لم تتعلّم جدتي الحروف والقراءة إلا قبل سنوات قليلة، فهي هربت من زنجبار مع عائلتها بعد قيام الثورة هناك، وعندما عادت لِعُمان، عاشت في بيت والدها حتى بلغت وتزوجت من جدي.
لم تتعلّم في بيت جدي القراءة ولا الكتابة، على الرغم من ذلك أنجبت أطفالاً كثيرين في سنوات متتالية، كبروا ليتخرجوا كلهم من الجامعات ويأخذوا شهادات عليا، ويُدّرس بعضهم فيها بعد ذلك، وحين قرّر جدي -الذي كان مثالاً نموذجياً للعماني التقليدي الخائف من نظرة المجتمع- ألا تدرس والدتي أيضاً، استطاع خالي إقناعه حتى تُتم دراستها الجامعية وتعمل.
لم يكن لجدتي نفس الفرصة التي أتيحت لأمي وأخواتها، ولم تكن قد وُلدت في عصر استطعت، أنا وغالبية بنات جيلي والأجيال التي سبقتنا وتلتنا، الالتحاق بالجامعة والدراسة والعمل، وعلى الرغم من أننا ما زلنا نسمع عن الكثير من البنات اللواتي لازلن محرومات من حق التعليم الجامعي وحتى المدرسي، ولازلن يعتبرن عالة وممثلات للشرف العائلي، بحيث يجب بيعهن قبل أن يكسدن أو يفسدن. إلا أنني، وفي أحوال كثيرة، أحاول أن أتخيل لو أن جدتي استطاعت الالتحاق بالجامعة، ولو أن جدتي الذكية، التي تعرف آلاف الحكايات عن سلفٍ ماضٍ وتحفظ أحاديث النبي وتعلمت كيف تقرأ على كبر، التحقت بالجامعة واستطاعت الحصول على شهادة في أي تخصص كان، لتغيرت كل الأمور، ولأصبح واقعنا اليوم أفضل ربما مما هو عليه.
لم يكن في زمن جدتي جامعات في عُمان، ولم يكن هناك حتى مدارس، إلا اثنتين في مسقط وصلالة. كان هناك معلم في بعض القرى يعلم الناس القراءة والحساب والقرآن، لم يكن جدي قد حصل على فرصة دراسية أفضل من جدتي، فقد كانت السلطة تحاول تكريس الجهل، وحتى يومنا هذا ومع توفر كل مصادر المعلومات المتاحة، لازلت تحاول تكريسه.
كان العالم يصعد ويكبر، ليس العالم الغربي فحسب، بل عالمنا والمنطقة، أما عُمان فكانت محبوسة في زجاجة السلطة التي رغبت ألا يعلم شعبها بوجود البترول
وعلى الرغم من ذلك، كان هناك رغبة عارمة لدى العماني للتعلم، وكم غضبت جدتي عندما أضاعت والدتي فرصة دراسة الماجستير، لأسباب واهية، وقاطعتها لفترة. كانت جدتي ترغب لبناتها وحفيداتها بفرصة حياة أفضل، وتحملت بُعد أبنائها في سفرهم واغترابهم الدائم في سبيل الدراسة.
لم يكُن لجدتي فرصة للتعلم، ولكنها اقتنصت فرصتها في تعلم القراءة عندما كبر الأبناء. كل جيل جدتي وجدي ومن سبقهما لم يحصلوا على فرصتهم، في فترة كان العالم فيه يصعد ويكبر، ليس العالم الغربي فحسب، بل عالمنا والمنطقة، كانت فيه عُمان محبوسة في زجاجة السلطة التي رغبت ألا يعلم شعبها بوجود البترول، وعندما خرج أبناء التجار والمقتدرين للدراسة في مصر ولبنان والكويت، كان باقي الشعب لا يستطيع أن يرتدي نعلاً، وعندما صعدت حركات ثورية إسلامية وعلمانية، ظهر من استطاع قمعها، وتسكيت الناس بفتات حقوقهم البديهية، زارعاً في عقولهم أنه تكرّم بها عليهم.
هناك العديد من البنات في عمان حتى يومنا لم يتمكن من إكمال دراستهن الثانوية والجامعية، لأن طيف زوج قد ظهر، فتخرج الطفلة التي لم تكمل 18 عاماً من دراستها ليتم تزوير عقد زواج يدعي أنها تزوجت في السن القانوني، وكم كانت عدد المحاولات التي حاولت أمي المعلمة وزميلاتها إقناع آباء متسلطين أن يدعوا بناتهم لإكمال دراستهن الثانوية على الأقل، حين كانت السلطة تتغاضى وتسكت. وتقول إحدى الفتيات التي نُشرت قصتها إنها دخلت الجامعة بعد معارضةٍ شديدة من والدها وأخوتها الذكور، وعندما بقي أمامها فصل واحد على التخرّج، قرّروا منعها من الدراسة وحبسها في المنزل، وتحت تعنيفهم لم تستطع المقاومة.
وعن فتيات لم يستطعن التوجه لتخصص أحلامهن لأن عائلتهن تظن أن هذه التخصّصات لا تناسب النساء، فلا يحق لها أن تدخل كلية الحقوق أو الهندسة، وأحياناً الطب، لأنه لا يجب أن تكشف على ذكور، وتم منعي أنا والكثير من صديقاتي من الذهاب في بعثة دراسة خارجية لأنه لا يجوز للبنت السفر للخارج بدون محرم.
سقط الكثير من الفتيات، من جيلي وجيل سبقني، في أقفاص أزواجٍ في كثير من الأحيان لم يكونوا أقل تسلطاً من الآباء، ولم يتمكن من إكمال دراستهن، ولم يستطعن أبداً الخروج من تلك الأقفاص
سقط الكثير من الفتيات، من جيلي وجيل سبقني، في أقفاص أزواجٍ في كثير من الأحيان لم يكونوا أقل تسلطاً من الآباء، ولم يتمكن من إكمال دراستهن، ولم يستطعن أبداً الخروج من تلك الأقفاص، وكم أحزن عندما تتجه الكثير من الفتيات اليوم، في مرحلة مبكرة من حياتهن وغالباً برغبتهن، نحو الزواج وهن يدرسن في الجامعة، ولا أعترض على حق الاختيار، ولكنني أعترض لأنني أعلم أن هذا الأمر غالباً ما يضعهن في سلطة الأزواج، وغالباً ما سيحاولون جعلهن يتركن الدراسة أو يُحرمن العمل، أو سيتركنها بسبب حملٍ وطفل.
يواجهنا اليوم توجّه تقوده الدولة في تقليل فرص التعليم العالي، ولا أحد متأكد تماماً هل هذا بسبب الوضع الاقتصادي السيء، أم محاولة جديدة لتجهيل شعبٍ ليس واعياً أساساً، وأكثر من يقع ضحية لهذا النوع من التقليص هو المرأة، ففرص الذكور غالباً ما تكون أعلى في الدراسة، والتوجه العام هذا يزيد من نسب الجهل ويقلل فرص التعلم الجامعي، وإضافة لذلك فإن أزمة البطالة تساعد على تقليص فرص عمل النساء التي لم تكن كثيرة أصلاً، وهذا ما يعيد بناء تلك الأفكار التي توجه البنات، راغبات أو مجبرات، للزواج، وغالباً مجبرات وحتى وهن راغبات، تحت ضغط اجتماعي شديد.
لا أعلم ماذا كان سيحدث لو درست جدتي في الجامعة، ولا أعلم إن كان سيكون عالمنا أفضل، ولكنني أعتقد أنه ربما سيكون لنا جميعاً كنساء القدرة أن نكون في وضعٍ أفضل، فلو درست جدتي ونساء جيلها في الجامعات لاختصرن علينا الوقت في المطالبة بحقوقنا البديهية، ولكان هناك قدرة على صد سيل الجهل المكرّس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين