شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"هل طرق المقاومة التي أعرفها باتت قديمة؟ "... ليلة رأس السنة في سجن القناطر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأحد 8 يناير 202301:30 م

"بيقولوا مروة الجنائية -اسم مستعار- بتعمل حلاوة حلوة. وبعلبة كليوباترا بس

طيب قولولها تعمل حساب السياسي معاها، كام واحدة يابنات اللي عايزة حلاة؟".

في جانب آخر، هناك من يحتفل بنهاية عام وبداية عام جديد ولكن على طريقة خاصة، فرضت عليه، وكان عليه أن يختار إما التعامل معها حتى لا يُجن جنونه، وإما أن يستسلم لنقطة البداية في الماضي التي أودت به إلى حاضر لم يخطر على قلب بشر ولا على قلبه.

على مقعد بلاستيكي يميل لونه إلى البني الداكن، لا يرتفع عن الأرض أكثر من أربعة سنتيمترات، تجلس مروة المحكوم عليها بالسجن عامين في اتهامها بقضايا شرف - تعدد أزواج - تجلس قبالة قالب من الحجر الأحمر مربع الشكل مفرغ قالبه لأربعة خطوط متعرجة بداخلها سلك من النحاس، موصل بسلك بلاستيكي خارجي تصل أطرافه العارية إلى فيشة الكهرباء الصغيرة المتصلة بالحائط كنا نسميها "السخان". تضع مروة على السخان وعاء مليئاً بالماء والسكر والليمون، تقلب محتوياته في اتجاه واحد كي يتماسك رويداً رويداً لينتج عنه "عرق الحلاوة"، هكذا يسمى، تتعالى ضحكاتها مع نظرات السجينات أو نظرات السجانة إليها حينما تصادف مرورها داخل العنبر وقت تفقدها عدد السجينات قبل موعد التمام -إغلاق باب الزنزانة - تستمر في تقليب محتويات الحلاوة، حتى التماسك، بدء يميل لون الحلاوة إلى اللون الذهبي فإلى التماسك.

تضع مروة على السخان وعاء مليئاً بالماء والسكر والليمون، تقلب محتوياته كي يتماسك وينتج عنه "عرق الحلاوة"، تتعالى ضحكاتها مع توجه نظرات السجينات إليها

تسكب مروة برفق الحلاوة على بلاط ساحة الزنزانة تتركها قليلاً حتى تبرد، تجمع عرق الحلاوة بيديها وهي تجلس قبالته في وضع القرفصاء، تجمع أطراف الحلاوة، تعمل على تليينها بين يديها ثم تقطعها الى كرات صغيرة تكفي كل كرة منها لسجينة واحدة، وقبالتها علبة سجائر كليوباترا، ثم تعيد طبخها مرات ومرات حسب عدد السجينات السياسيات.

اختارت البعض منهن ألا يستسلمن لحاضرهن القاسي بالرغم من أنهن لم يفكرن أن هذا يسمى مقاومة، أو رفضاً للمفروض من أولي الأمر والنهي... السلطة.

اختارت بعض سيدات سجن القناطر - اللواتي انتميت إليهن - الاحتفال ببداية عام جديد حتى وهن مكبلات سجينات، اعتدن قضاء تلك الليلة باتباع طقوس يقدم عليها السيدات والفتيات كل عام ولكن بشكل خاص، اخترن أن يعبرن عن تمسكهن بطبيعتهن. وكونهن نساء، تعتني كل منهن بشعرها، أظافرها، البعض منهن يذهبن للكوافير في حي الزمالك، وأخريات إلى حمام بلدي ربما الملاطيلي أو حمام الثلاثاء - مكان للاستحمام يملؤه البخار والمياه الساخنة يقع في الأحياء المصرية القديمة - وأنا كنت أنتمي للواتي يفضلن الحمام البلدي في الأحياء الشعبية العتيقة.

اختارت بعض السجينات ألا يستسلمن لحاضرهن بالرغم من أنهن لم يفكرن أن هذا يسمى "مقاومة"، أو رفضاً للمفروض من أولي الأمر والنهي... السلطة.

أبت أولئك النساء رغم الأسوار والأصفاد التخلي عن عاداتهن في تلك الليلة المشهودة، تقدمت إحداهن وعملت على صنع الحلاوة اليدوي - سكر ومياه وليمون - طريقة بدائية لنزع الشعر من الجسم - والمقابل هو علبة سجائر كليوباترا، التي هي العملة النقدية الوحيدة المتاح التعامل بها داخل السجن، وكانت حينها تساوى 25 جنيهاً- حينما كنت سجينة - على أن تقوم أخرى بمساعدة الفتيات والسيدات اللواتي يرغبن في الحفاظ على عاداتهن تلك الليلة بنزع شعرهن الزائد، فيما تقوم إحدى فتيات قضايا سيناء بنزع شعر الوجه والحاجب، والمقابل بون قيمته 10 جنيهات، وهي أشبه بعملة بنك الحظ مدون عليها المبلغ وشعار "تحت رعاية مصلحة السجون"، نظراً لأنهن أودعن في سجن القناطر وأسرهن تقيم إما في العريش أو في الإسماعيلية، ولا يمتلكن ثمن الزيارة أو نفقات الزيارة الشهرية لذويهن في السجن، فكان عليهن إيجاد طريقة للنجاة من الجوع، فقررن العمل وفقاً لخبراتهن النسائية، الحلاوة والفتلة!

تشرين الثاني/نوفمبر 2019، حينما أودعت أنا سجن القناطر، أي قبل رأس السنة بشهر، كنت أفكر في الطرق المعتادة للمقاومة، اخترت ألا أدع للانهيار والبكاء فرصة إلى قلبي، وقد وفيت بالوعد حتى أطلق سراحي. كنت أفكر متى أستعين بالخطوات التصعيدية للإضراب مثلاً عن استلام التعيين - الوجبة المقدمة من السجن لكل سجينة - الإضراب عن التعامل مع مشفى السجن، هذا وإن صح التعبير أن نسميها بالمشفى، نهاية بالإضراب التام عن الطعام، خطوات تصعيدية كنت أرتبها في رأسي وأتمعن في توقيت الاستعانة بها.

حل موعد رأس السنة، كي أتعرف أنا على طرق أخرى للمقاومة، دون إدراك، ودون ترتيب مسبق، أولئك النساء اخترن أن يقاومن على طريقتهن: "أنا دخلت السجن ست وهخرج منه ست زي ما أنا".

بعضهن ارتأين أن في التبرج واستخدام العطور مقاومة، والبعض استعن بالحفاظ على ساعة رياضة كل يوم وإن كانت داخل الزنزانة، أو الرقص على أغاني الراديو كلما أتيحت الفرصة لنا بالحصول على راديو أو بطاريات لتشغيله، إذ كانت يمنع علينا فعل ذلك في كثير من الأحيان.

حل موعد رأس السنة، كي أتعرف أنا على طرق أخرى للمقاومة، أولئك النساء اخترن أن يقاومن على طريقتهن: "أنا دخلت السجن ست وهخرج منه ست زي ما أنا"

أما أنا فقد كنت أرى الوجه الآخر للمقاومة، قبل أن أعلم أن للمثابرة والمقاومة وجوهاً كثيرة!

حلت ليلة رأس السنة، توافق هذا اليوم مع زيارة بعض زميلاتي في الزنزانة، كانت بعض الأسر التي اعتادت أن تمر سنوات وسنوات وذووها داخل السجون، يجلبون بعض المستلزمات الترفيهية التي لربما تساعد في التحايل على قسوة السجن وجدرانه، مثل عطور، كريمات البشرة، كريمات للشعر، بعض الأكلات أو الحلوى.

توافقت زيارتي أنا أيضاً قبيل موعد رأس السنة، أحضرت لي أمي وشقيقتي وردة وبطاطا مشوية - تعلم أمي كم أحب البطاطا- وكتاباً جديداً، وملابس داخلية بيضاء "شيك"، وجلابية جديدة لزوم جلسات التحقيق، وحرص زوجي حسام أن يهديني سلسلة تحمل رمز صبارة صغيرة، طلب من أمي شراءها لي قبل الزيارة. يتطلب كل ذلك بالطبع موافقات أمنية استمرت مدة التباحث فيها حتى اليوم التالي كي أتسلم زيارتي كاملة!

كنت في حالة اضطراب، ماذا عليّ أن أفعل؟ هل طرق المقاومة التي أعرفها باتت قديمة؟ هل ما تفعله أولئك السيدات يجدي نفعاً؟ هل بالإمكان أن تخفف طرق المقاومة الجديدة من شدة وطأة ما نحن فيه؟

لم أتمكن من استيعاب الأمر، فكيف لي أن أتعطر وأضع أحمر الشفاه، وأنزع شعر وجهي أو أضع طلاء الأظافر وأنا سجينة؟

لا أخفي سراً، لم أتمكن من استيعاب الأمر، فكيف لي أن أتعطر وأضع أحمر الشفاه، وأنزع شعر وجهي أو أضع طلاء الأظافر وأنا سجينة؟ السجين السياسي عليه أن يكون صارماً، وألا يتماهى مع التيار وأن لا يعمل على توفيق وضعه داخل السجون، هذا المكان لم ولن يكون لي أو لغيري طويلاً. لم أبال بما فعلته البقية، لهن مقاومتهن ولي مقاومتي.

ولكن بمرور الوقت، ارتأيت أنه لا يجب أن يعرف أحد بأنني مرهقة، وألا يراني أحدهم والبرد والحنين الى أسرتي وصغيري، ورفيقي المودع في السجن الآخر يأكلون من روحي وجسدي يوماً بعد يوم.

قررت أن أتزين قليلاً قبل ذهابي إلى جلسات التحقيق وقبل خروجي لموعد الزيارة الشهري، عشر دقائق زيارة نعم، ولكن يجب أن أكون بكامل هيئتي، لم ينل مني السجن أو السجان.

وضعت طوقاً من الصوف الملون على شعري كي أتزين به، حاكته لي إحدى زميلاتي في الزنزانة، والقليل من العطر على جلبابي الأبيض لم يضر، لربما تتاح لي الفرصة أن أحتضن أمي في مكتب الضابط أو ربما ألتقي بزوجي في الجلسات، نعم لا بد أن أكون "على سنجة عشرة"، كما نقولها بالدارجة المصرية لمن هم في أبهى صورة.

ولكن سريعاً ما عدت كما كنت، عدت لقناعاتي، أحافظ فقط على مظهري الجيد في جلسات التحقيق قدر المستطاع، لكن خارت قواي الجسدية بمرور الوقت ولم أتمكن من إخفاء الإعياء على أمي، فقررت المثول لقناعاتي بالمقاومة التي عاهدتها.

مهلاً، دعوني قبل ذلك أطلعكم على بعض مخاوفي، كنت أخشى أن أفصح أننا نحظى بفرصة ضئيلة للحصول على أحمر شفاه من أردأ الأنواع، نشتريه من كانتين السجن، كنت أخشى الإفصاح عن أنه لدينا تلفاز صغير داخل الزنزانة، صحيح، أخشى أن يظن البعض أن هناك سجوناً يتوافر فيها جانب من الرفاهية والرعاية الآدمية للسجناء كما تصورها العديد من قنوات النظام المصري، وهذا غير صحيح.

"يعمل إيه التلفزيون في زنزانة جيل ضايع؟"

ما الذي يمكن أن يقدمه تلفاز أو مروحة متهالكة في زنزانة صغيرة يسكنها نحو 150 سجينة يتشاركن نفس الهواء، والمسكن، والفراش ودورة المياة. كنت أخشى أن يصدق البعض الصورة الوهمية التي تنشرها القنوات عن تلك السجون التي لم يشهد مثيل لها إلا الأفلام والمسلسلات المصرية المختارة كمسلسل "الاختيار" مثلاً!

أحب التلفاز كثيراً، تأسرني المسلسلات، والأفلام القديمة برمتها، التلفاز نافذتي الوحيدة للحصول على الصفاء الذهني، اعتدت قبل السجن أن أمدد جسدي على الأريكة أمام التلفاز بعد نهاية يوم عمل شاق وطويل، افتقدته كثيراً في بداية فترة الاعتقال، إلى أن تم تسكيني داخل زنزانة تمتلك فيه النبطشية - المناوبة - تلفازاً صغيراً معلقاً على الحائط، تعرض عليه القناة المصرية الأولى والثانية وفي بعض الأحيان الإشارة تتمكن من التقاط إرسال القناة الثالثة، وهي فقط صاحبة الأمر والنهي بشأنه، لها الأحقية لأنها سجينة قديمة - تقضي فترة عقوبة طويلة - لذا يحق لها الكثير من الامتيازات على عكس السياسي.

 كان التلفاز هو الفانوس السحري لنا داخل هذا المكان، كنا نلتفت إلى التفاصيل التي من المرجح ألا يتلفت لها من في الخارج، من يشاهد التلفاز وهو متكئ على الأريكة

منت علينا بفرصة متابعة المسلسلات، وتصادف حينها عرض مسلسلات مثل غراند أوتيل، وهوانم جاردن سيتي، ورأفت الهجان، يا الله كم أحب هذه المسلسلات!

ولكن بعيداً عن الخوف، كان التلفاز هو الفانوس السحري لنا داخل هذا المكان، كنا نلتفت إلى تفاصيل التفاصيل التي من المرجح ألا يتلفت لها من في الخارج، من يشاهد التلفاز وهو متكئ على الأريكة.

كنا نتحول إلى أصنام فور الاستماع إلى بدء موسيقى تتر المسلسلات، تبحر كل منا على سفينتها الخاصة، تبحر واحدة إلى أريكة الصالة في منزلها وأطفالها يلعبون من حولها، تنهرهم خفيفاً حتى تتمكن من مواصلة المشاهدة، وأخرى تبحر على سفينة تذهب بها إلى هاتفها الجوال تتابع مسلسلاتها المفضلة وهي في المواصلات، تنظر كل منا للأخرى نبتسم ونتنهد في صمت، كل منا تعلم مقصد الأخرى، تشعر بحنينها إلى حياتها في الخارج، ثم نعود أدراجنا في لحظة لنجد الحائط الرمادي القاتم اللون، والغطاء الأسود الخشن الملمس تحت أقدامنا وهو قدم لنا كإعانة من السجن نتقي به لسعة برد البلاط، تشرئب أعناقنا للأعلى لنتابع المسلسل.

كنا حريصات على متابعة كل تفصيلة تعرض في الساعات القليلة المسموح لنا بها مشاهدة التلفاز، حفظت أسماء فريق العمل لكل مسلسل من المصورين والمنتجين، والنجارين عن ظهر قلب، ينتهي المسلسل وتنتهي معه الرحلة التي كنا فيها لمدة نصف ساعة وهي مدة المسلسل، أعظم وأهم نصف ساعة في يومنا داخل السجن، تهبنا الصبر، وتقينا من وخزات سهام الفراق وآلامه، تأخذنا بعيداً عن حاضر قميء موحش ومظلم نحيا فيه كل يوم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image