصمّم مثيله في حديقة منزله تكريماً لهيلين، موضّحاً لها أنها ذات يوم حين يحصل لها أمر جميل ستشرّع أبوابه لتراقب الطيور تحلّق هاربة.

وعن سؤال الصمت نجد أنفسنا أمام احتمالات وتأويلات لسلسلة التماهيات بين الشخصيات الروائية في الأعمال الثلاثة. في مدينة باليرمو على جزيرة صقلية (كنت أميراً)، يظهر باولو دائم الحلم بزوجته المتوفاة، ودائم الانفراد بنفسه والصمت بغياب ابنتيه سميلا وليديا اللتين هجرتا أطباق الدود وشجيرات التوت، فبات المنزل والحقل خراباً وليس إلا أثراً تتراءى فيه أطياف من رحلن مع فراشات الحرير. وبالمثل يمتنع كلّ من العالِم بروسبر بورتاليس في (الفراشة الزرقاء) وجان بيربك في (حرير) عن الكلام. وسرعان ما تصيب جونكور عدوى الصمت بعد رحيل زوجته.

تمتاز زهية بخفّة الحركة وبرائحة طيبة تجذب دود القزّ، وقد عملت مساعدة في مختبر بروسبر بورتاليس. نخاله يطارد حلمًا للاستحواذ على الفراشة الزرقاء، وما هي إلا رمز المرأة والحبّ. يفصح عن أنّ زوجته لطيفة وتريده أن ينام في سريرها، لكنّه لا يقدر ولا يريد. "الفراشة التي يحلم بها كل ليلة والتي أبكته، تهمس له بأنّها تحبّه وتحبّ كيف يحبّها".

متى يصمت المرء؟ يجيب جونكور: "ربما أنّ الحياة تريك وجهاً من وجوهها يغنيك عن التفوّه بأية كلمة إضافيّة". ليغيب في تأمّل صفحة المياه في بركة حديقته يتراءى من خلالها "المشهد الملغّز لحياته كما سارت بكامل خفّتها". في حنين غامض ومؤلم إلى شيء لن يختبره قطّ، إلى امرأة ذات وجه طفولي التقاها في اليابان ولم يسمع صوتها. أليست هذه المرأة سراباً كفراشة بروسبر الزرقاء؟ فهل أصابت هذه الشخصيات لوثة الحرير؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image