مسارح ومقاعد وشاشات عرض تعلوها سُحب الغبار وأكوام من الأتربة. تتخللها القمامة في كل مكان، وتعتبرها الحيوانات الضالة ملاذًا أمنًا لها. من يجهل ماهية هذا المكان من قبل، لن يصدق أبدًا أنها مبان لدور سينما، كانت تضيء أنوارها بالفن وتقدم نموذجاً فريداً في التنوير والثقافة، ولكنها الآن مهجورة.
في مطلع القرن الماضي، تحديدًا عام 1908، فتحت مدينة أسيوط أبوابها لاستقبال أول دار سينما في محافظات الصعيد، هذا الافتتاح المهم دفع الكثيرين من سكان المحافظة إلى زياراتها ومشاهدة الأفلام.
استقبلت دار السينما الجديدة جميع محبي السينما، واتسعت لتشمل ما يقرب من 800 متفرج في العرض الواحد. هذه الدار هي النواة التي انتقلت منها دور سينما أخرى في الصعيد منذ ذلك الوقت حتى حقبة السبعينيات بالقرن العشرين.
وفي السبعينيات حظيت محافظة الأقصر بإنشاء عدد من دور العرض السينمائي، التي حرصت على عرض أفلام عربية وأخرى أجنبية، نظراً لطبيعة هذه المدينة السياحية، وحتى تجذب عدداً أكبر من السياح، عندما تنوع مصادر الترفيه والتثقيف بالمدينة.
التيار المتشدد يقضي على حلم أهل الجنوب في حضور الأفلام السينمائية
مع بداية الثمانينيات، توفي الرئيس محمد أنور السادات على أيدي متشددين ومتطرفين دينياً، وعلى الرغم من القبض على الجناة ومحاكمتهم امتدت أفكارهم الهدامة لتشمل جميع أشكال الثقافة والتنوير، وهذا ما حدث داخل محافظات الصعيد.
وجود السينما في الأماكن المنغلقة يجعلها أكثر انفتاحاً، وتجربة أسيوط أخبرتنا أن الحلم ممكن
حسني مبارك، الرئيس الأسبق، لم تكن له اهتمامات كبيرة بالفن والثقافة، ومن ثم كانت مهمة هؤلاء المخربين سهلة، ففي الثمانينيات والتسعينيات بلغ الهدم والتخريب مبلغاً عظيماً، بالإضافة إلى التهديدات التي وُجهت إلى أصحاب الدور السينمائية، الذين آثرو السلامة. فأغلقوا دور السينما لتتحول إلى خرائب ومقصد للحيوانات الضالة ومتسع لقمامة أهالي المنطقة، أو في أحسن تقدير تم تحويل نشاطها إلى مشروع تجاري.
الجزويت يحيي الأمل من جديد
في السنوات العشر الأخيرة، كان هناك عدد من المحاولات التي دأب أصحابها على منح الصعيد قبلة الحياة من جديد، عن طريق عدد من المشاريع الفنية، من بينها مدرسة جزويت الصعيد، ومشروع سكة فن، ومهرجان أسوان لسينما المرأة.
مهرجان أسوان
مثلما كانت أسيوط هي المحافظة الأولى في الصعيد التي استقبلت أول سينما في الجنوب، كانت هي أيضاً الأولى التي استقبلت مشروع مدرسة سينما الجزويت، إذ وقف قطار مدرسة الجزويت بها، معلناً عن إنشاء مدرسة تضم محبي الفن من شتى بقاع محافظات الجنوب.
"80 ساعة فن" لمدة لا تقل عن 80 ساعة، موزعة على ثمانية إلى عشرة أشهر، يدرس 25 طالباً من أبناء الصعيد صناعة السينما بأبسط الأدوات، وكيفية أن تخرج من كاميرا صغيرة، وأدوات غير حديثة، بقصة تستحق أن تروى.
في العام 2018، لاحظ القائمون على مدرسة الجزويت في القاهرة، أن عددًا ليس بالقليل من أبناء الصعيد يقطعون مسافات هائلة من أجل الوصول إليهم ودراسة السينما. فكان الاتجاه إلى إنشاء مدرسة هناك بأسعار رمزية، إذ يتكلف الطالب طوال مدة الدراسة 2000 جنيه مصري، في حين تتكلف الدراسة الفعلية للطالب الواحد أكثر من ذلك بكثير. على الرغم من وجود عدد من طلاب الجنوب، قصدوا جزويت القاهرة، فقد كانت لدى القائمين على المشروع مخاوف من وجود آخرين لديهم نفس الاهتمام ويمكن أن تقام من أجلهم مدرسة.
"الصعيد منغلق وليس متشدداً"
يقول محمد طارق، مدير مشروع السينما، لرصيف22 إنه بمجرد نشر إعلان صغير، عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ذهبت المخاوف إلى غير رجعة، إذ تقدم ما يقرب من أربعين طالباً راغبين في الانضمام إليهم، في حين لا تحتاج المدرسة أكثر من 25 طالباً لإقامتها، فوقع الاختيار على أكثرهم شغفاً وحباً للفن، والتزاماً بالمواعيد.
درجات الحرارة كانت تحديّاً مفاجئاً لم نعرفه عن هذه البيئة
لم تتوقف المخاوف لدى إمكانية إقبال الطلاب من عدمه، وإنما درجات الحرارة المرتفعة باتت التحدي الأكبر، بالنسبة لهم جميعاً، حتى أبناء مدن الصعيد أنفسهم، فالدراسة دائمًا مرهونة بوصول الطقس إلى درجات حرارة محتملة.
"الصعيد منغلق وليس متشدداً"، يقول محمد طارق، مدير مشروع السينما، ويضيف أنهم قاموا بدراسة منطقة الصعيد جيداً وطبيعتها الثقافية، ووجدوا أن مشكلة الصعيد أقرب للانغلاق منها للتشدد، وتفهم القائمون على المشروع هذه النقطة.
في مطلع القرن الماضي، فتحت مدينة أسيوط أبوابها لاستقبال أول دار سينما في محافظات الصعيد. هذا الافتتاح المهم دفع الكثيرين من سكان المحافظة إلى زياراتها ومشاهدة الأفلام
ومن ثم وقع الاختيار على مكتبة مصر العامة، لتكون ملتقى الطلاب، وبقعة آمنة لا يدخلها الدارسون وذووهم، سواءً عندما كانت بأسيوط، أو الأقصر، محل الدراسة الآن.
كريستين حنا
"سكة فن هو مشروعي الذي أحلم أن يساهم في تعزيز وجود السينما على خارطة الجنوب. بداية معرفتي بالسينما التسجيلية كانت من خلال مدرسة جزويت الصعيد؛ تقول كريستين حنا، مخرجة أفلام تسجيلية، وهي خاضت وشقيقتها معركة تشترك معهما فيها كثيرات من فتيات الصعيد الحالمات بالسينما، فأسرتهما المحافظة وقفت حائلاً أمام حلمهما في دراسة السينما والعمل بها، وتكلف الأمر مجهوداً كبيراً حتى وافق الأب في النهاية على دراستهما في مدرسة الجزويت القادمة من القاهرة إلى الصعيد.
هذه المعركة هي معركة الأب الرافض دخول ابنتيه مجالَ السينما، ولكن ثقة كريستين وشقيقتها ماريان، ضمن مشروع تخرجها من مدرسة جزويت الصعيد برزت في فيلمها التسجيلي "كشك بشاي"، الذي انطلقت بعده في عالم الإبداع، من خلال مشروعها "سكة فن"، وعلى عكس المتوقع، انطلق كل هذا من الصعيد إلى القاهرة.
ماريان حنا
داخل مؤسستها، تحاول كريستين دعم الفن، تحديداً من خلال عرض أفلام تسجيلية، أو أفلام السينما المستقلة، تحاول اختيار مواضيعها التي تتماشى مع قضايا الصعيد، وقضايا المرأة داخل محافظات الجنوب بشكل عام. تعرض هذه الأفلام بأسعار رمزية للراغبين في التعرف على هذا النوع من الفن. وفي محاولة منها لسد الفجوة الناتجة عن غلق السينمات وهدمها في الصعيد، فحتى هذه اللحظة لا يضم الصعيد كله، إلا سينما واحدة وهدفها تجاري بحت.
ست دورات مهرجان أسوان لأفلام المرأة وتخرج 36 شاباً وفتاة من صناع السينما
في أقصى محافظات الجنوب، تحتضن مدينة أسوان، طوال ست سنوات، ستّ دورات متتالية لمهرجان أسوان لأفلام المرأة. هذا المهرجان الذي يجمع أمرين في غاية الأهمية، أولهما تسليط الضوء على قضايا المرأة وصانعات السينما، أما الثاني فهو محاولة إحياء السينما باختيار واحدة من أهم مدن الصعيد كمكان لإقامته.
دورات تدريبية ومنح دراسية لأبناء الصعيد
لا يتوقف دور المهرجان عند مجرد الانعقاد السنوي، وتكريم عدد من صناع السينما، السيدات في القلب منهم، وإنما تدريب عدد من الشباب والفتيات من محافظات الصعيد على صناعة الأفلام السينمائية.
من تدريبات مدرسة سينما الصعيد
شهدت الفترة الأخيرة تخرج 36 شاباً وفتاة من أسوان وهم قوام الدفعة الأولى، للمشاركين في ورش صناعة السينما على مدار الدورات الست السابقة للمهرجان، واختار القائمون على المهرجان 15 منهم للانضمام إلى المدربين كمساعدين لهم بشكل رسمي.
المجال لا يزال مفتوحاً لضم عدد آخر من مواهب أبناء الجنوب المولعين بالسينما والحالمين بإنتاج قصص تعبر عن واقعهم في المقام الأول، حتى يأتي اليوم الذي يحصل فيه الصعيد على فرص متساوية مع غيره من المحافظات، وتعود السينمات والمسارح الفنية، الخاصة والحكومية إلى فتح أبوابها مرة أخرى، في كل مدينة وقرية في الصعيد، عن طريق هؤلاء جميعاً، الذين درسوا السينما وأصبحت على عاتقهم مسؤولية إحياء الأمل والفن من جديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...