شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
نهش الذبائح النيئة أو

نهش الذبائح النيئة أو "الفريسة" جماعةً... هل يحمي من العنف تجاه الذات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 6 يناير 202303:12 م

أعاد انتشار مقطع فيديو لأشخاص يفترسون دجاجةً حيّةً خلال موسم مولاي إبراهيم، في قلعة السراغنة المغربية، النقاش مجدداً حول طقوس زيارة الأضرحة في المغرب، واستمراريتها على مدى السنين.

وصف البعض الطقس بـ"الوحشي" الذي "لا يمت بصلة إلى العادات والتقاليد والدين الإسلامي"، فيما استنكر البعض الآخر استمرار إقحام الحيوانات في هذه الطقوس، من دون مراعاة حقها في الحياة وعدم تعذيبها، وتساءلت فئة أخرى عن زمان هذا الطقس ومكانه، لكونها لم تصادفه في محيطها ولم تسمع عنه من قبل.

يضم المغرب ما يبلغ 7،090 ضريحاً وزاويةً، حسب نشرة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تعود لسنة 2019، ويتوزع هذا العدد على مختلف مدن المغرب وقراه. ولكل ضريح اختصاص معيّن يقصده الزائر إما بغرض الاستشفاء ومباركة الحمل، أو لاستخارة الزواج، أو للاستمطار، أو بقصد "إلقاء العار" (التوسّل للدفين) والصدقة وقضاء الحوائج، أو الوفاء بالنذور وغيرها من المقاصد الأخرى.

أعاد انتشار مقطع فيديو لأشخاص يفترسون دجاجةً حيّةً خلال موسم مولاي إبراهيم، في قلعة السراغنة المغربية، النقاش مجدداً حول طقوس زيارة الأضرحة في المغرب

لتلبية المقصد يلزم الزائر تطبيق رزمة من الطقوس المتنوعة، بدءاً بإنارة الشموع حول الضريح وتقبيله، مروراً بالهدايا والصدقات، وصولاً إلى طقوس الحضرة والجذبة، وطقس الدم البارز ضمن هذه الطقوس أو ما يُعرف بالذبيحة.

هناك أضرحة في المغرب تُعرف بأنها "محجّ الفقراء"، من قبيل سيدي شَشْكاَل نواحي آسفي وسيدي رحال في قلعة السراغنة وسيدي بوخيار نواحي الحسيمة، بل هناك فتوى تقول إن محاكاة الحج في أمكنة تتوسط القبائل ممكنة، لكن مع إلزامية نثر تراب مقدس مستقدم من أرض الحرمين، من أجل تخفيف معاناة السفر ومخاطره، وهو الطقس الذي ظهر في ظل الغزو الإيبيري لشمال إفريقيا بعد سقوط الأندلس.

وتقام قرب الأضرحة طقوس الحج نفسها، مثلاً في سيدي شَشْكاَل المطلّ على البحر يقام حوله طواف وصلاة العيد في ثاني أيام العيد الأضحى، أما في سيدي بوخيار فيعاد إنتاجه يوم عرفة بالطقوس ذاتها من طواف ورمي للجمرات ونحر.

الإبدال الذبائحي... حل للعنف؟

لكن بالعودة إلى طقس الدم أو التضحية خلال المواسم وزيارة الأضرحة، كأبرز طقس ضمن جملة الطقوس التي ذُكرت سابقاً، نجد أن دراسات السوسيولوجيا وعلم النفس في الجامعات المغربية لم تولِ اهتماماً كبيراً للطقس، ما عدا بعض الإشارات العابرة وبعض المؤلفات التي تظل مرجعيةً، مثل كتاب عبد الله حمودي "الضحية وأقنعتها"، الذي يتحدث بإسهاب عن الظاهرة محلياً.

لكن ولفهم الظاهرة بشكل أشمل، تجب علينا العودة إلى أهم كتاب ناقش هذا الطقس بالتفصيل لدى المجتمعات البدائية والحديثة "العنف والمقدس"، للفيلسوف الفرنسي روني جيرار Girard.

عملية افتراس اللحم النيء حاضرةً في كل الديانات سواء التوحيدية وغير التوحيدية. فما أسباب ترسخها في ثقافة زيارة الأضرحة في المغرب؟

ينفي جيرار التحليل القائل بأن نحر الأضحية أو الدم هو فعل ديني يسعى إلى التواصل مع الآلهة وإرضائها، بل يؤكد على أن طقس الدم اجتماعي وإنساني، إذ كان الناس في السابق يذهبون إلى حدّ التضحية بفرد من القبيلة مع تجنب التضحية بالمرأة المتزوجة، لأنها تبقى محافظةً على انتمائها إلى عشيرتها، متجنّبين بذلك الثأر. ويأتي هذا الطقس الاجتماعي لإيقاف نزف العنف الذي يهدد بخراب الجماعة.

كانت عملية افتراس اللحم النيء حاضرةً في كل الديانات سواء التوحيدية وغير التوحيدية، حسب كلود ليفي سترواس، في كتاب "النيء والمطبوخ"، وتظل الدلالة الرمزية لتوجه الأفراد إلى افتراس الحيوان أو نحر الأضحية، أو ضرب الجسم بأدوات حادة حتى يسيل الدم، أو جلد الذات فعلياً، هو ما صرف هذا السلوك إلى كائن بديل غير الإنسان، وهو ما يُسمى لدى روني جيرار بالإبدال الذبائحي، إذ كلما انصرف العنف إلى الذبيحة غاب الهدف الأصلي على المدى البعيد.

وطقس الافتراس أو "الفريسة" بالدارجة المغربية، كان حاضراً في المغرب خلال القرن التاسع عشر في المواسم والزوايا الشعبية، عند هَدَّاوَة وعِيسَاوة وحْمَادْشَة والمْجَاديب، وقد كان أتباع هذه الزوايا أو الطوائف "الصوفية"، يجوبون شوارع المدن وأزقتها، ويفترسون العنزة السوداء الحية التي ترميها الساكنة من الأسطح قبل منع هذا الطقس من طرف السلطات. وظل حاضراً إلى يومنا في بعض المواسم، كما هو الأمر مع موسم مولاي إبراهيم في قلعة السراغنة، حيث افترس بعض المشاركين في طقوسه هذا العام دجاجةً حيةً، كما افترسوا جملاً حيّاً سنة 2017، إلا أن طقوس ضرب الجسم بأدوات حادة حتى يسيل الدم منه، والتهام قطع الزجاج، وإدخال إبرة كبيرة في الجلد، وشرب الماء الساخن ووضع النار في الفم لا تزال مستمرةً في مختلف المواسم والأضرحة، كما هو الأمر مع ذبح الأضحية، التي ترمي إلى إبطال الفتن والأحقاد والمنافسات والشجارات، ومن أجل تحقيق الانسجام بين أفراد الجماعة وتوثيق أواصر الوحدة الاجتماعية حسب جيرار.

"دير النية" عملة الصفقة بين الضريح والزائر

بعيداً عن طقس الدم والتضحية في المواسم والأضرحة، نتساءل ما الذي يدفع المغاربة اليوم لزيارة الأضرحة والمواسم وممارسة مجموعة من الطقوس والعادات، بالرغم من رفض الإسلام الرسميّ لها وعدّها "شركاً بالله" و"بدعاً"، وبالرغم من التطور الحاصل على مستوى الطبي النفسي والعضوي والإمكانات المادية والاقتصادية المتاحة اليوم؟

 البركة هي أساس كل الطقوس التي يقدم عليها زائرو المواسم والأضرحة الأولياء، وهو الاعتقاد السائد لدى المغاربة

يجيب الباحث السوسيولوجي هشام بوبا، بأن البركة هي أساس كل الطقوس التي يقدم عليها زائرو المواسم والأضرحة الأولياء، وهو الاعتقاد السائد لدى المغاربة، موضحاً أن البركة يتمتع بها أشخاص معيّنون مثل الشرفاء والمرابطين، الذين حصلوا على البركة من الشرفاء عن طريق خدمتهم، وهذه البركة تُمنح وتتوارث أباً عن جد، بالإضافة إلى الأولياء الذين يمكنهم أيضاً الحصول على البركة، مشيراً إلى أن فعل منح البركة يتم إما عن طريق البصق أو أكل بقايا الطعام المقدّم إلى الولي أو الهدايا، ويصل في أحيان أخرى إلى الجماع.

يؤكد الباحث ذاته أن مجموعةً كبيرةً من المغاربة يؤمنون ببركة الولي، وعلى استعداد تام للامتثال لطقوسه بمعزل عن غرابتها ولا عقلانتيها وبشاعتها للحصول على البركة، ويعزو هذا إلى العائلات المغربية التي تربّي النشء على قدرة الولي على اختراق قوانين الطبيعة، وشفاء الأمراض.

يقف هشام بوبا، عند مصطلح "البَاسْ" الذي يوجد في مقابل البركة وضدّها، وهو السوء وقلة الرزق والتعرض لنكبات ونكسات. أما البركة فهي النماء والخير المحصل عليه من أشخاص معيّنين وفق زمان ومكان معيّنين، مستشهداً بالعبارة التي يرددها المغاربة بشكل يومي "الله يحد الباس"، إذا ما صادفتهم مشكلة، أو كارثة طبيعية، أو جريمة أو مرض خبيث، إذ يُطلب من الإله وضع حدّ لما صادف الشخص أو ما يمكن أن يصادفه من خطر مستقبلاً.

وفق الباحث السوسيولوجي، فإن مفردة النيّة أو كما يقال في الدارجة المغربية "دير النية"، والتي تُستخدم في الأضرحة وعند الأولياء ولدى المشعوذين، هي الاعتقاد والإيمان بالشيء، أي الإيمان بقدرة الأضرحة والأولياء، في تحقيق المراد والمترجى، مضيفاً أن النية هي عملة الصفقة بين الضريح والزائر، إذا لم تُستحضر لن تتحصل على البركة، لكونها مبنيةً على الاعتقاد التام والشامل بالولي والطقوس المرافقة لزيارته.

ويرى هشام بوبا أن انقطاع علاقة الإنسان بواقعه، وشعوره بالفشل في تجاوز عقبة الواقع، يسمحان له باللجوء إلى الخرافة وما هو عجائبي، ويمكنه أن يكون لا عقلانياً متى عرف أن العقلانية لا تجدي نفعاً. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image