شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أدور عاريّة في غرفتي على الضّفة المقابلة للاكتئاب

أدور عاريّة في غرفتي على الضّفة المقابلة للاكتئاب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 9 نوفمبر 201804:28 م

أستذكر كآبةً احتويتها، أستعيد شعوري بصعوبة، كمحاولة استرجاع أصوات من رحلوا. تحضر أحياناً لمحات، ورغم الإغراء الكامن في الضياع إلّا أنّني لا أريد العودة.

أقرأ ما يكتبه الأصدقاء، أشعر أنّهم لو كانوا أمامي لصرخوا آلامهم لساعاتٍ طويلة. أحياناً أبعث لأحدهم برسالة قصيرة، ومرة كتبت لأحدهم على ورقة: "صباح الخير، لا تحزن يا جميل الوجه، قرأت ما نشرت اليوم. سأحدثك بعد قليل ليصير نهارك أفضل. تذكّر نحن أطفال التخلي والقلق، كثيرة القصص خلف انكساراتنا. أحد لن يفهم معنى أن تمشي بنصفك المعطوب في الحياة دون أن تقع، أحد لن يفهم كيف نخسر أنصافنا لحظة موت من نحب. تذكر أنّ حجم الحياة التي تنتظرك يساوي حجم الموت الذي اختبرته. الليلة، اخرج قليلاً إلى الحياة".

الوحوش تحت السرير حقيقية، يكبر المحظوظون وينسونها، أمّا نحن فكبرنا معها.

تغني دينا الوديدي: "يا آمل يا حاير يا ماشي في دواير، يا نايم وصاحي في كل السراير".

الوحوش تحت السرير حقيقية، يكبر المحظوظون وينسونها، أمّا نحن فكبرنا معها. تنساب الوحوش إلى جانبنا، تنام معنا. نسهر ونلعب وتسيطر، ولو صادف وفزنا، فلا مفر من التعايش معها والقول بصرامة: "أنظري يا وحوش استلقيت إلى جانبي لسنين طويلة، صوتك يعيش في رأسي، بإمكانك البقاء. أعلم أنّ التخلص منك مستحيل، لكن كفِّي عن زيارتي وابقي تحت السرير".

أدركت قبل عامين أنّني خسرت نفسي حين اكتسبت القدرة على النوم في كل الأسرة مع وحوش ليست لي. دعوت نفسي لزيارتها، لأن وحوشي كانت مسيطرة عليّ، مع الوقت فقدت القدرة على الاستيقاظ. لا أعرف كم بقيت نائمة قبل أن يجيء إخوتي.

الاكتئاب بطريقة غير علمية هو: البكاء في منتصف الليل على أرض المطبخ، قص الشعر ثلاث مرات في الأسبوع، نكتة عن الانتحار، انهيار في الشارع، عدم الاستحمام لأيام، اختفاء شعور الجوع والاكتفاء بالدخان والقهوة، الصعود على السطح، الرقص لساعات لا تمرّ فيها لحظة سعادة واحدة، السماح لأيّ شخص بالاتكاء على وسادتنا لتخفيف الوحدة، شعور مفاجئ بفرحة عارمة، اكتشاف معنى الحياة ومن ثم نسيانه، الوحدة وسط الجموع، صعوبة الخروج من المنزل أو العودة إليه، غشاء بين العين والواقع، إحياء الموتى وقتل صلة الرحم، اعتبار كل احتمال حب منقذاً لنا، تعبئة دائمة للفراغ بالكحول والحشيش والجنس وما يشبه الحب، الإجابة بـ"لا أعرف" حين يسأل أحدهم: "لماذا أنت تعيسة؟". لو علم المكتئب بأسباب تعاسته لما كان مكتئباً، ما هيك؟

لا يعي أصحاب العقول السليمة أنّنا لا نفهم الأسباب، بل نشعر فقط. ومن الصعب وضع الكم الهائل من الوجع في جملة مفيدة ونطقها، وفي الوقت عينه مهما تكلّمتم لا نسمع.

اكتبوا للمكتئبين كم أنّكم تحبونهم وكم أنّهم جميلون، وأنّ الحياة بدونهم لا تعني شيئاً، لا معبر يا حلوين. العلاقة مبنية أساساً على هذا الرد السريع، كلّنا نعلم أن شبح الانتحار يلاحقنا ونخرّسه بمعادلة "علقت له بقلب. لا ذنب علي". ربّما ما يحتاجه الشخص المكتئب هو الكثير من الصمت من نفسه ومن محيطه، حتّى تختفي الترّهات، وتدركوا أنّ تعبيره ليس سوى محاولة لنكز نفسه حتى يشعر.

كلّنا نعلم أن شبح الانتحار يلاحقنا ونخرّسه بمعادلة "علقت له بقلب. لا ذنب علي".

يأتي الذين يبهّرون الحياة بأسلوب منفر، ويسلبون الشخص حقه في التفكير بالموت، لماذا لا نبدأ ونكتفي بـ"يصبح لديك قدرة على الاستيقاظ والنوم، دون أن يختفي الوجع. تستمتعين بالقهوة، وتبنين حدوداً صغيرةً جداً للسعادة تُعدّ مكنوناتها على الأصابع. ضحكة من القلب، ملابس نظيفة، وفستان جديد بلا سبب. قدرة على الجلوس والاستماع لموسيقاك المفضلة. تتعلمين قول "لا" لغيرك وقبلها لنفسك. يعود البكاء وشعور العجز أحياناً، فالوحدة صعبة لكن ضرورية. تكتشفين أنّ الفراغ داخلي بحت، وأنّه كما استُخدمت من أشخاص، استخدمت أشخاصاً لتغلقي مراحل من حياتك. قناعة بأنّه لا يوجد عملية بحث عن الحب، الحب يحلّ عليك كما الموت، وأنّك لست سوى ضحية نفسك. تكفين عن كونك مباحة، وتكنّين في داخلك، تتقبّلين أنّ الفراغ هو أنت، وأنتّ جميلة جداً".

يقول إريك فروم في كتابه "فن الحب" إنّ كل مأساة الإنسان ومعاناته نابعة من فكرة الانفصال، بدءاً من الانفصال عن الجنة، مروراً بالانفصال عن ثدي الأم وعن الطبيعة، وصولاً إلى الانفصال عن المجتمع، وبالتالي يسعى الفرد طوال حياته للالتحام مجدداً. توجّهه هذه الرغبة نحو الجنس والصداقات والكحول والعمل والمخدرات، أيّ أمرٍ ينسيه، ولو لساعات، أنّه منفصل. يتوهّم الفرد أنّ الحب هو الخلاص، وفي بعض الأحيان يصير الجنون هو الحل، ليختفي الانفصال باختفاء الإدراك. يقول فروم أيضاً إنّ القدرة على الوحدة هي شرط القدرة على الحب، وبالتالي الخلاص فردي.

تختم دينا الوديدي أغنيتها مع مزاهر بعبارة: "ما ترجع لأصلك وتشوف مين في فصلك، دي شمسك وأرضك أصول الأصول وشمس وفصول".

رحلة العلاج موجعة أسوأ من الاكتئاب نفسه، يتخلّلها الكثير من الخزي والألّم جرّاء الصراحة ومواجهة الذات. في الحافلة كنت سأتقيّأ على نفسي من خجلي، لكنّ العلاج النفسي كان وسيلتي لكي أحيا، ولكل منا وسيلته.

مرّت سنتان منذ أن قالت لي الطبيبة: "عليك أن تحبّي نفسك"، وضحكت. القدرة التي أملكها على حب الآخر بإمكاني أن أصرفها على نفسي. البراءة التي فقدتها بعد الحب والموت تستعاد. وإن كان وجودي على هذا الكوكب استثناء، فلا ضرورة لأفهمه لكنّني أريده.

صباح عيد ميلادي تكلّمت مع أبي وشكرته لأنّه قرر وأمي إنجابي. أجريت أيضاً اتصالاً هاتفيّاً تأخّر سبعة أعوام استرجعت فيه ملكية وجعي. قلت له: "أحببتك كثيراً. في تلك الليلة أنا لم أتحمل مسؤولية نفسي، لا لوم عليك".

على الضفّة المقابلة للاكتئاب، حين عدت إلى نفسي، رحل أغلب الناس. أملك السعادة والحزن، وسريراً لم تلمسه الوحوش، وفنجاناً قد ينكسر لكنّه لي. لدي أيضاً وحدةٌ جميلة مليئةٌ بما وبمن أحب، وبكثيرٍ من الصمت والصبر. قدرة على الحياة، توازن وطين خصب في داخلي.

لا أزال أؤمن بالحب الموجود في الشعر والأغاني وأنّه حين يأتي تكون أنفسنا مبهورة دون أيّ إضافات.

أدركت قبل عامين أنّني خسرت نفسي حين اكتسبت القدرة على النوم في كل الأسرة مع وحوش ليست لي.
اعتبار كل احتمال حب منقذاً لنا، تعبئة دائمة للفراغ بالكحول والحشيش والجنس وما يشبه الحب، الإجابة بـ"لا أعرف" حين يسأل أحدهم: "لماذا أنت تعيسة؟". لو علم المكتئب بأسباب تعاسته لما كان مكتئباً، ما هيك؟
اكتبوا للمكتئبين كم أنّكم تحبونهم وكم أنّهم جميلون، وأنّ الحياة بدونهم لا تعني شيئاً، لا معبر يا حلوين.
ربّما ما يحتاجه الشخص المكتئب هو الكثير من الصمت من نفسه ومن محيطه، حتّى تختفي الترّهات، وتدركوا أنّ تعبيره ليس سوى محاولة لنكز نفسه حتى يشعر.
يقول إريك فروم في كتابه "فن الحب" إنّ كل مأساة الإنسان ومعاناته نابعة من فكرة الانفصال، بدءاً من الانفصال عن الجنة، مروراً بالانفصال عن ثدي الأم وعن الطبيعة، وصولاً إلى الانفصال عن المجتمع.
لا أزال أؤمن بالحب الموجود في الشعر والأغاني وأنّه حين يأتي تكون أنفسنا مبهورة دون أيّ إضافات.

تملؤنا القصص، والتجارب، والضحكات، والنكبات، أليس هذا كافيًا؟ ماذا تريد قصة حزينة أم سعيدة؟ أنظر، هنا كنت في المدرسة، وهناك قبلتي الأولى في شارع يمّوت، وهذه رسالة كتبتها بخطّي الرديء، رسالة طويلة لك قبل أن نلقي السلام، كي أتذكر لاحقًا لماذا اخترتك، كي أبقى كلّما سيطرت فكرة الرحيل: "كنت في الثالثة من عمري عندما بحثت داخل الراديو عن المرأة التي تغني بنت الشلبية، يومذاك رسا قلبي في صوت فيروز، العام الماضي أو المقبل رأيتك وسمعتك ورسا قلبي فيك".

تُسلّم الرسالة للشخص المناسب حين تسمح لي الحياة بتسليمها، حتى تلك اللحظة، قبلة على جبينك إعادة صياغة للحب، وقرار بالانتظار.

على الضفة المقابلة للاكتئاب لديّ ذنب واحد لم يلد ولم يولد، احتمال خاص جدّاً جعلني أدور عاريةً في غرفتي، أنزع الصور عن الحائط وأضع الشال على عنق المرأة المجنونة. موت أخير منصوب أمام عيني يوجّهني، وأنا وحدي مسؤولة عنه. عدا ذلك، الحياة جميلة جداً. ولكل الذين حلّوا عليّ وحللت عليهم، اعتذاراً وشكراً من القلب على الوجع والحب والمصادفة. لا تراب لي يا مظفر، علّمت الزرع السائب كيفية العيش بداخلي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image