لكلٍّ من ابنتيّ مكانة خاصة. البنات نعمة كبرى، تتقلب بين دلالهن ورقّتهن. حتى ألاعيبهن وحيلهن تضحكك. يهذبن في نفسي ذلك الجانب الوحشي الغاضب أو الحزم الثائر، عندما ألحظ رقتهن وهشاشتهن التي لا تتحمل تبعات ثورتي... أخضع سريعاً لتلك الرقة وألوم نفسي على ذلك الغضب، حتى لو كنّ السبّاقات إلى الخطأ.
إِنَّ البَنَات لَمِنْحَةٌ عُلْوِيَّةٌ *** فَاشْكُرْ لِرَبِّكَ أَنَّهُ أَعطاها.
بنت أبيها
تستغلني ابنتي الصغرى سلسبيل، وتتدلل عليّ بشكل يحطم كل سوار العزم والتصميم، فأكسر من أجلها كل القواعد التي سبق أن عقدتها، وأقسمت على الالتزام بها. اكتشفت عبر ملاحظة عابرة من زوجتي أن ليس لي سابق خبرة بالتعامل مع هذه السنّ الصغيرة للبنات... كنت أشير بإصبعي نحو ابنتي الكبرى سندس، وأنا أهم بالسخرية من بداهة خطأ كلماتها، قبل أن أكتشف أنني لم أشهد سنوات العمر الجميلة تلك مع سندس؛ لقد قضيتها مسجوناً.
"لقد كنت في زمن الاعتقال الجميل"؛ هكذا يقول بعضهم لي شارحاً صعوبة الوضع حالياً.
أعدّ سندس (الكبرى) أعزّ صديقاتي. أستشيرها وترشدني في كثير من الأمور. استيعابها للّغة والثقافة (في المجتمع الجديد)، أسرع من استيعابي. ثقتها بنفسها في ذلك المجتمع الجديد تزداد. ربما تجاوزت كثيراً من الآثار النفسية التي لحقت بها في سنتَي السجن والبعد، وفي أعقابها تجربة الغربة المفاجئة. تدرك أن لها جذوراً ثقافيةً يجب ألا تقتلعها، ومجتمعاً محيطاً يجب أن تفهمه. أحاول معها بسعي حثيث أن نحافظ على ذلك التوازن بين وقت وآخر.
بالرغم من تلك المكانة التي لا ينازعها فيها أحد، خاصةً أن سلسبيل تصغرها بخمس سنوات ونصف، فإن الصديقة الأثيرة تنظر كثيراً بعين الغيرة إلى أختها الصغيرة ودلالها الذي لا يمكنها مجاراته.
سندس حظيت بدلال الأعمام والأخوال والأجداد في سنواتها الأولى في مصر، أما سلسبيل فلم تدرك من ذلك شيئاً. ربما زاد ذلك من التصاقها بي ومن إفراغ كل مخزونها من الدلال نحوي... خاصةً أنها على ما يبدو اكتشفت أنني أبٌ خام، بلا تجربة، تستطيع أن تحصل منه على ما تريد بجرعات الدلال والقبلات والأحضان. هي تعرف أن معظم الممنوعات ستفتح أبوابها بعد ذلك.
كنت أشير بإصبعي نحو ابنتي الكبرى سندس، وأنا أهم بالسخرية من بداهة خطأ كلماتها، قبل أن أكتشف أنني لم أشهد سنوات العمر الجميلة تلك مع سندس؛ لقد قضيتها مسجوناً
الاستغلال الثنائي
تساعد سندس في تعليم كثير من الأشياء لسلسبيل؛ مفردات وكلمات ومهارات، خاصةً تلك التي تسمعانها في مسلسلات الكارتون المفضلة لديهما، وفي أكثر من مرة تعاونتا سراً ونسّقتا من ورائي للحصول على مبتغاهما... تطلق سندس حواراً عقلياً ونقاشاً للوصول إلى الهدف، يتوازى ذلك مع جرعات الدلال السلسبيلية.
ضبطت البنتين وهما تتفقان علي أكثر من مرة. سندس أصبحت لها قدرة على استخدام سلسبيل للوصول إلى ما تريد. بقدر ما أسعدتني قدرتهما على التنسيق والتواصل والتآمر (حتى لو ضدي)، فإنني انزعجت بشدة من إدراك سندس أن دلال الصغرى يفتح مغاليق أمور ربما تستعصي عليها. اتهمت نفسي بأنني أوصلتها إلى تلك المرحلة، لكني لا زلت غرّاً أمام حيل سلسبيل.
هل يمكن القول إن الزهور التي يغيب عنها آباؤها أو أمهاتها في قضايا سياسية من دون أحكام عادلة لسنوات ممتدة، تشعر بالحماية والعدالة والحب؟ أم بالغربة والفقد؟
الغيرة الفطرية
التآمر الثنائي بينهما لم يمنع الغيرة الفطرية. سندس أحياناً تغار من تلك التي تعلمها كل شيء وتساعدها في ارتداء ملابسها وحذائها ثم تفوز وتتفوق عليها في جوانب الدلال والاجتماعيات وسرقة الصورة وانتباه الحاضرين، ولذلك تعاقبها بين حين وآخر بحجب المساعدات عنها.
أدرك أن الغيرة قد تلتهب في قلب صغيرتي عندما لا تساعد أختها على تبديل ملابسها أو ربط حزام السيارة أو غيرها من الأمور التي لا تزال يد الصغرى لا تتقنها.
أعود إلى الحقيقة المؤلمة، وهي أنني لم أعايش سنوات انفجار الكلمات والتفاعل الاجتماعي مع سندس. لست أدري لماذا ذكّرتني زوجتي رفيدة بتلك النقطة. أعرف أنها أرادت طبعاً لفت نظري كي لا أخضع سريعاً لدلال سلسبيل، وأنني لا زلت ساذجاً في حضرة دلالها وقبلاتها، لكنها كذلك ذكّرتني ولو من دون قصد أن قطار العمر لا يعود، وأن ما فات قد فات.
أبناء الغائبين وبناتهم
يعدّني كثيرون محظوظاً. قضيت عامين لم تنقطع خلالهما رعاية أسرتي وتضامن الزملاء معي. آلاف المنسيين لا يجدون ذلك، حتى كثير من المشهورين في أيامنا هذه يجرّ عليهم التضامن الكثير من المتاعب والتضييق. "لقد كنت في زمن الاعتقال الجميل"؛ هكذا يقول بعضهم لي شارحاً صعوبة الوضع حالياً.
في سنوات "الاعتقال اللطيف"، كما يقولون، قابلت زملاء صحافيين وتركتهم أو تركوني إلى عالم الحرية. بعضهم خرج وعاد مجدداً. اثنان منهم لم يخرجا أبداً.
ألمُ تخيّل سنواتهم الضائعة مع أبنائهم، ينغرز كسكين حاد في لحظات السعادة التي أقضيها مع ابنتَي. أتخيل ما يفقدونه وما يفقده الأبناء. شيء لا يمكن تبريره أو فهمه.
ألمُ تخيّل سنواتهم الضائعة مع أبنائهم، ينغرز كسكين حاد في لحظات السعادة التي أقضيها مع ابنتَي. أتخيل ما يفقدونه وما يفقده الأبناء. شيء لا يمكن تبريره أو فهمه
روايات الألم والطفولة الحائرة
حمدي الزعيم، مصور صحافي محترف، قابلته في أثناء فترة السجن. خرجتُ، وخرج... ثم أعيد اعتقاله، وكاد الأمر يحصل معي. سافرت... وبقي. في جلسة من جلسات تجديد حبسه الكثيرة، احتفل بعيد ميلاد ابنته التي صارت محاميةً تترافع عنه أمام القاضي. عندما قابلته كانت لا تزال طالبةً في المرحلة الثانوية تستعد لدخول الجامعة، ناهيك عن الحديث عن بقية أبناء الزعيم، بدءاً من مالك الصغير وحتى ميرنا... قصة حزينة لأب لم يشهد مراحل أبنائه العمرية.
كنت قد عاهدت نفسي مراراً ألا أستمع إلى المقاطع والرسائل الصوتية التي تنشرها زوجة الصحافي أحمد سبيع لأبنائه؛ أبناء صغار يتوسلون أبيهم للعودة بعد أكثر من ألف يوم اعتقال على ذمة قضية واتهامات سبق أن حصل على البراءة منها، لكن في كل مرة تغلبني أصابعي وأنقر لأسمع جديد الرسائل وأصوات الصغار الباحثين عن أبيهم.
بنات مصطفى الخطيب، كذلك تمر أعوامهن تباعاً وهن بعيدات عن أبيهن. يوسف (الأصغر) كبر. أجمل أعوامه كطفل تمر بلا أبيه. توفيق غانم وضعه مختلف. هو يفقد أجمل أعوام أحفاده. الصحافي المخضرم يعيش أياماً طويلةً في الحبس الاحتياطي من دون سبب واضح.
الزميل الصحافي محمد سعيد فهمي، لم يرَ ابنه الأصغر ياسين الذي قارب إنهاء عامه الرابع. أما حمزة الكبير فقد كان ابن 3 أعوام حينما فقد والده. دخل المدرسة وأصبح في الصف الثالث الآن. لم يمسك أبوه يده عندما ذهب إلى المدرسة للمرة الأولى، ولم ينتظره عند باب المدرسة أو الحافلة مستقبلاً أو مودعاً. لم يبث مشاعر الطمأنينة في قلبه بأنه سيكون بجانبه دوماً عندما يحتاجه.
كنت قد عاهدت نفسي مراراً ألا أستمع إلى المقاطع والرسائل الصوتية التي تنشرها زوجة الصحافي أحمد سبيع لأبنائه؛ أبناء صغار يتوسلون أبيهم للعودة بعد أكثر من ألف يوم اعتقال على ذمة قضية واتهامات سبق أن حصل على البراءة منها
أضف إلى كل آلام الأبناء والفقد، المخاوف الصحية والآلام الطبية بسبب تفاقم أوضاع بعض الزملاء وتدهورها؛ هشام عبد العزيز مثلاً يكاد يفقد بصره الذي يضعف يوماً بعد يوم في ظلمات الحبس الاحتياطي الممتد، ناهيك عن نزيف العمر والسنوات الثلاثة بالإضافة إلى نصف السنة التي فقدها مع أبنائه. وبالرغم من زيارات الزعماء المتبادلة ما بين الدوحة والقاهرة، وإعادة ظهور الضيوف من مصر على شاشة قناة الجزيرة، فإن أحداً لم يخرج يوماً ليفسر لنا سبب التجديد المستمر لحبس هشام.
قطار العمر
يمكنني أن أسرد هنا أسماء العشرات ممن أعرفهم، وأن أقصّ عليكم قصصاً تدمي القلوب... لكن أيضاً لا يمكنني أن أتحدث عن الآلاف الباقين الذين تئن أسرهم وأبناؤهم في صمت.
يقول مصطفى أمين، إن "قيمة الوطن أنك تجد فيه العدالة أكثر من أي مكان آخر. قيمة الوطن أنك تجد فيه الحب أكثر من أي مكان آخر، وعندما يخلو الوطن من الحماية والعدالة والحب، يصبح المواطن غريباً"... هل يمكن القول إن الزهور التي يغيب عنها آباؤها أو أمهاتها في قضايا سياسية من دون أحكام عادلة لسنوات ممتدة، تشعر بالحماية والعدالة والحب؟ أم بالغربة والفقد؟
في ظل تلك المعاناة الأسرية المأساوية، تجدر الإشارة إلى أن القانون المصري والمشرّع المصري يؤكدان أن الحبس الاحتياطي إجراء احترازي يجب أن يُتّخذ في أضيق الظروف، كما أن محكمة النقض، إحدى أكبر المحاكم المصرية، أكدت في أحكامها أنه "خير للعدالة أن يفلت ألف مجرم من العقاب على أن يُدان بريء"، كما عدّت محكمة القضاء الإداري في أحد أحكامها أن "الحبس الاحتياطي هو أبغض الإجراءات القانونية".
يمكنني أن أسرد هنا أسماء العشرات ممن أعرفهم، وأن أقصّ عليكم قصصاً تدمي القلوب... لكن أيضاً لا يمكنني أن أتحدث عن الآلاف الباقين الذين تئن أسرهم وأبناؤهم في صمت
أضف إلى ذلك أن المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية تضع حدّاً أقصى للحبس الاحتياطي؛ ففي جميع الأحوال لا يجوز أن تجاوز مدة الحبس الاحتياطي (مرحلة التحقيق الابتدائي، وسائر مراحل الدعوى الجنائية)، ثلث الحد الأقصى للعقوبة السالبة للحرية، أي لا تجاوز 6 أشهر في الجنح و18 شهراً في الجنايات، وسنتين إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة هي السجن المؤبد أو الإعدام. لكن الواقع المؤلم أن آلاف المصريين يدورون أعواماً طويلةً في دوامة الحبس الاحتياطي ثم إعادة حبسهم على ذمة قضايا جديدة بالاتهامات القديمة ذاتها، من دون أن يعرف أحد متى سيخرج من تلك الدوامة التي تلتهم أعمارهم.
لمصلحة من يعيش أبناءٌ مصريون على أرض مصر بعيدين عن آبائهم من دون جرم أو جريرة، اللهم إلا حسابات سياسية أو مقالات صحافية في وطن اختنقت فيه السياسة وتراجعت الصحافة؟ ألم يئن أوان لمّ شمل تلك الأسر التي لا تزال تراقب في كل موسم وكل مناسبة قوائم العفو والحوار والعبارات الكثيرة المكررة؟ لكن الأيام تصير شهوراً، والشهور أعواماً، وقطار العمر يمضي، والجراح تزداد عمقاً.
لمصلحة من يعيش أبناءٌ مصريون على أرض مصر بعيدين عن آبائهم من دون جرم أو جريرة، اللهم إلا حسابات سياسية أو مقالات صحافية في وطن اختنقت فيه السياسة وتراجعت الصحافة؟
يظن البعض أن محنة الاعتقال وأزمته تنتهيان بالإفراج وإخلاء السبيل... لكن الحقيقة أن الأيام لا تعود، وعقارب الزمن لا تدور إلى الوراء، والسنوات التي ينزفها المعتقل لا تعوَّض، وإطالة أزمنة الحبس غير المبررة تزيد الجراح التي لا يمحوها الزمن.
#الحرية_للصحافيين
#الحرية_للجميع
#الحرية_للوطن
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...