شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
صاحب

صاحب "دراما" الوصول إلى قلب الرئيس و"وثيقة اللعنة"... نبيل راغب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 30 يناير 202311:49 ص

ربما كان كتاب "السادات رائداً للتأصيل الفكري" أشهر ما يعرضه باعة الكتب القديمة في مصر، ويقدمونه لمن يريد بثمن بخس. وعلى الرغم من شهرة الكتاب الموجود على جميع الأرصفة، فإنه كان أول كتاب لمؤلفه الناقد الراحل الدكتور نبيل راغب (1940-2017) أستاذ الدراما بأكاديمية الفنون، وأصبح الأشهر من بين أعماله التي زادت على 100 كتاب في مختلف فنون الأدب والدراما.

يضم الكتاب مقالات نادرة كتبها الرئيس المصري الراحل أنور السادات في مختلف مراحل حياته، لكن نبيل راغب قام بتحليلها وتقديمها تقديماً حاول عبره أن يزيد من قيمتها، ويشرح الأفكار التي تقف خلفها. غير أن مؤسسة دار المعارف الحكومية، ناشرة الكتاب، سارعت إلى التخلص منه وبيعه "بالكيلو" عقب ساعات من اغتيال السادات في 6 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1981، وتحول بعدها إلى "وثيقة لعنة" طاردت مؤلفه، الذي أصبح "كاتب السلطان" من وجهة نظر غالبية المثقفين، وبالتالي صارت تجربته أقرب إلى "وصمة عار". 

رحل راغب في شباط/فبراير 2017، ومرّ خبر رحيله في صمت، ينسجم تماماً مع الحياة الهادئة التي اختارها لنفسه بعد موت السادات، وتراوحت مشاهدها بين "الزهد والملل" بتعبير الدكتور شوكت المصري، مدرس النقد بالمعهد العالي للنقد الفني التابع لأكاديمية الفنون في مصر.

تجربة حساسة

زامل شوكت المصري مُعلّمَه خلال سنواته الأخيرة، وتحاور معه كثيراً دون أن يمس تجربته مع السادات، لأنها على ـ حد قوله ـ "ذات حساسية خاصة"، ونجح راغب في تجاوزها بإنتاج غزير بلغ 38 مؤلفاً أكاديمياً، و46 كتاباً فكريّاً، بخلاف مقالاته الصحافية وترجماته، إلى جانب 31 عملاً روائيّاً حوّل بعضها إلى مسلسلات وأفلام، كتب لها بنفسه السيناريو والحوار، وكان أشهرها "غرام الأفاعي"، وهو فيلم لعبت بطولته ليلى علوي ومعها هشام عبد الحميد.

لم يكن انشغال الرجل بالدراما، مؤلفاً وأستاذاً، سوى صورة من صور الانعكاس لدراما فعلية عايشها بنفسه عبر فصول حياته، التي حفلت بانتقالات درامية كبرى، قذفت به من دوائر الصخب إلى "العزلة " بين جدران حياته الأكاديمية.

كتاب يضم مقالات نادرة كتبها أنور السادات، سارعت دار المعارف الحكومية إلى التخلص منه وبيعه بالكيلو، عقب ساعات من اغتيال السادات وتحول بعدها إلى "وثيقة لعنة" طاردت مؤلفه... كتاب "السادات رائداً للتأصيل الفكري" لنبيل راغب

ولد الراحل في طنطا (دلتا مصر) في العام 1940، وأنهى دراسة الأدب واللغة الإنكليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة العام 1960، وخلال سنوات الدراسة الجامعية، أظهر تفوقاً واضحاً، وبحسب شهادة زميله بالقسم، الدكتور ماهر البطوطي، تمتع بـ"ثقافة موسوعية في الآداب والفنون".

تخرج راغب في الكلية بتقدير جيد، وتم تعيينه مدرساً في محافظة المنيا (صعيد مصر) لكنه تقدم للدراسات العليا بالقاهرة، مع الدكتور رشدي، والدكتور أمين روفائيل.

اليميني الملهم 

شأن معظم أبناء جيله، تولع راغب بأستاذه رشاد رشدي، الذي أبدى حماساً لنظريات النقد الجديد، وأشاع نظرية الفن للفن في مواجهة صعود نقاد الواقعية الاشتراكية، وأدب الالتزام، خلال فترة الحكم الناصري. 

لم يكن غريباً أن يكون رشدي على رأس الأسماء التي أفسح لها السادات الطريق لتشاركه السير في مسار "الثورة المضادة" التي أجهزت على كل المكاسب الثقافية خلال زمن عبد الناصر، وأرادت أن تعمل معه على بناء جناح يميني للثقافة المصرية.

وكما يرى الناقد محمد بدوي، فإن هذا الجناح افتقر لأي تأثير حقيقي، لأن الثقافة المصرية ـ تاريخيّاً ـ خضعت لهيمنة يسارية واضحة، لكن بفضل دعم سلطوي قدمه السادات، برزت أسماء افتقرت للأصالة، وكانت مجرد صور مهزوزة تعبر عن "اليمين الوافد"، وكان رشدي أبرز هؤلاء في التعبير عن مسار يميني يتبنى أفكار السلطة ويدافع عنها.

وفي ذاك المسار، أدرك تلميذه نبيل راغب، بقرون استشعاره -حسب شهادة البطوطي- أنه لن يحظى بفرصة التعيين في الجامعة، ومن ثم الانضمام لهذا الفريق الوافد، لأن أستاذه لن يتحمس لاختياره في صفوفه، على الرغم من جدارته. 

واتخذ راغب طريقاً آخر للشهرة، لا يمر عبر أستاذه، وهو الكتابة في الصحف عن الشخصيات المشهورة، وآنذاك لم يكن هناك بين الأدباء من هو أشهر من يوسف السباعي، الأديب الذي كان يشكو من تجاهل نقاد اليسار لأدبه، على الرغم من أنه يرأس كل شيء، فقد كان رئيساً لتحرير جريدة الأهرام، ونائباً لرئيس اتحاد الكتاب، ورئيساً لنادي القصة واتحاد أدباء آسيا وإفريقيا، وقبل ذلك حظِيَ بمواقع كثيرة داخل وزارة الثقافة، وتولاها لفترة، وهو فِي قول موجز صكّه المستعرب ريشار جاكمون "جنرال الثقافة" الذي يعطي ويمنع.

وبسرعة حصل راغب على ثمن دفاعه عن موهبة السباعي، وأصبح سكرتيره الصحافي، لكن مكاسبه تضاعفت حين كرّس مقالاته لتبرير سياسات السادات ونيّاته، بعد أن واجه رفضاً شعبيّاً لتلك السياسات، وأولاها مسارات تسوية الصراع مع إسرائيل.

في صحبة الرئيس

أظهر راغب مواهبه كلها دفعة واحدة، ما دفع السباعي لتقديمه إلى الرئيس السادات للعمل ضمن طاقم مكتبه، وقد روى الراحل حكاية وظيفته مع السادات، في روايتين مختلفتين، ذكر الأولى في مقال كتبه لمجلة الإذاعة والتلفزيون (30 آذار/مارس 1996) أشار إلى أنه قابل السادات للمرة الأولى في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1973، في استراحة الرئيس بالقناطر الخيرية، وفي المقابلة قال السادات إنه يفكر في جمْع مقالاته التي كتبها للصحف والمجلات، وفكر أن يقوم بهذا العمل إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، لكنه وجد أنهما أكبر من هذا العمل، فطلب من السباعي أن يرشح له مَن يقوم بهذه المهمة من الشباب، واختار راغب من بين خمسة مرشحين، ثم دعاه السادات بعدها لتناول الغداء، وتحديد المرتب المقترح، وبعد المقابلة كتب راغب: "أحسست أنني أمام أب أو أخ أكبر، لا أمام زعيم غيّر مجرَى التاريخ".

وفي الرواية الثانية، ذكر الراحل أن اللقاء مع السادات تم في استراحة أسوان، ثم في بيت السادات عند مسقط رأسه في قرية ميت أبو الكوم، بالمنوفية.

أصبح راغب سكرتيراً ثقافياً للسادات، وأنجز مهمة جمع مقالاته في كتاب، حدد فيه ملامح التطور الفكري للرئيس تحت عنوان "السادات رائد التأصيل الفكري".

وكما هو متوقع، وجد الكتاب اهتماماً من الصحف الرسمية التي عدّته إضافة مهمة إلى هذا اللون من الكتب، أي لون كتب الدراسات الشخصية، وقال أحمد بهجت، محرر صفحة الأدب بالأهرام آنذاك: "أهم ما في الكتاب أنه يكشف عن منهج فكري متسق، وليس مجرد بضع أفكار متناثرة، وميزة الكتاب أنه يكشف الجانب الفلسفي والفكري والفني في فكر السادات، وعيبه الوحيد هو كثرة الاستشهاد من المؤلف بأقوال الفلاسفة والنقاد الغربيين إلى الحد الذي يخرجنا من الموضوع الأصلي إلى متاهات بعيدة، وهذا عيب أكاديمي على أي حال (الأهرام 1 يونيو/حزيران 1975).

وبالغ الدكتور حلمي مراد في مدح الكتاب مؤكداً أنه ليس مجرد دراسة عن السادات فقط، لكنه دراسة عن مصر أيضاً ثم أضاف: "أن استئثار السياسة بالسادات قد حرم قارئ الأدب من أديب فنان، كان يمكن أن يضيف إلى الأدب المعاصر عطاءً سخيّاً، بل حرمه من قارئ وناقد ذوّاقة، واسع الاطلاع".

كبير العائلة

في أرشيف نبيل راغب الكثير من مقالات النقد الأدبي، اعتبارًا من النصف الثاني من السبعينيات، لأن السياسة أضحت "شاغله الوحيد"، وأخلص في تمجيد السادات وتدليله، كما نلمح في مقال كتبه بعنوان "ذكريات جهاده في عيد ميلاده" نشر بالأهرام في 25 كانون الأول/ديسمبر 1978، اعتبر فيه "عيد ميلاد الرئيس عيداً متجدداً لميلاد كل قيم الأسرة المصرية، قيم الإيمان والعطاء والصلابة والصمود والحب والسلام في حياتنا".

وفي الأسبوع التالي مباشرة، كتب مقالًًا عن "الزعامة التاريخية والخيال السياسي"، فسر فيه دوافع السادات لزيارة إسرائيل، ورأى أن تلك الزيارة "تتساوَى مع لحظة الهبوط على سطح القمر"، وقال: "إن عدد المشاهدين الذين تابعوا هبوط آرمسترونغ على سطح القمر في حدود 500 مليون مشاهد، أما من تابعوا رحلة السادات للقدس، فقد زادوا على مليار مشاهد". ثم كتب: المبادرة عملاً حضارياً وعلمياً وتاريخياً مثل الهبوط على سطح القمر، أي قمة في المنهج العلمي والتخطيط المدروس والحساب الدقيق الذي يستشرف المستقبل.

رغم الدعاية الضخمة التي نالها كتاب "السادات رائداً للتأصيل الفكري" الذي استقر على الرصيف، فإن مؤلفه نبيل راغب مات مؤمناً تماماً بأن أحداً لم يقرأ كتابه بعناية أو يدرسه بدقة... حتى السادات نفسه لم يكمل قراءة هذا الكتاب

ولم يكتفِ مدرس الدراما بمديح الرئيس، إنما وجّه انتقادات مباشرة للحكومات العربية التي رفضت قرار التسوية، ومنها مقال بعنوان "متى تتخلّص السياسة العربية من عقدة حزيران"، وعقب زيارة السادات لإسرائيل وخطابه أمام الكنيست الإسرائيلي، دخل على خط الدعم المباشر، وكتب مقالا. بعنوان "انتهى عهد المراهقة السياسية"، قال فيه: "بعد ثورة التصحيح في مصر لم يعد هناك مكان الشعارات الجوفاء أو المزايدات المغرضة أو الأوهام المريضة".

وقبل موت السادات بفترة وجيزة، استشعر راغب خريف الغضب من الرئيس، لذلك أعد عدته، وبادر بالهجوم على المثقفين الذين أعلنوا معارضته، وفِي 28 أيلول/سبتمبر 1981، وقبل موت السادات بأسبوع واحد، كتب عن المثقف والقلق الخلاق، قائلاً: "إن المثقفين الأصلاء يفضلون جحيم القلق الخلاق على جنة الجهالة المطمئنة"، ثم أكد أن "المعارضة مسؤولية وليست بطولة".

بفضل هذا الأداء الفريد في مدح الرئيس قبل السادات سجل معه مذكراته الشخصية في جلسات ممتدة، وكان يصطحبه معه في رحلاته إلى الخارج، كما اصطحبه إلى المنصة يوم اغتيل، لكن راغب كان من الناجين من الموت لوجوده في الصفوف الخلفية.

يقول زميله ماهر البطوطي المقيم بأمريكا: "حكى لي صديق مقرب أنه لولا كراهية جيهان السادات لنبيل، لكان قد أصبح وزيراً". ويعزز البطوطي روايته، مؤكداً أن راغب صار أقرب لقلب السادات من أستاذه رشاد رشدي، الذي وسّطه لدى الرئيس ليعيّن مستشاراً ثقافيّاً للسادات. وهو ما تم بالفعل، ومقابل ذلك حصل نبيل على الدكتوراه، ثم جرى تعيينه في أكاديمية الفنون التي كانت تحت رئاسة أستاذه.

وعلى الرغم من الشهرة التي حققها، فإنه دخل في أزمة مع الكنيسة، بعد أن دخلت المؤسسة المسيحية في أزمة أكبر مع السادات، نتيجة اصطدامه العنيف مع البابا شنودة الثالث، بطريرك الكنيسة المرقسية، وقرار تحديد إقامته في وادي النطرون، وخلال تلك الأزمة لم يبادر راغب بأية وساطة تقرّب بين الطرفين.

لم يتقابل ماهر البطوطي، مع نبيل راغب لسنوات طويلة إلا أنهما تقابلا في عام 2005، في جلسة استمرت خمس ساعات، وفيها تحدث راغب عما حدث له بعد وفاة الرئيس السادات، مؤكداً أن حرم الرئيس جيهان السادات طلبت منه وضع جميع شرائط التسجيل في حقيبة كي تتسلمها هي، وأصرت على ذلك، واستغل أعداؤه في الرئاسة الفرصة لإعادته أستاذاً في الأكاديمية وطرده من قصر الرئاسة، وسحب جميع امتيازاته.

واصل راغب عمله بأكاديمية الفنون، وانهمك في كتابة مؤلفاته دون كلل أو ملل، بل دون نشر مذكرات يراجع فيها تجربته في مديح الرئيس، وربما ارتاح لأنه نال ما يستحق من ثمن، وفي أحد حواراته مع صحيفة "الأنباء الكويتية"، أيلول/سبتمبر 1986، عبر عن إيمانه بما فعل، وقال: "حين تلقيت عرضاً من الرئيس السادات لكتابة كتاب عن أفكاره، شغلني الموضوع كثيراً، لأن المفهوم عندنا أن مَن يكتب عن أي مسؤول يكتب تزلفاً أو نفاقاً، وأنا كنت لا أريد أن أشوّه صورتي، لذلك درست تاريخ مصر، فوجدت أننا بحاجة لدراسة في نظرية الحكم، نظرية متبلورة ونابعة من ثقافتنا، ووجدت أن دعم الرئيس فرصة لنشر ما يشبه النظرية، التي يمكن أن تكون بداية لتفكير سياسي متقن".

الطريف حقاً أن راغب اعترف بأن السادات لم يكمل قراءة الكتاب، لكنه أعجب به، "ورغم الدعاية الضخمة التي نالها الكتاب الذي استقر على الرصيف، فإن مؤلفه مات مؤمناً تماماً بأن أحداً لم يقرأ كتابه بعناية أو يدرسه بدقة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image