لسبب لا أذكره (على الأرجح بسبب المسلسلات)، كان بابا دائماً يمازحني باللهجة المصرية عندما كنت صغيرةً، وكنت أبادله المزاح باللهجة نفسها، حتى أنني ألّفت نكتةً "فقعت" ضحكاً عليها، وأنا أعلنها. ولا زلت "أفقع" ضحكاً، فيما يفقع المستمعون (ولكن ليس ضحكاً، يفقعون فعلياً)، كلما ذكرتها كأول إنجاز ضاحك ومضحك لي: "مرة واحِد أكل تلجة، لما أكلها وخلّص قال: يااااه دي مصقعة أوي كده ليه"؛ ههههههههههههههههههههههه (من طرف واحد).
وأذكر أنني كنت أضحك كثيراً لأفعال أحد معارف العائلة وأقواله. كانت تدهشني قدرته على إثارة الضحك في نفوسنا، والبهجة التي تغمرنا بعدها. لاحقاً قررت عن سابق تصميم وإصرار: بس إكبر بدي كون "مهضومة".
على الأرجح أردت أن أكون محبوبةً، وأن يشعر الآخرون بـ"هضامتي" كما شعرت بـ"هضامة" ذاك الشخص، وأن أترك أثر البهجة والدهشة الذي تركه على وجوهنا حينها، ووجدت في إثارة الضحك (الذي افترضت أني سأتقنه) وسيلةً لتحقيق غايتي.
لا يمكنني الزعم بأنني حققت غايتي. بصراحة، يمكنني ولكن لا أريد أن أفقد تواضعي أو جزءاً منه، على الأقل كي أضمن إكمالكم قراءة هذا المقال، وفي كل الأحوال سعيت جاهدةً في سبيل تحقيقه. وأهم مساعيّ تمثلّ في أنني بت أفقد دفاعاتي أمام الضحك، لأن الضحك أو إثارته يتطلّبان عرياً.
بصراحة، يمكنني ولكن لا أريد أن أفقد تواضعي أو جزءاً منه، على الأقل كي أضمن إكمالكم قراءة هذا المقال، وفي كل الأحوال سعيت جاهدةً في سبيل تحقيقه. وأهم مساعيّ تمثلّ في أنني بت أفقد دفاعاتي أمام الضحك، لأن الضحك أو إثارته يتطلّبان عرياً
ارتبطت خفة الدم بأصحاب الوزن "الزائد". وهذا أمرٌ مفهومٌ (على الأقل بالنسبة لي). فهذا الوزن يحرر صاحبه من همّ البريستيج وعبئه، وهذا التحرر يناسب الضحك وصناعته وصانعه. لأن الضحك والبريستيج "دونت ميكس". ولكن التحرر من عبء البريستيج ليس حكراً على أصحاب الوزن الزائد، والضحك وصنّاعه كذلك.
أقول صناعة، لأنه لا يمكن أن تكون صناعة الضحك عفويةً. فصانعه واعٍ بمشروعه. نعم مشروع، فالضحك لا يحضر وحيداً، It’s a package، وكل ما تحتويه هذه الرزمة يتطلب قراراً أو أكثر ،وكلها قرارات شجاعة لأنها تسلب من صاحبها امتيازات أو ميزات أخرى غير تلك التي يضيفها أثر الضحك في نفوس المتلقّين. العري يتطلب قراراً.
حين نضحك تتعرى وجوهنا من تشنجاتها المفتعلة، ومن ملامحنا القاسية التي نختبئ خلفها، وتتعرى أعيننا من نظراتها المراقبة ومن دموعنا المغرورقة، وأسناننا من شفاهنا التي تغطي عدم استقامتها. الضحك يعرّي أصواتنا من الحذر الذي يكبتها ويهذبها عادةً فتنطلق صراخاً وآهات وآخات. نُنهَك بعد الضحك فترتخي عضلات أجسامنا ووجوهنا التي تحافظ على ابتسامات هي آثار الضحك الذي مرّ، كالابتسامة التي تبقى بعد الأورغازم كأثر له بعد أن ينهكنا الوصول إليه أو وصوله إلينا. هذه الابتسامة التي تبقى في الحالتين هي ابتسامتنا لأنفسنا. الضحك يفتح لنا قناة عبور مع ذواتنا، ويذكّرنا بوجود بُعد لا نستخدمه غالباً، الضحك، فنبتسم لهذا التذكر، لهذه الزيارة وإن القصيرة لدواخلنا، ابتسامة تواصلنا مع أنفسنا.
ليس غريباً أن يتشابه الضحك والأورغازم أو تتشابه آثارهما. فمتعة الوصول إلى كليهما متشابهة وشاقة. وكيف يمكننا أصلاً أن نتشارك أجسامنا مع من لا يضحكنا ونضحكه؟
ليس غريباً أن يتشابه الضحك والأورغازم أو تتشابه آثارهما. فمتعة الوصول إلى كليهما متشابهة وشاقة. وكيف يمكننا أصلاً أن نتشارك أجسامنا مع من لا يضحكنا ونضحكه؟ ممكن أن نضحك مع أشخاص لا نتشارك معهم أجسامنا، ولكن العكس يجب أن يكون من المحرمات. بين الضحك والأورغازم -إذا اضطررت لأسباب قاهرة جداً إلى أن أختار- سأختار الضحك. على الأقل يضمن الضحك لي فرصةً، بالأحرى فرصاً، توصلني إلى الأورغازم، بل إلى أورغازمات كثيرة.
وأنا أكتب بوستاً بهدف أن يكون مثيراً للضحك، أضحك وأنا أكتبه. أضحك لي. أسمع الكلمات وأنا أكتبها، وأسمع أنواع الضحكات التي سيطلقها قرّاء البوست بأمزجتهم المختلفة وضحكاتهم المتنوعة. أكتبه لمن أعرف أنهم سيضحكون ولمن لم أصل إليهم بعد، للغرباء الذي يشبهوني وأِشبههم وأريدهم أقرب إليّ. أنشر بوستاً قاصدةً فئةً ومزاجاً معيّنين يشبهان مزاجي، بوستاً يكون فخاً أتصيد به هولاء الغرباء الذين لم يظهروا بعد، فيؤكد لي أصحاب القلوب واللايكات الزرقاء (التي أكرهها) والوجوه الصفراء الضاحكة، تحقيق غايتي. وأقول في سرّي: ليتني أجد من يُضحكني بهذا القدر.
الضحك يخترق كل الدفاعات، ويقرّب المسافات، وينفي ضرورة المقدمات التعريفية.
الضحك يخترق كل الدفاعات، ويقرّب المسافات، وينفي ضرورة المقدمات التعريفية. تضحك معي ولي على ما أقول وأكتب فأراك من خلف الشاشة وأسمع ضحكتك "تفقع"، ومن ثم أرى ابتسامتك التي تبقى. وبإمكاننا بعدها بدء الحديث من نصفه، فلقد قطعنا شوطاً طويلاً بتلك الضحكات. لا داعي للمقبلات والسلطات، بل مباشرةً إلى الطبق الرئيسي (مع ضرورة التأكيد أني لا آكل السلطات وخضرواتها).
وآخ كم هم جذابون هؤلاء الذين يضحكونني. هم أذكياء قبل أن يضحكوني وجذابون بعد أن يضحكوني. وأشعر برغبة تقبيل كل من يضحكني ويضحك معي؛ قبلة هي بطاقة انتساب إلى نادي الضحك بعضوياته المحدودة لندرة متقنيه.
عندما أضحك، أشعر بأن أقفالاً في صدري تنفتح. ضحكي يفتحها بل يكسرها، وتطير عصافير من مساماتي وتحملني معها. وعندما أقول أو أكتب ما أظنه مضحكاً، وما سيضحكني وأنا أقوله أو أكتبه ويُضحك من سيسمعه أو يقرأه، أعرف أن أقفال صدورهم ستُفتح مع أقفالي بل ستنكسر، وستطير عصافير من مساماتنا وتحملنا معها فنلتقي معاً لزمن غير محدد في مكانٍ خالٍ من ثقلنا وطريّ كالغيوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون