حياكة الكلام
"الخوف من حدوث الأشياء يجعل احتمال حدوثها أكبر".
ظلت آلاء طوال حياتها تشعر بالخوف. خافت من أن تأكل من الأكشاك أمام المدرسة حتى لا تصاب بالتسمّم. خافت أن تكتب جواب حب لعمر زميلها خشية أن يقع في يد أبيها. خافت أن تكون فى كورال المدرسة حتى لا تنهرها عمتها المتشدّدة وتخبرها أنها ستذهب إلى النار. خافت أن تعبّر عن كرهها لكلية الطب حتى لا تواجه مصيراً مجهولاً بالزواج من شاب قروي ساذج.
خوف. خوف. خوف. هو شعور مستمرّ معها طوال حياتها، وهي الآن خائفة أن تكلم أمها مرة أخرى لتخبرها أن أباها مات فى المشفى الذي تعمل به، وقد خافت أن تسعفه ولم تعرف أن تفعل أي شيء سوى الصمت.
خوف تسرّب إلى عينيها فاغمضتهما، ثم وجدت نفسها فى ميكروباص المنصورة، بجانب الشبّاك، تنتظر شخصاً ينهى عمله أو أحمقاً عائداً أدراجه بعدما تقطعت به سبل العاصمة. لم يأت هذا أو ذاك، بل أتى زوجان تقطعت بهم سبل الرجاء. لم يجد أطباء الأقاليم نفعاً، وكما يقول المثل: "اطلبوا الخلفة ولو فى العاصمة". أتى الزوجان بوجهين عابسين، كلاهما لديه مشاكل، لا يواسي أحدهما الآخر، ولكنهما لا يعلمان أن تفكيرهما في الإنجاب حالياً مشكلة بحدّ ذاتها.
أشياء كثيرة كانت تدور في رأس آلاء في تلك اللحظة. أسئلة بدون إجابات. أخرجت حبة نايت كالم من حقيبتها، وأخذت آخر رشفة من زجاجة المياه، وقبل أن تغمض عينيها وجدت نفسها في مكان آخر. وجدت نفسها في متاهة ضخمة، يحيط بها عمّها، أمها، عمّتها ،كل من تعرفهم في حياتها، يحيطونها بشكل دائري.
كلما هربت منهم تجدهم أمامها مرة أخرى. تجري ثم تجري بأقصى سرعة لها، حتى لا تجد أمامها سوى حائط اسمنتي، ولا أحد حولها. استعادت أنفاسها ثم شعرت بيد على كتفها، فهبّت مفزوعة من النوم، لتجد الميكروباص فارغاً أمام إحدى الاستراحات على الطريق السريع. الاستراحات التي صُمّمت ليقضي فيها الأشخاص حاجاتهم كحيوانات، ويأكلون طعاماً معظمه فاسد، ولكنهم يتحايلون به على طريق سفر طويل.
*****
غسلت وجهها بالماء لتستفيق من آثار الكابوس وتنهى مفعول المنوم. شربت قهوة وأخرجت آخر سيجارة في العلبة. مع كل نفس كانت العيون ترمقها، خصوصاً صاحب الاستراحة الذي بلغ من العمر أرذله وأصبحت حياته معلقة على الطريق.
ظلت طوال حياتها تشعر بالخوف. خافت أن تكتب جواب حب لعمر زميلها خشية أن يقع في يد أبيها. خافت أن تكون فى كورال المدرسة حتى لا تنهرها عمتها المتشدّدة وتخبرها أنها ستذهب إلى النار... مجاز
"هو يوم وسخ باين من أوله": قالها سائق الميكروباص وهو يحاول أن يدير المحرّك، ولكنها لا تدور. ضرب الكلاكس عدة مرات ثم زفر بحنق ونزل من السيارة.
"هو يوم وسخ باين من أوّله": قالها السائق مثلما قالها عامل المستشفى منذ 26 عاماً، حينما انقطعت الكهرباء للمرة الأولى في سنوات عمله، ولكن صادف وقت دخول أم لولادة طفلة. ستصبح تلك الكلمة فيما بعد ملاحقة لها: في عيد ميلادها الأول... يوم نتيجة الثانوية العامة... في تخرجها من الكلية... نفس الكلمة تتكرّر، ولكنها لم تكن تعبأ. لا تعلم لما لم تكن تعبأ عندما يقال إنها نذير شؤم. ربما كانت خائفة من تصديقها من اعتباره حقيقة، لتكتمل سلسلة الخوف الطويلة التي تكبلها طوال حياتها.
"هو يوم باين من أوّله": سيقولها ترابي أخبروه يوم الخميس أن يفتح وينظف التربة لأن هناك ضيفاً جديداً سوف ينضم. سيلعن الترابي حياته، لأن ذلك سوف يقضى على احتمالية قضائه ليلة ساخنة، ما يعنى إهدار حبة فياجرا مضروبة أخذها من أحد سارقي القبور الذي سهّل له سرقة أسنان ذهبية لأحد الموتى.
"هو يوم وسخ باين من أوّله": سيقولها عامل الصحة الذي سيضطر للمكوث أكثر من وقته في المكتب وستفوته "عشرة طاولة".
"إن كان الصدق ينجي، فالكذب يريّح النفوس ويختصر أحاديث لا طائل منها".
شعرت أن ما تكتبه على صفحتها هو تعبير عن ذاتها، فهي ليست مليئة بالخوف، فقط هي مليئة بالكذب.
كتبت آلاء ذلك على فيسبوك، ثم نظرت للطريق السريع الذي يتحرّك عليه الميكروباص أسرع من أفكارها المضطربة في تلك اللحظة. شعرت أن ما تكتبه على صفحتها هو تعبير عن ذاتها، فهي ليست مليئة بالخوف، فقط هي مليئة بالكذب. الكذب وسيلتها كي تنهي أحاديث ومحاضرات أخلاقية مع أهلها. الكذب وسيلتها كي تنهي وابلاً من الكلام ومواضيع لا قبل لها على مواجهتها.
كذبت حتى وصل كذبها حدّ ألا تخبر أحداً بتغييرها للتخصص في الكلية، لتصبح طبيبة نفسية للقسم الذي وجدت فيه مواساة لأفكارها. وجدت فيه تشخيصاً لحالتها من اضطرابات وقلة نوم وفقدان شهية للأكل، عرفت بعدها أنها من أعراض الاكتئاب الذي جثم على صدرها طوال حياتها بمخالبه. ولهذا قرّرت قبل أشهر ألا ترد على أهلها أو تكلمهم، وتقطع علاقتها بهم تماماً، ولكنها وجدت كل هذا أمامها حينما قدم أبوها ليدور بينهم حديث أفضت فيه بكل شيء، ناسية مرضه بالقلب، ليصاب بأزمة قلبية ويموت. تسرّب النوم إلى عينيها كبقايا حبة أبت إلا أن تمارس وظيفتها كاملة، فأغمضت عينيها واستسلمت للطريق.
*****
عاشت آلاء في بيت من أربعة أفراد: أم وأب وأخ أكبر، حياة عادية يتمناها الجميع. سلطة أم مع محاولات خفيفة للتمرّد على سلطة الأب، طيش الأخ الأكبر مع محاولات فرض سيطرته على الموقف وممارسة ذكورية مبكرة. كانت كلعبة صلصال تتشكل مع الزمن، لا تبدي موقفاً محدداً ولا علامات تمرّد، إنما صمت تجنباً لحوارات كبرى وأمور كثيرة تخرج عن نطاقها المحدّد والمتعارف عليه من الهدوء.
ظلت تحاول المواجهة بأقل الطرق الممكنة، حتى خرجت من إطارهم بالتحاقها بالكلية، وجدت فيها فرصة الفرار بعيداً عنهم والهرب من جحيم المحافظة والذهاب إلى العاصمة، بحلم جديد واكتشاف جديد لها ولذاتها.
*****
"في العاصمة كل شيء متاح".
هكذا أخبرتها سمر، زميلة سكنها التي كانت في كلية الآداب، والتي أصبحت رويداً رويداً من صديقاتها المقربات. علّمتها كيف تحقق حياتها. أخذت بيدها لتريها حياة وسط البلد والسهر. عرّفتها على حياة أخرى وأصدقاء آخرين، ومنهم عمر الذي قبّلها للمرة الأولى في إحدى الحفلات، قبلة غاصت معها في مجرة أخرى. شعرت أنها ذهبت في رحلة مجانية إلى الفضاء. اقتربت أكثر من عمر. أصبحا أقرب.
"في العاصمة كل شيء متاح". هكذا أخبرتها سمر، زميلة سكنها، والتي أصبحت رويداً رويداً من صديقاتها المقربات. علّمتها كيف تحقق حياتها. أخذت بيدها لتريها حياة وسط البلد والسهر... مجاز
لم تقدم على أكثر من القبلات، كانت تودّ ولكن الإطار الأخلاقي الذي رسمته لنفسها لم تشأ أن تمزقه سريعاً بل تدريجياً. تقرّبت من عمر ليس بسبب القبلة، ولكنها شعرت أنه يريدها هي، يريد أن يكون معها، لا أن يستغل سذاجتها.
*****
النوم في المواصلات يعد جحيماً من الدرجة الثانية. استيقظت على أصوات شجارات الركاب مع بعضهم وأحاديث كروية ومحاورات لقتل الوقت. وجدت نفسها أمام إحدى الاستراحات مرة أخرى. نزلت واشترت علبة سجائر. اشعلت سيجارة قد تكون الأخيرة بعدما سألت أحد الأشخاص فأخبرها بقرب الوصول. تمنّت ألا تصل وأن تعود مسرعة. فتحت هاتفها لتجد عشرات الاتصالات من أمها ومكالمة وحيدة من عمر. شعرت بأنها ليست وحيدة في هذا العالم.
*****
في الكيلومترات الأخيرة، كان صوت منير يندّد بخوفه من الكاسيت: "محتاج اتطمن مش عارف الخوف جوايا وجواكي". تمنت أن تشعر باطمئنان ولو لحظي في حياتها. أيقنت أن قربها من المنصورة يزيد خوفها وأوجاعها، ويفتح جراح الماضي التي لا تريد أن تعيده. الآن رحل أبوها، وأخوها في قارة أخرى مع زوجه بجنسية غير معلومة. لمن ستذهب، عند من ستبكي؟ هل ستبكي معها أمها أم ستواسيها فقط؟ كان كل هذا يدور في رأسها حتى قطعه السائق ليخبرها بوصولهم المنصورة.
نزلت من الميكروباص ومشت بخطوات ثقيلة إلى الأمام. أغمضت عينيها لتجد نفسها أمام أمها، تحضنها بقوة، ثم تسألها: "أبوكى كويس". تنظر لها آلاء بهدوء بعدما حبست دموعها بقوة: "آه كويس". تسحب الأم نفسها من حضنها: "شكلك تعبانة. هعملك أكل". تدخل إلى غرفتها. تغلق الغرفة بالمفتاح. لا تدرى لماذا لم تخبر أمها الحقيقة، ولكن كل ما تعلمه أنها للمرة الأولى ليست خائفة. تخرج سيجارة وتشعلها بالقرب من الشباك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه