في إحدى ليالي يناير (كانون الثاني) الباردة، دفعت الحارسة جسدها إلى داخل زنزانة لا تزيد أبعادها عن مترين ونصف المتر عرضاً وثلاثة طولاً. ملابسها لا تكاد تقيها البرد، فوقفت ترتجف باحثةً عن ركن دافئ. دارت عيناها في الزنزانة الضيقة حتى وقعتا على سيدة في منتصف الأربعينيات، منهمكة في وضع أحمر للشفاه.
بدا المشهد غريباً، من أين أتت تلك السيدة بالبال الرائق كي تتجمل في زنزانة تضم 18 سجينة غيرها؟
أُلقي القبض على زهرة عبد العال في يناير/ كانون الثاني 2018، أثناء عملها في أحد المقاهي بمنطقة وسط المدينة (قلب القاهرة)، بعد مشاجرة مع إحدى زميلاتها. وصلت زهرة إلى قسم شرطة السيدة زينب، لتشهد تلك اللقطة. تقول: "كان مشهد صعب استوعبه، مين ممكن يشوفها عشان تهتم بمظهرها كدا؟"، لكن السيدة كانت لديها إجابة واضحة: "بنكسر الحبس".
في الزنزانة، وجدت زهرة أكياساً معلقة على الحائط، تضم المأكولات "وطلاء أظافر وأحمر شفاه، وعطراً ومناديل مبللة، وملاقط، وغسولاً للوجه وحنة للشعر". وفي أحد جوانب الغرفة، كيس كبير وضعت السجينات بداخله أحذيتهن، وبجواره كيس يضم الملابس، وبالقرب من الباب كيس فيه بقايا الطعام وما لا يرغبن به.
بدا المشهد غريباً، من أين أتت تلك السيدة بالبال الرائق كي تتجمل في زنزانة تضم 18 سجينة غيرها؟
أمام مرآة صغيرة تمسك باليد استكملت السيدة ضبط أحمر الشفاه، وقبل الخلود للنوم على الفرشة المخصصة لها على الأرض، والتي تشاركها بها سجينات أخريات، وضعت عطرها المفضل، ونظرت لزهرة مبتسمة وقالت "بكرة تتعودي".
في اليوم التالي، راحت زهرة تنتظر موعد زيارتها، فالقسم يسمح لذوي "النزلاء" بإدخال الطعام وما يحتاجونه يومياً، إلى جانب زيارة أسبوعية يمكن للأسرة خلالها أن ترى السجينة أو السجين 60 ثانية من وراء شباك صغير بباب الزنزانة، يطلق عليه "النضارة". الزيارات التي دخلت لحجرة زهرة وزميلاتها تنوعت ما بين طعام وشراب وملابس، وأدوات نظافة شخصية، بجانب "مكواة شعر". قفزت إحداهن بفرحة حين وجدت المكواة في "الزيارة"، وقالت لزميلاتها "أخيراً المكواة دخلت!"، وبدأن عقب تناول الطعام استخدامها جميعاً. تشرح زهرة لرصيف22: "لا توجد خصوصية في أماكن الاحتجاز، الشيء الواحد الذي من الممكن أن يستخدمه الكثيرون، هو مكواه الشعر، التي استخدمناها جميعاً، وجاء دوري وفردت لي صديقتي شعري، وعلمت منها أنها تمكنت من إدخال المكواة مقابل مبلغ مالي تسلمه من ذويها أحد أمناء الشرطة، لأن المكواة تعتبر من الأشياء الممنوعة في الزيارة".
أمام مرآة صغيرة تمسك باليد استكملت السيدة ضبط أحمر الشفاه، وقبل الخلود للنوم على الفرشة المخصصة لها على الأرض، والتي تشاركها بها سجينات أخريات، وضعت عطرها المفضل، ونظرت لزهرة مبتسمة وقالت "بكرة تتعودي"
خلال ثلاثة أشهر قضتها زهرة في القسم، أصبحت، كزميلاتها، تحرص على التجمُّل. تقول: "وجدت نفسي أبحث عن المرآة وأضع أحمر الشفاه الذي كنت أطلبه من شقيقتي في الزيارات، واهتم بتسريح شعري عند الذهاب لجلسات النيابة، وهنا شعرت بالجملة التي قالتها صاحبة أحمر الشفاه في ليلتي الأولى، وهي أننا نتجمل كي نكسر الإحساس بالسجن ونشعر أن الحياة لم تنته بعد، فما زالت في داخلي أنثى تبحث عن الجمال".
ظروف زهرة كانت أفضل من ظروف عبير الصفتي، التي قضت أكثر من عام بالحبس الاحتياطي، على ذمة القضية 674 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا، بتهمة نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة محظورة. فعدا أن المدة التي قضتها عبير أطول من المدة التي قضتها زهرة، فالمكان مختلف أيضاً، لأن القسم كان يسمح بدخول العديد من احتياجات السجينات، بعكس سجن القناطر الذي قضت فيه الصفتي مدة حبسها.
فوكو في طرة
"11 يوماً في الإيراد من دون استحمام أو تغيير ملابس سوى مرة أو اثنتين"، هكذا وصفت الصفتي فترة "الإيراد"، وهي الفترة التي يقيضها السجناء بعد دخول السجن مباشرة وقبل السكن في العنابر. في أثناء تلك الفترة لا يسمح للسجين أو السجينة بالاستحمام يومياً. فدخول دورة المياه يتم وفقاً لمواعيد محددة، كما لا يُسمح للسجينات بتمشيط شعرهن إذ يجردن من متعلقاتهن لدى الوصول إلى السجن.
تقول الصفتي: "بعد الانتقال إلى العنبر، كان هدفي الأول هو الاستحمام، ثم تسريح شعري لسببين، الأول للإحساس بالنظافة التي حرمت منها 11 يوماً، والثاني هو الإحساس المحدود بالحرية من خلال التمتع بأمور كنت محرومة منها".
في كتابه "المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن" يحلل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو صناعة المؤسسات الاجتماعية على نمط السجن، وممارسة الدولة لسلطتها من خلال السيطرة على الأجساد داخل أسوار السجن أو داخل أسوار المدرسة أو المصنع أو غيرها من المؤسسات الاجتماعية التي تنشأ على نمط السجون، من خلال ممارسة الرقابة اللصيقة على الأجساد ووضع القواعد لحركتها وممارساتها، ومعاقبة كل من يخرج عن الأنماط التي تتخذ موضوعها من التحكم و"الحرمان من اللذة".
لم تقرأ الصفتي كتاب فوكو، لكنها تعرف أن أبرز آليات السيطرة التي تم استخدامها ضدها وضد زميلاتها هو "الحرمان" من السيطرة على أجسادهن وتحويل احتياجاتهن الأساسية في النظافة والحركة والنوم إلى مقايضة خاضعة لتحكم آمري السجن وحراسه. تقول: "اليوم في السجن طويل جداً وممل جداً. ساعات النوم من 12 ليلاً حتى 8 صباحاً فقط. هناك 150 سيدة في عنبر واحد، نجلس جميعاً على الأرض، ولا مجال للمشي".
لم تقرأ الصفتي كتاب فوكو، لكنها تعرف أن أبرز آليات السيطرة التي تم استخدامها ضدها وضد زميلاتها هو "الحرمان" من السيطرة على أجسادهن، وتحويل احتياجاتهن الأساسية في النظافة والحركة والنوم إلى مقايضة خاضعة لتحكم آمري السجن وحراسه
البحث عن نشاطات لتزجية الوقت كان هدف عبير. فكيف يمكن لتلك الساعات أن تمر في مجتمع نسائي مغلق؟ تقول: "قرأنا كتباً وروايات، وأعدنا قراءتها، وتناقشنا وحكينا مما عانينا وما نعانيه، لنجد أنفسنا نتجه لما تبحث عنه السيدات، ولكن لا يمكن لأحد أن يقول لنا عبارة "فستانك حلو"، لأننا لا نرتدي سوى الأبيض، اللون المسموح به، ولكن يمكننا أن نقول لإحداهن شعرك جميل، أو طلاء أظفارك ممتاز". وتضيف أنها ومن معها في العنبر كن يبحثن عن الجمال "لمواجهة الانهيار".
"كنز قومي"
هكذا تصف عبير أدوات التجميل التي تمكنت وزميلاتها من إدخالها إلى السجن. هذه الأدوات وصفتها بأنها "كنز قومي". تبدأ رحلة إدخالها باستئذان من رئيس مباحث السجن. تقول الصفتي: "موافقة رئيس المباحث كانت تأتي مرة، وأخرى لا، من دون سبب واضح، ومن الممكن أن يوافق على طلاء أظافر أو أحمر شفاه مثلاً، ويرفض صبغة شعر أو العطر بزجاجات بلاستيك أو قلم كحل. وعند السماح بتلك الأدوات كان الأمر يمثل لنا انتصاراً جماعياً، لأننا سنتشارك بها جيمعاً".
"نتجمل أيضاً لأننا في الخارج كنا نُقابل عندما نتجمل بالمضايقات في الشارع أو لدى الأهل، ولكننا حالياً أصبحنا في محيط لا يضم سوانا"
قائمة الاحتياجات الأسبوعية التي كانت تطلبها عبير من أسرتها، بجانب الطعام والشراب، كانت تضم أدوات تجميل، وتعدها رابطاً بينها وبين عالم الحرية، وراء الأسوار.
مكواة الشعر غير مصرح بها نهائياً داخل السجن، فكن يبحثن عن طرق مختلفة للعناية بالشعر وقصه وصبغه بالصبغة التي تأتيهن في الزيارات أو التي تباع في كانتين السجن. واعتادت السجينات التزين في يوم الزيارة. تقول الصفتي: "نحرص على غسل ملابسنا في اليوم السابق للزيارة، والاهتمام بالشعر والشكل ووضع المكياج والعطر، حتى نخرج لذوينا وكأننا نحاول طمأنتهم علينا بأننا ما زلنا نحيا. وأيضا كنا نرسل تلك الرسالة لأنفسنا وهي أن هذا الجدار لن يكسرنا، وما زلنا نحاول".
في الأعياد والإجازات تقفل أبواب العنبر. لا تخرج السجينات للتريض أو الزيارات، في تلك الفترة يزداد التزين والتجمل. "نتجمل أيضاً لأننا في الخارج كنا نُقابل عندما نتجمل بالمضايقات في الشارع أو لدى الأهل، ولكننا حالياً أصبحنا في محيط لا يضم سوانا"، تقول الصفتي.
بناه الرجال للرجال
محاولات التزيُّن تقابل واقعاً كتبت عنه مؤسسات حقوقية ونسوية لسجون النساء وما تعانيه. فرغم أن أعداد النساء في السجون أقل من أعداد الرجال، هناك تمييز ضدهن، ولأن أغلبية السجناء من الرجال بشكل عام، نجد أن جميع الإجراءات والسياسات المتعلقة بأماكن الاحتجاز والسجون، وحتى الموقع والتصميم الهندسي للمباني، لا تراعي خصوصيات النساء. لذلك يتعرضن للعديد من الإجراءات التمييزية وللعنف في سياقات مختلفة. مسألة كون السجون صممها الرجال من أجل الرجال غير محصورة بمصر وحدها. بل تنتشر في كثير من دول العالم، وبخاصة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، إذ صممت غالبية السجون على نمط السجون الأوروبية، وتحديداً السجون البريطانية والفرنسية التي كانت هي العماد الذي قامت عليه تصاميم السجون في مصر.
هذا الوضع رصدته ورقة عمل أصدرتها مؤسسة "نظرة" للدراسات النسوية في العام 2017، تحت عنوان "للعنف سجون كثيرة: نظرة على تجارب النساء داخل السجون وأماكن الاحتجاز في مصر".
وذكرت الورقة أن السجون المخصصة للنساء في مصر لا تتعدى الخمسة وتقع في محافظات رئيسية، وهي سجن القناطر وهو أكبرها ويغطي القاهرة الكبرى والأجزاء الشرقية، وسجن دمنهور الذي يغطي مناطق الدلتا من الإسكندرية ومطروح والبحيرة، وسجن المنيا الذي يغطي الصعيد، وسجون بورسعيد وطنطا، وهي صغيرة لا تستوعب الجرائم الكبيرة التي تتطلب قضاء مدة طويلة في السجن.
كما أن العنابر في سجن طنطا لا تحتوي على حمامات، وإنما تقوم السجينات بقضاء حاجتهن في جرادل، لذلك يطلقون عليه "سجن جردل"، ومن أهم شكاوى السجينات صعوبة وصول الزيارات لهن وبُعد السجون عن أماكن سكن ذويهن. هذا بالإضافة إلى اكتظاظ السجون. فبحسب شهادة إحداهن لمؤسسة "نظرة"، فإن سجن دمنهور على سبيل المثال يستوعب 450 سجينة بحسب اللائحة، لكن عدد السجينات فيه تخطى الألف.
الـ"روج" للجميع
الرغبة في التحرر من قيود السجن لا تفرق بين سجينة سياسية وأخرى جنائية، فالجميع واحد، كما قالت سماح أحمد التي هي واحدة من السجينات السياسيات*، وقضت عاماً ونصف العام في سجن النساء بدمنهور: "قبل السجن كنت أهتم بطول شعري وصحته، وببشرتي أيضاً. ولكن بعد السجن، ولأن المنتجات المخصصة للعناية بالبشرة والشعر ممنوعة، بدأ شعري يتساقط وبشرتي تتعب، ما زاد من سوء حالتي النفسية، فقررت تغذية شعري بزيت الزيتون الذي كان يُسمح به في الزيارات لأنه مخصص للطعام".
أحمر الشفاه الذي تمكنت سماح من إدخاله في واحدة من الزيارات بعد التوسل إلى ضابط المباحث، دار على كل السيدات في العنبر. تقول: "القلم كان يمر علينا جميعاً. نحافظ عليه خوفاً من نفاده لصعوبة حصولنا على واحد أخر". وبجانب أحمر الشفاه، كانت الفتيات يرسمن بأكياس الحنة التي تباع في الكانتين على أجسادهن. وبنفس الأكياس أيضاً يلوّن أظافرهن بدلاً من طلاء الأظافر الممنوع داخل السجن.
وماذا عن الفوط الصحية، التي تعدها سلطات السجن من أدوات التجميل فتمنع دخولها أحياناً؟ تجيب سماح: "لا توجد قواعد للفوط الصحية. ففي زيارة من الممكن إدخالها بسهولة، وفي زيارة أخرى يرفض دخولها دون سبب أو مبرر كي نشتريها من الكانتين بأضعاف سعرها. وهناك سجينات لا يستطعن شراءها فيلجأن إلى الفوط القماش، وهو ما يسبب لهن التهابات ومتاعب صحية".
ووفقاً للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ينص قرار وزير الداخلية رقم 468/2017 بشأن كيفية معاملة المسجونين ومعيشتهم (المعدِّل لقرار وزير الداخلية السابق رقم 691/1998)، على أن هناك احتياجات جسدية خاصة بالمرأة خلال شهرها الثالث من الحمل من حيث توزيع الوجبات الغذائية الإضافية. كان ينبغي أن يتضمن القرار جوانب أوسع لصحة النساء واحتياجاتهن.
وطالبت الورقة بـ"معالجة هذا النقص" من خلال قرار جديد لوزير الداخلية ينص على صرف فوط صحية لمدة سبعة أيام شهرياً، "لعل هذا التدخل القانوني يتصدى لواقع كون الاحتياجات الجسدية للنساء غير مدرجة في القانون إلا في حالات الحمل، ويرفض اعتبار احتياجات النساء الجسدية خلال دوراتهن الشهرية ترفاً وليست احتياجات ضرورية، تماماً مثل الغذاء والملابس"، تتابع سماح.
ظنّت السيدات أن المضايقات التي عانينها في الشارع ليست موجودة في السجن أو في المحاكم. تقول سماح: "القاضي كان يتعمد إهانتي في كل مرة يجدد بها حبسي أمامه، ويسخر من شكلي ويقول لي لماذا أضع أحمر شفاه وأنا محبوسة، وكأن جسدي ليس ملكي أيضاً، نعم كنت أعاني من تعليقات مشابهة خارج السجن، ولكن بداخله أيضاً لم يسلم جسدي منها".
وتختم سماح: "السجن تجربة مؤلمة للجميع، لكن ظروف الاحتجاز السيئة والقاسية معاناة أكبر بكثير من معاناة القيود، ولا سبيل أمام من يحبس خلف السور سوى محاولة التغلب عليها، ولأن المجتمع دائماً يرفض تزين النساء، نتزين داخل السجن لنخفف القيود التي تحاصرنا داخل السجن وخارجه أيضاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.