برودة هادئة، لا تلسع الجسد بقسوتها، ولكنها تشرح الصدر بحنوها؛ هذا ما شعرت به حين زرت مسجداً للمرة الأولى في حياتي، ومن وقتها وقعت بيني وبين أماكن العبادة علاقة لا ولن تنتهي، خاصةً بعد أن زرت الكعبة أكثر من مرة، وشعرت بالطاقة الغامرة التي تغزو جسدي بمجرد أن وطئت قدمي داخل الحرم. وقتها كنت طفلةً صغيرةً أشارك أمي طقوس الحج، ثم مرةً أخرى وأنا ناضجة حين أدّيت شعائر العمرة.
علاقتي بالمسجد كانت علاقةً روحانيةً وطاقيةً.
أحببت أماكن العبادة؛ حقاً أحببتها من كل قلبي، ولذلك قررت ألا أغيب عنها وأن تكون زيارتي لمصلّى النساء بجوار منزلي زيارةً دائمةً، وشاركتني صديقة العمر هذا الطقس الجميل؛ ولكن كفتاة غير محجبة، لا زالت تتحسس طريقها في الإيمان. هي من أسرة تعرف الله ولكنها ليست أسرةً متشددةً دينياً. كان هناك كابوس ينتظرني في المساجد المصرية، هو النساء اللواتي يرتدن تلك المساجد.
علاقتي بالمسجد كانت علاقةً روحانيةً وطاقيةً. كنت أذهب يومياً لأصلي الفرض ثم أجلس في صمت وهدوء، في جلسة تشبه جلسة التأمل -قبل أن أعرف ما هو التأمل- وتلك اللحظة كانت من أكثر اللحظات التي تمنحني السلام في الحياة، ولكن هذا السلام لم يستمر، فعدد كبير من نساء المساجد -سامحهن الله- ومن وجهة نظري، لا يعرفن الدين والله كما أعرفه ولا يشعرن به كما أشعر به. كان هناك اختلاف روحاني جذري بيننا، ولذلك بدأت النصائح من جانبهن، وبدأ الرفض من جانبي أنا وصديقتي، ثم بدأ الصراع.
هذا السلام لم يستمر، فعدد كبير من نساء المساجد -سامحهن الله- ومن وجهة نظري، لا يعرفن الدين والله كما أعرفه ولا يشعرن به كما أشعر به
"لماذا لا ترتدي الحجاب؟"، و"ده منظر تيجي بيه الجامع!"، و"لا تتركي فراغاً بين أصابع يدك وأنت ساجدة حتى تُقبل صلاتك"، و"طالما ترتدي هذه الملابس لن تختارك سيدة من المسجد زوجةً لابنها"، والكثير الكثير من التعليقات التي سلبتني سلامي النفسي، وسلبتني المتعة التي كنت أشعر بها. تلك البرودة تلفح وجهي وتستقبلني بمجرد أن أخطو خطوةً داخل أي مسجد.
غيّرت أنا وصديقتي أكثر من مسجد، ولكن لا يمر الكثير من الوقت حتى نواجه تلك الأزمة. لم نكن نريد ارتداء الحجاب وقتها، ولم نكن نريد توجيهاً سلبياً. كنا مراهقات يبحثن عن الله وعن السلام، فأجابتنا سيدات المسجد بالتعصب للتفاصيل التافهة وبتخوفينا من العقاب لأننا "سافرات"، وعليه أوقفنا الذهاب نهائياً إلى المساجد واكتفينا بالصلاة في المنزل.
وقت انقطاعي عن زيارة المساجد، كنت في سن المراهقة، وحتى وصولي إلى منتصف العقد الثالث من عمري كنت أفتقد هذا الإحساس الذي يثلج صدري الخاص بالمسجد، إلى أن زرت أول معبد مصري قديم. وبمجرد أن دخلت المعبد، استقبلتني الريح الطيبة الباردة والحنونة نفسها وكأني عُدت إلى منزلي بعد فترة طويلة من الغربة في بلاد قاسية. أتذكر يومها أنني قاومت البكاء حتى لا يراني أحد من المجموعة التي سافرت معها في رحلة سياحية. لم أصدق أن الطاقة نفسها التي شعرت بها في المسجد يمكن أن أجدها في مكان آخر.
"لماذا لا ترتدي الحجاب؟"، و"ده منظر تيجي بيه الجامع!"، و"لا تتركي فراغاً بين أصابع يدك وأنت ساجدة حتى تُقبل صلاتك"... والكثير من التعليقات التي سلبتني سلامي النفسي، وسلبتني المتعة التي كنت أشعر بها
وقتها، رنّت في أذني آية من آيات سورة النور في القرآن الكريم: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ"؛ أدركت الكلمة التي لم تكن واضحةً لي: "بيوت" ... منحها الله الإذن لأن تكون أماكن عبادة له. بيوت يُذكر فيها اسمه بإذنه، وكأن تلك الآية تعني أنه ليس هناك مكان يصلح للعبادة قبل أن يشاء الله له أن يكون كذلك.
سواء كنتُ على خطأ أم لا، فهذا ما شعرت به وقتها؛ أي مكان يأتي إليه الناس بغرض ذكر الخالق. أياً كانت قناعتهم وإيمانهم والزمن الذي عاشوا فيه، تظل لتلك البيوت ريح طيبة وحنونة على نفوس من يبحثون عن الله والطمأنينة التي تصاحب الشعور به في القلوب، وكأنها "أكواد" طاقية عابرة للزمن والفهم البشري المحدود، بطاقة عبور تنير باللون الأخضر، وتخبرك بأنك في المكان الصحيح؛ هذا مكان قد ذُكر فيه اسم الخالق ووقف فيه بشر يناجونه من قلوبهم، أياً كانت الكلمات، وأياً كانت المسميات.
علاقة روحانية جديدة بدأت بيني وبين تلك "البيوت"، وتلك هي التسمية التي أحب أن أطلقها على أماكن العبادة بيني وبين نفسي، حتى علمت بأنهم في مصر القديمة كانوا يطلقون على مكان ملحق بكل المعابد اسم "بير عنخ"، أو بيت الحياة، وهو المكان الذي كان يلجأ إليه المرضى للعلاج الجسدي على أيدي الكهنة.
علاقة روحانية جديدة بدأت بيني وبين تلك "البيوت"، وتلك هي التسمية التي أحب أن أطلقها على أماكن العبادة بيني وبين نفسي، حتى علمت بأنهم في مصر القديمة كانوا يطلقون على مكان ملحق بكل المعابد اسم "بير عنخ"، أو بيت الحياة
تلك العلاقة الطيبة التي جمعتني بهذه البيوت مستمرة حتى الآن، لا يؤرقها سوى بُعد تلك البيوت عني، فأنا أعيش في القاهرة، ومعظمها موجود في الصعيد أو في أماكن بعيدة تحتاج إلى التفرغ والسفر، ولكن أيضاً شعوري بأنها هناك، تنتظرني، وتتلقفني بصدرها الحنون، وتبث في روحي الأمان من دون أن ينتقدني أحد، ومن دون أن ينصحني أحد أو يهاجمني لملابسي أو شكل شعري أو الوشوم الموجودة على جسدي؛ هذا الشعور يجعل لدي طمأنينةً وترقباً وانتظاراً للحظة التي سوف أسافر فيها وانفصل عن العالم، وأجلس تلك الجلسة التي تشبه جلسة التأمل واستقبل الطاقة الكونية النقية القادمة من الخالق مباشرةً، في بيوت أذن الله لها أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...