بعد ما يقرب من نصف قرن على رحيله المفجع، ينهض الشاعر أحمد عُبيدة من موته، بخروج سيرته المجهولة، في إصدار حديث، بعنوان "طائر النار... احتراق ونهوض أحمد عُبيدة" للشاعر محمد رياض، عن دار روافد بالقاهرة، وبدعم من منحة آفاق.
استشعر محمد رياض بأن ثمة قرابة روحية بينه وبين الشاعر الذي انتحر حرقاً مع كتبه وأوراقه، في يوم من أوائل آب/أغسطس 1974 عن 34 عاماً، وكانت هذه القرابة الروحية، سبباً كافياً له، ليبدأ رحلته الشاقة على مدار عدة سنوات، لتوثيق سيرة عبيدة من الصفر، حيث لم تكن هناك أي مواد تخص الشاعر، لذا اعتمد رياض على المصادر الحية، التي اشتملت على مقابلات ولقاءات مع أهل قرية عبيدة، العمار الكبرى بمحافظة القليوبية، وكذلك حوارات مع أبناء جيله ورفاقه، الشهود على المأساة.
كان زمناً شرساً؛ السلطة تلتهم كل شيء، متسلحة بذريعة القضية وتحرير الأرض، وكان عُبيدة يحلم بالتغيير، والحلم لم يكن مستحباً في ذلك الزمن، يكتب شعراً، وأغاني ومسرحيات، ذات مضامين ثورية، منحازة للفلاحين الفقراء والكادحين، وهو الأمر الذي أثار غريزة الأمن ضده، فيُلاحق عُبيدة، ويُعتقل، وتُصادر مباحث أمن الدولة حقيبة أشعاره، ويُودع في مستشفى الخانكة، يتلقى الجلسات الكهربائية، ثم يخرج من كل ذلك فاقداً لذاته، ويأخذ القرار الحاسم بالانتحار حرقاً.
حفر عبيدة حفرة كبيرة في الفناء وملأها بالكتب والملابس الثقيلة. أعد الكيروسين الذي سيسكبه عليها وعلى نفسه عندما يصل القرار إلى ذروته. حول الحفرة الكبيرة، صنع حفراً صغيرة كالمدار. على الحائط يقف سلم خشبي، أزاح عبيدة السلم ووضعه على الأرض. لقد صار القرار نهائياً. وعبيدة يغلق الباب الذي يفصل الردهة الخارجية عن الحوش المفتوح، ويخلع الجلابية التي يرتديها، ويُبعدها عن الحريق الوشيك، ثم يسكب الكيروسين على العش والجسد العاري ويشتعل".
يرى محمد رياض أن فقدان عبيدة لقصائده، ربما كان سبباً مهماً وراء انتحاره، بينما يميل عزت عامر إلى أن مرضاً نفسياً وراء انتحار صديقه
قصة انتحار أحمد عبيدة يمكن قراءتها، في ضوء العلاقة الشائكة بين السلطة وجيل الستينيات من المثقفين والأدباء في مصر، حيث كان عبيدة، في قلب الحركة الثقافية لهذا الجيل، كما أنها على صعيد آخر، مرتبطة بقضية، الهوية الجماعية والفردية، وتطرح العديد من التساؤلات حول الذات الفردية الحالمة التي تسحقها الجماعة، وقبل ذلك فهي تطرح السؤال الصعب: لماذا انتحر أحمد عبيدة، بتلك الطريقة القاسية؟
قبل 7 شهور من انتحاره، كان أحمد عبيدة، يُلقي شعراً وسط حشد من الفلاحين بقرية جنزور بمحافظة المنوفية، بصحبة صديقه الشاعر عزت عامر، وكان شاباً من القرية، قد أخبر الأمن بأن عبيدة يقول شعراً يُهاجم ثورة التصحيح. جاءت قوة من المباحث، اقتادت الشاعرين إلى قسم الشرطة، وبعد شهرين تم الإفراج عنهما.
المدة القصيرة التي قضاها عبيدة في السجن، كانت كفيلة بأن تضع شاعراً قلقاً مثله، على حافة الموت، حيث اشتعلت الصراعات بداخله، وصارت فكرة الانتحار، وحشاً ينهشه من الداخل، وفقاً لروايات الشهود. خرج عُبيدة من السجن متدهوراً إلى حد يستعصي على الإنقاذ. يصفه الشاعر محمود الشاذلي أحد شعراء أمسية جنزور: "كان بيلبس في عز الصيف بدلتين تلاتة فوق بعض، وفوق البدل دي كلها شبشب زنوبة، ورجليه مشققة، وجيوبه مليانة شاي وسكر وعيش وسجائر، رغم أنه كان يعمل مترجماً فورياً في وزارة الاقتصاد، وكان شاباً مثقفاً يجيد التحدث بـ4 لغات".
هذه الحالة المتدهورة التي كان عليها عبيدة فور خروجه من السجن، أثارت شكوك الكثيرين حول تعرضه للتعذيب، وهو الأمر الذي ينفيه عزت عامر. أما محمود الشاذلي، فيحكي عن تعرضه للإهانة والضرب المبرح، الذي تسبب لعبيدة بإصابات خطيرة: "كان هناك ضابط متعجرف قليل الأدب وفي منتهى القسوة، هو من تولى استجوابنا. كان يحاول أن يحصل على معلومات من المجموعة بالضرب وقلة الأدب والسفالة. لم يحتمل عبيدة هذه المعاملة، فبصق على وجهه. أنا كنت واقف، وكلنا كنا متكلبشين مع بعض إيدين ورجلين. وهو راح تف ف وشه، طبعاً نزلوا عليه العساكر بالدباشك وأحدثوا فيه إصابات خطيرة جداً".
"هذا الجيل، قد مورست عليه من البداية للنهاية كل أنواع العقوبات الجماعية والفردية"
في السجن، لم يتوقف عبيدة عن كتابة الشعر، بل كان يكتب بتدفق هائل -بحسب رفيقه عزت عامر-، لكن مباحث أمن الدولة استولت على حقيبة أشعاره، وهو الأمر الذي تسبب في تفاقم حالته وانهياره، فقد كان لديه تصور بأن الحقيبة تضم كل الأشعار التي كتبها في حياته، وأنه لن يستطيع الكتابة من جديد.
يرى محمد رياض أن فقدان عبيدة لقصائده، ربما كان سبباً مهماً وراء انتحاره، بينما يميل عزت عامر إلى أن مرضاً نفسياً وراء انتحار صديقه، حيث يقول: "لقد خضع عبيدة في ما مضى لـجلسات كهرباء في مستشفى الأمراض العقلية بالخانكة كنوع من العقاب بسبب مواقفه الراديكالية التي دفعته يوماً إلى اعتراض موكب الرئيس السادات والهتاف ضده"، فيما يكشف الشاذلي عن سبب آخر، وهو أن عُبيدة قد استدعى لترجمة مفاوضات الكيلو 101، التي جرت بين مصر وإسرائيل في أعقاب حرب أيلول/أكتوبر 1973، للوصول إلى تحديد خطوط وقف إطلاق النار، وكان عُبيدة يرى أن هذه المفاوضات خيانة، وتصفية للقضية. يقول الشاذلي: "كان ماشي يقول إن النظام بيبيع البلد. كان بيقول الكلام دا في كل مكان، ودا سبب القبض عليه أكتر من مره".
في الطريق إلى خيمة المباحثات، رأى عبيدة، القادة العسكريين وهم يُخاطبون الأعداء وجهاً لوجه، وتملكه اليأس والغضب، حين كان ضابط مصري يُضاحك ضابطاً يهودياً داخل الخيمة، "أهانه هذا المشهد فثار، لم يكن الزمن، أو المكان يسمحان بالتحقيق، مجنون، طردوه من الخيمة. ذهب عبيدة إلى الجبهة شاعراً، وعاد موصوماً بالجنون، وبعد أقل من عام سيختفي تماماً من الوجود"
الكاتب والروائي محمود الورداني -في شهادته لرياض- يرى أن هذه المرحلة المليئة بالمعاناة والسجن والتشريد والملاحقة، بريئة من انتحار عبيدة، ويقول: "كلنا تعرضنا لهذه الأمور، لكن لا أحد انتحر سوى أحمد".
أما الشاعر محمد سيف، فيشير إلى أهمية البعد النفسي في قصة انتحار عبيدة؛ يقول: "هذا البعد النفسي لا يجب أن يتزيل تحليلاً، بل يجب أن يكون في صلبه. إن كل العبقريات التي نعرفها عانت اهتزازات نفسية ما. وعبيدة كان في قلب الحركة الأدبية في الستينيات، مثقفاً رفيع المستوى، مندفعاً تجاه الشعر والكتابة إلى درجة الجنون، لكنه كان شخصاً قلقاً شديد التوتر. قد يعود أمر انتحاره إلى رغبة لديه في القضاء على الذات".
من جانب آخر، يلقي محمد سيف الضوء على هزائم ومرارات جيل أحمد عُبيدة، وهو بحسب رياض "الجيل الذي اكتشف الحلم والكارثة، واستشرف المصير المظلم، وزُج به في مذبحة هائلة، قضت على بعضه بالانتحار والجنون والمرض والموات".
ويتذكر سيف رفاق النضال القدامى، وبالأخص مازن جودت أبو غزالة، الذي استشهد بعملية فدائية في صحراء النقب عام 1967، وأروى صالح التي انتحرت في القاهرة سقوطاً من الطابق العاشر حزيران/يونيو 1997، ويقول إن هذا الجيل، قد مورست عليه من البداية للنهاية كل أنواع العقوبات الجماعية والفردية.
في السجن، لم يتوقف عبيدة عن كتابة الشعر، بل كان يكتب بتدفق هائل -بحسب رفيقه عزت عامر-، لكن مباحث أمن الدولة استولت على حقيبة أشعاره، وهو الأمر الذي تسبب في تفاقم حالته وانهياره
ويُشير "رياض" إلى ظاهرة مطردة في مصائر مثقفي ذلك الزمن، وهي الموت المفاجي، التي يُدرجها الدكتور "غالي شكري" في كتابه "النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث" تحت عنوان: الموت والميلاد في الثقافة المصرية، حيث يرصد عددًا كبيرًا من الرموز الثقافية التي ماتت بشكل مفاجيء، الأمر الذي يُثير الكثير من التساؤلات والجدل، حول الأزمات النفسية العنيفة التي عاشها هذا الجيل.
يذهب رياض إلى قرية عبيدة، التي تبعد عن قريته عدة كيلومترات. هناك يُقابل أصدقاء الشاعر، المطرب الشعبي إسماعيل عبد الصمد، الذي كان رفيقاً لعُبيدة، يغني ما يكتبه، وعبد المعبود سليمان، أحد أعضاء حركة شباب العمار التي رأسها عبيدة، وكذلك الناشطة السياسية شوقية الكُردي التي شهدت الشاعر وهو في قمة تألقه وانهياره، فيما يحتفظ الفلاحون الكبار، والسيدات العجائز، بذكريات بطولية للشاعر، فهو الذي خاض لصالحهم حرباً ضد الإقطاع، وشاركهم في بناء المدرسة الإعدادية: "يحفر الأرض، يحمل الطوب، يصعد السقالات، ويغني للأشقياء". يستعيدون صورته، وهو جالس طوال اليوم فوق ترس الساقية الكبير، منهمكاً في الكتابة، لكنهم يتحاشون الحديث عن صورته المحترقة، لأنها ما زالت تؤلمهم.
وأحمد عبيدة، هو ابن قرية العمار الكبرى، مركز طوخ، محافظة القليوبية. كان في قلب الحركة الثقافية في الستينيات، تخرج من كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية، وعمل مترجماً فورياً بوزراة الاقتصاد والتجارة الخارجية، حيث أتقن ثلاث لغات: الإنكليزية والفرنسية والروسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...