عيدُ الألعاب الجديدة للأطفال، وتحرّر البنات والنساء من "تحفّظهن" بالغناء والزينة، و"زمزم" التي يتراشق فيها الصبيان والمراهقون المياه، وروائح البخور التي تخرج من نوافذ البيوت في المساء... عاشوراء في المغرب طقس احتفالي بامتياز يستقبلونه صغاراً وكباراً في كل عام ببهجة وشغف كبيرين، فيستعدّون له منذ اليوم الأول من شهر محرّم، وتكتظ الأسواق الشعبية، حيث تباع المستلزمات والحاجيات الخاصة بإحياء هذه المناسبة.
موروث شعبي وطقوس دينية
احتفل المغاربة، أمس الإثنين 8 تموز/ يوليو 2022، بذكرى عاشوراء، التي تصادف العاشر من شهر محرّم من كل سنة هجرية. يوم تتخلله منذ قرون احتفالات وطقوس متنوعة ومختلفة عن بقية البلدان العربية الإسلامية، باتت جزءاً من هويّة المجتمع المغربي الثقافية بالرغم من خفوت حضورها النسبيّ في أيامنا.
بمجرد دخول السنة الهجرية الجديدة، تبدأ الأسر المغربية في عدد من المدن والمناطق بالتوافد على الأسواق الشعبية، والإقبال على شراء ما يُعرف بـ"الفاكية" أي الفواكه الجافة، التي تُعد ضروريةً لتزيين المائدة المغربية في هذه المناسبة، وهي طبق يتكون من خليط من التمر واللوز والحمص والفول السوداني والجوز والفستق والتين المجفّف، بالإضافة إلى الحلويات التي تختلف من مدينة إلى أخرى، فتجد "الفَقَّاص" و"القْرِيشْلاتْ" و"الكعك".
كسائِر المناسبات في المغرب، لـ"عاشوراء" أطباقها الخاصة أيضاً، إذ تستغلّ النساء هذا اليوم في تحضير الكسكس بسبعة أنواع من الخضروات، ناهيك عن "الذيّالة"، أي ذيل الخروف، التي تم تخزينها خصّيصاً لهذا المناسبة منذ عيد الأضحى، وكذا "القدّيد" أو "الكرداس"؛ وهي لحم الأضحية وأحشاؤها المجففة.
"عاشورا" أو "عِيشُورة" في بعض المناطق المغربية، فسحة ومتعة أيضاً بالنسبة للأطفال، إذ إن الآباء والأمهات يحرصون على اقتناء الألعاب هدايا لأولادهم وبناتهم لإسعادهم، كالمزامير ومسدسات المياه والدمى والسيارات الإلكترونية، إلى جانب "الطعارج"، وهي آلات إيقاعية تقليدية تشبه "الدربكة" أو الدفوف، لكنها تُصنع من الجلد والفخّار.
كسائِر المناسبات في المغرب، لـ"عاشوراء" أطباقها الخاصة أيضاً، إذ تستغلّ النساء هذا اليوم في تحضير الكسكس بسبعة أنواع من الخضروات، ناهيك عن "الذيّالة" وكذا "القدّيد" أو "الكرداس"
تضع الفتيات والنساء أحلى ملابسهنّ التقليدية ويتزينّ، سواء داخل البيوت أو في الأزقة والفضاءات العامة خلال ليلة "عاشوراء"، ويصدحن بأهازيج من قبيل: "عيشوري عيشوري، عليك دَلّيت شعوري... بابا عيشور ما علينا لحكام ألالة... عيد المولود كيحكموه الرجال ألالة"، في إشارة إلى أن الرجال لا سلطة لهم على النساء والفتيات في هذا اليوم.
يرددن هذا "النّشيد" بحرية منقطعة النظير، وتوازياً معه يرقصن ويضربن على الطعارج، ليخلقن جوّاً تسوده الأفراح والمسرات والضحكات.
خلال هذه الليلة في المغرب تحضر شخصية "بابا عيشور" الأسطورية، وتتغنى بها الألسن.
إلى جانب الأجواء الاحتفالية، تستمرّ أيضاً العادات الدينية وتظل راسخةً في وجدان الكثيرين، إذ يحرص العديد من المغاربة في عاشوراء على الصيام والزكاة.
في هذا الإطار، قال الأستاذ الباحث في علم الاجتماع، علي الشعباني، في حديث إلى رصيف22، إن عاشوراء في المغرب ارتبطت بالخير وإخراج "العشور" (الزكاة) بعد مرور الحول، كما يقرّ بذلك الدين الإسلامي، وهي أيضاً مناسبة للصيام، إذ يصوم المغاربة في اليومين التاسع والعاشر من محرم، اقتداءً بوصية الرسول محمد.
أضاف الشعباني أن عاشوراء لدى المغاربة، بخلاف المجتمعات الشيعية التي تجعلها يوماً حزيناً مرتبطاً بذكرى مقتل الحسين بن علي، مقترنة بمظاهر الفرح والبهجة والسرور، التي تتجلى في اللباس الجديد والتهاني والحلويات والأهازيج وغيرها.
إضرام النيران والتراشق بالمياه
"الشعّالة" (إشعال النيران)، و"زمزم" (التراشق بالماء)، من بين الطقوس التي تطبع احتفالات تخليد ذكرى عاشوراء في المغرب. وهي ممارسات تثير غضب السكّان أحياناً وتقضّ مضاجعهم، خاصّةً حين تقام داخل الأحياء الشعبيّة من طرف الشبان الذين يثيرون الكثير من الجلبة.
"الشعّالة" (إشعال النيران)، و"زمزم" (التراشق بالماء)، من بين الطقوس التي تطبع احتفالات تخليد ذكرى عاشوراء في المغرب
في ليلة اليوم التاسع من محّرم، يعمد الشبان إلى إضرام النيران في العجلات المطاطية، في عدد من الأحياء الشعبية في المدن المغربية الكبرى. يجمعونها قبيل أيام بغرض الاحتفال، وعندما تشتعل يقومون بالقفز فوق لهيبها من دون مراعاة مخاطر هذه العملية، في طقس استعراضي يُعرف بـ"الشَّعَّالة" أو "تشعالت" بالأمازيغية، بينما يرقص الآخرون مرددين أهازيج شعبية.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، بل يطلق هؤلاء الشبان مفرقعات يُسمع دويّها من بعيد، مما يجعل السكان في تلك الأحياء يغلقون نوافذ بيوتهم لمنع دخول دخان النيران والمفرقعات المتفجرة.
انحرافات... و"شعوذة"
يتّسم اليوم العاشر، منذ ساعاته الأولى، بطقس ترفيهي يُطلق عليه "زمزم" نسبة إلى مياه زمزم في مكة أو "بوهيروس".
يشهد "زمزم" التراشق بالمياه في الأحياء والشوارع والساحات، ومن النوافذ، حيث يملأ الشبان والأطفال الدلاء والأواني والأكياس البلاستيكية بالماء، ثم يشرعون في رش المارة، أو بعضهم بعضاً، كون ذلك مظهراً من مظاهر الاحتفال.
في هذا الخصوص، أكد محسن بنزاكور، الأخصائي في علم النفس الاجتماعي، أن هذه المناسبة قبل أن تكون ممارسات وطقوساً، تستند في أصلها إلى الدين. مضيفاً في حديثه إلى رصيف22، أن المغرب لم يشهد الاحتفال بعاشوراء بمثل هذه الطقوس، إلا لكونه ملتقى للحضارات، وقد استمد بعض الطقوس "الإيرانية"، وترسخت في تقاليد الاحتفال بهذا اليوم ما يُسمّى بـ"الشعالة".
ترتبط عاشوراء في المغرب، بانتشار طقوس السحر والشعوذة. لجوء بعض النسوة إلى ممارسة مثل هذه الطقوس، يعود، تبعاً للمعتقد السائد، بأن الشياطين تكثر في هذه الليلة، وأن قوة السحر ومفعوله يكونان أكبر
بالإضافة إلى ما يورده المتحدث، فإن المغرب شهد انتشار المذهب الشيعي خلال بعض المراحل في تاريخه، ما رسّخ مزيجاً بين الإسلام السني والشيعي في بعض الطقوس الشعبية، إلى جانب ممارسات سابقة على الإسلام سواء يهودية أو مسيحية أو وثنية، من ضمنها طقوس التطهير بالمياه، أو عبادة النار، التي تحضر في العديد من الاحتفالات والممارسات الشعبية بأشكال مختلفة.
وأشار بنزاكور، إلى أن مظاهر الاحتفال تطورت وتغيرت في العقود الأخيرة، فأصبحنا نرى التراشق بالماء والبيض وأشياءً أخرى خطيرةً مثل "الماء القاطع" (حمض الكلوريدريك)، في بعض الأحياء الشعبية، مبرزاً أن الأمر تحول من ممارسات شعائرية ودينية إلى طقوس جديدة مبنية على "العنف"، وليس لها علاقة لا بـ"عاشوراء" ولا بالدين.
وتابع المتحدث نفسه قائلاً: "انتقلنا من طقس ديني فيه الصيام والاحتفالية إلى الخوف من الخروج إلى الشارع".
من جهته، يرى الشعباني، في سياق حديثه إلى رصيف22، أن الرشق بالبيض والطماطم والماء الساخن والمفرقعات كلها "انحرافات خطيرة" تسربت إلى عادات الاحتفال بعاشوراء، لافتاً إلى أن طقس "زمزم"، تحوّل إلى مظهر يرمز إلى الانتقام من أولئك الذين يفرحون خلال هذا اليوم.
سحر أسود
بالإضافة إلى مظاهر الاحتفال التي سبق ذكرها، ترتبط عاشوراء في المغرب، بانتشار طقوس السحر والشعوذة.
لجوء بعض النسوة إلى ممارسة مثل هذه الطقوس، يعود، تبعاً للمعتقد السائد، بأن الشياطين تكثر في هذه الليلة، وأن قوة السحر ومفعوله يكونان أكبر، ويستمرّان لمدة أطول إذا ما تمّ في عاشوراء.
يستغلّ السحرة و"الشوَّافات" (أي العرافات)، "رغبات" النساء، في جلب الحبيب، أو تكبيل الزوج، أو الإنجاب، أو تحقيق "القبول"، أو حتى تشتيت شمل زوجين، خلال هذا الموعد السنوي من أجل تحصيل أكبر قدر من المال. لهذا تشهد محال بائعي الأعشاب والعطارين والأشياء التي تُستعمل في طقوس السحر رواجاً وإقبالاً كبيرين، إذ يرتفع الطلب على جلود بعض الحيوانات التي تُستعمل في الأعمال السحرية، كالثعالب، والفئران، والسلاحف، والسّحالي، وكذا مخّ الضبع ولسان الحمار، إلى جانب أنواع مختلفة من البخور.
في هذا الصدد، يقول بنزاكور، في سياق حديثه إلى رصيف22، إن عاشوراء مناسبة التصقت بمفهوم "السحر والشعوذة"، مستشهداً بأن بعض النساء، من دون تعميم، يخترنّ هذه الليلة لممارسة أعمال السحر والشعوذة، حتى أن الأمر يصل ببعضهنّ بحسب القصص المتداولة في المجتمع التي يصعب تأكيدها، إلى "إعداد الكسكس بيد شخص ميت"، وغيرها من الخرافات، التي ما تزال تنخر جسد المجتمع المغربي، حسب بنزاكور.
شدّد المتحدث عينه على أن كل هذه الممارسات، التي تحدث في هذه المناسبة، جعلت عاشوراء تأخذ "الطابع الخرافي والديني والاجتماعي، وكذا العنيف، الذي يعكس مجموعةً من السلوكيات غير المقبولة في مثل هذه الاحتفالات"، وفق بنزاكور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 17 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت