شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ما زال كرباج الشيخ يداهمني ككابوس

ما زال كرباج الشيخ يداهمني ككابوس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 11 ديسمبر 202112:36 م

في الخامسة من عمري، اصطحبتني أمي إلى كتّاب القرية، كي تحفظ ما تيسّر من آيات القرآن، وتعلّم مبادئ الحساب، حتى لا أتعثّر في التعليم، عندما يحين موعد التحاقي بالمرحلة الابتدائية. ولم يكن للحضانات وجود فى البلدة الريفية في ذلك الوقت، عام 1983، ولم أتخيّل حينها أنني سأمرّ في هذا المكان، بواحدٍ من أصعب أيام حياتي، وأنني سأُصاب بجرحٍ لن يندمل، وأن ذكراه السيئة ستظلّ عالقةً في مخيلتي، طوال عمري.

دخلت إلى الكتّاب، وأنا قابض على طرف جلباب أمي. رأيت الشيخ ممسكاً بعصا غليظة، وهو يتلو بعضاً من الآيات، والصغار يرددون من ورائه، فتراجعت مذعوراً إلى الخلف، فعبس الرجل، ودار حوارٌ قصيرٌ بينه وبين أمي لم أسمع منه حرفاً، ولكنه جذبني من يدها بغتةً، ودفعني إلى حجرةٍ صغيرةٍ ضاقت بأطفالٍ يفترشون الأرض، فازددت اضطراباً، وانخرطت في البكاء، فاقترب الشيخ منّي والعصا في يده، وهنا حاولت أن ألوذ بالفرار، وصرخت منادياً أمي التي لم أجد لها أثراً، ولكنه كان أسبق منّي، وأحكم إغلاق الباب الخارجي، فالتصقت بالحائط، وأنا أرتجف فزعاً، وأترقّب أن تحطّم عصاه الغليظة عظامي، أو تمزّق جلدي، ولكنه لم يفعل حتى تلك اللحظة.

أمسكني الشيخ بقوّةٍ، واستلّ كرباجاً غليظاً كان معلّقاً على الحائط، ربما كنوعٍ من الردع لمن تسوّل له نفسه يوماً أن يعصى له أمراً، وانهال علي ضرباً، ولم تثنه محاولاتي المتكررة للفرار، أو الاحتماء ببقية الأطفال، من إكمال مهمته، وحتى آخر لحظة رفض أن يرحم دموعي، أو يستجيب لتوسلاتي.

على الرغم من أني رويت لأمي تفاصيل مع حدث كاملةً، فإنها أصرّت على أن تذهب بي في اليوم التالي إلى الكتّاب، رغماً عنّي، رافضةً كل ما قدّمته من حججٍ وأعذار، من أجل أن تعفيني من هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر، في هذا المكان الذي يزيّن أحد حيطانه كرباج ما زالت آثاره المبرحة محفورةً على جسدي الهزيل

عاقبة إغضاب الشيخ

اختار الشيخ أن يجعل منّي عبرةً لكل الأطفال الجالسين، والذين وصلتهم الرسالة كاملةً، فعاقبة إغضاب شيخ الكتّاب فادحة، ولن تقلّ عن علقةٍ بالكرباج الغليظ، ولم أجد أمامي سوى الارتماء فى إحدى زوايا الغرفة، ومغالبة دموعي ما أمكنني إلى ذلك سبيلاً، بل وتمثيل دور التلميذ النجيب الذي يحفظ ويردد كل ما يجود به شيخه، مثل الباقين، حتى لا أغضبه مرةً أخرى.

وعلى الرغم من أني رويت لأمي تفاصيل مع حدث كاملةً، فإنها أصرّت على أن تذهب بي في اليوم التالي إلى الكتّاب، رغماً عنّي، رافضةً كل ما قدّمته من حججٍ وأعذار، من أجل أن تعفيني من هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر، في هذا المكان الذي يزيّن أحد حيطانه كرباج ما زالت آثاره المبرحة محفورةً على جسدي الهزيل.

وما إن دخلت من الباب، حتى وقع نظري على الشيخ. كان يهزّ العصا فى الهواء، يميناً ويساراً، فنكّست رأسي وأنسللت من يد أمي، وتكومت بجوار الحائط مباشرةً، فقد وعيت الدرس جيداً، فالشيخ يقمع أي محاولة للتمرد في كتّابه بسوطه، من دون أي ترددٍ، أو رحمة.

كان الشيخ يردد، والأطفال من خلفه كالجوقة. أما أنا، فكان بصري شاخصاً في اتجاهٍ واحدٍ، نحو الحائط، حيث يتدلى الكرباج. تمنّيت لو كان بإمكاني استلاله من موضعه، وإشباع الشيخ ضرباً، حتى يذوق بعضاً مما عانيت، ويتلوّى عندما يتمزّق جلده تحت السياط، مثلي تماماً، ولكني كنت أعلم أن عاقبة مغامرة كهذه وخيمة، وأنا لا أقوى عليها أبداً.

الصغار يأتون بسيف القهر

كل الصغار مثلي، كانوا يهابون الشيخ، ويأتون إلى المكان بسيف القهر الذي أشهره آباؤهم وأمهاتهم في وجهوهم، فلم يكن فينا من يحبّ الشيخ، سوى الشيخ نفسه. أما نحن، فكنّا مجرد أسرى مسلوبي الفعل والإرادة.

خاب ظنّ أمي، فلم أحفظ القرآن، كما أرادت، ولم أتعلّم من مبادىء الحساب شيئاً، لأنني كنت خائفاً أترقّب في كل لحظةٍ، وكان عقلي مشغولاً بشيءٍ واحدٍ هو كرباج "سيّدنا"، كما يصرّ أن نناديه. كانت مهمتي المقدسة التي نذرت نفسي لها، أن أراقبه، ومع الوقت يئس الشيخ منّي، وضمّني إلى قائمة التلاميذ قليلي التحصيل الذين لا يُرتجى منهم خير، ونصح أمي بألا تعوّل عليّ كثيراً في إكمال مسيرتي التعليمية.

مع الوقت، جمعني الكتّاب ببعض "رفاق السوء" الذين اعتدت على قضاء الوقت برفقتهم، بعد مغادرة الكتّاب، في لعب الكرة، والشراب والتسكّع في حواري القرية، وضاقت أمي ذرعاً بي، بعد أن لاحظت تأخّري المستمر، وكنت أختلق لها كل يومٍ ذريعةً جديدة.

كل الصغار مثلي، كانوا يهابون الشيخ، ويأتون إلى المكان بسيف القهر الذي أشهره آباؤهم وأمهاتهم في وجهوهم، فلم يكن فينا من يحبّ الشيخ، سوى الشيخ نفسه. أما نحن، فكنّا مجرد أسرى مسلوبي الفعل والإرادة

كان الشيخ يجبي الشهرية من كل تلميذ، وفقاً لقدرة أسرته المادية، فالبعض كان يدفع جنيهاتٍ قليلةً، ولكنّ الأغلبية العظمى كانت تقدّمها له عينيةً، عندما يحين موسم الحصاد، فيحملون إليه كل ما لذّ وطاب من خيرات الأرض، وزروعها المختلفة، وهو ما يجعله واحداً من أثرياء البلدة، وساداتها.

مرّت الأيام سريعاً، والتحقت بالمدرسة الابتدائية، وصدقت نبوءة الشيخ، إذ تعثّرت كثيراً قبل أن أتمكّن من إكمال طريقي، ثم اكتشفت بالمصادفة أن لدي قدرات كبيرة على الاستيعاب، جعلتني أتفوّق كثيراً على أقراني، ولكني أبداً لم أنسَ كرباجه الغليظ، على الرغم من هذه السنوات، ولا أبالغ إذا قلت إنه يداهمني ككابوسٍ مفزعٍ، بين الحين والآخر، في أثناء نومي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard