القرن الواحد والعشرون
يشتركُ الأدب وكرةُ القدم في القليل من الأشياء، ولكن شيئاً واحداً يوحّدهما، إنه: المهمّة الصّعبة المُتمثّلة في التّنبؤ الصّحيح بالكُتّاب واللاعبين الذين سيشكّلون المستقبل. إلقاءُ نظرةٍ سريعة على مُختاراتٍ شعريّة لأصواتٍ جديدةٍ واعدة، أو مقالاتٍ اكتشَفت توّاً نابوكوف أو رودوريدا أو بولانيو، وعادةً ما يظهرُ بعد عشر سنوات أن الواقع قد دحضَ الكثير من الحماسة. يحدثُ الشّيء نفسه مع مُحلّلي كُرةِ القدم ومُراقبي المواهب، كلّ أسبوعٍ يكتشفون كرويف أو مارادونا جديداً، وأنا متأكدٌ من أنّ هناك آباءً للاعبين في فرق شباب برشلونة الحاليّة يعتقدون: أنّ ابنهم سيكون تشافي، أو بويول، أو فالديس الجديد. يجب أن أضيف أنّه، في الوقت الحالي على الأقل، لم أسمع عن أيّ شخصٍ أُعطي لقب "ميسّي الجديد"، ربّما لأنه جيّد إلى درجةِ أنّ من السّخف أن نقترح أنه يُمكن لأيّ شخصٍ أن يلعب مثله، وعلى أي حال يجب أن نتذكر دائماً ما قاله بيكاسو:" طوبى لمُقلّديّ، لأنهم سيرثون أخطائي".
نعلم أيضاً: أن مُعظم النُّقاد الأدبيين ومُحلّلي كُرة القدم قد صقلوا أعينهم من خلال الملاحظة النظرية، ونادراً ما برعوا جسدياً في الفن الذي يدرسونه بمثل هذا الإخلاص. ومع ذلك، من وقت إلى آخر، هناك عقلٌ استثنائي، بناءً على التّجربة الشخصيّة، يجرؤ على التنبؤ بشيءٍ ما وفهمه بشكلٍ صحيح. أفكر، على سبيل المثال، في هيلينو هيريرا العظيم، أو كما يُقال السّاحر، الأسطورة المُتناقضة، عالم النفسِ في غُرفة تغيير الملابس، وصاحب الرّؤية لكُرة القدم الحديثة. في عام 1979، عندما كان مارادونا في التاسعة عشرة من عمره، وبدأ يتألق مع أرجنتينوس جونيورز، لكنه لم يفز بأيّ شيءٍ بعد، أجرى مقابلةً مع مجلة إلـ غرافيكو الرياضيّة، وسُئلَ عن كيف سيكون شكلُ لاعب كرة القدم في المستقبل، فأجاب: "لاعب القرن الحادي والعشرين سيكون مثل مارادونا كثيراً. قصيرٌ لكنه رياضيٌّ للغاية، مع السحر الذي تمتلكه الحداثة ومارادونا". ربّما لم يكن يعرف ذلك، لكنه كان يتكلّم عن ميسّي.
بعد خمس سنوات، في عام 1984، قبل وفاته بفترةٍ وجيزة، كتب الكاتب إيتالو كالفينو سلسلة من المحاضرات التي كان يُخطّط لإلقائها في جامعة هارفارد، ونُشرت باللغة الإنجليزية تحت عنوان المذكرات السّت للألفيّة القادمة. حدّد كالفينو خمسةَ مفاهيمٍ، يعتقد أنها ستُحدد الفنّ والأدب في القرن الحادي والعشرين، التي يجب أن يأخذها الفنانون والنقاد في الاعتبار: الخفّة، والسُّرعة، والدقّة، والوضوح، والتعدّدية. وأيضاً، كان يتحدّث بذلك عن ليو ميسّي.
صدر مؤخراً كتاب "ميسي: تمارين على الأسلوب" لجوردي بونتي عن دار أطلس للنشر والتوزيع، الذي نقرأ فيه عن ليونيل ميسي الذي يتحدى الجاذبيّة الأرضية أمام أعين نيوتن المذهول
الخفّة
كالفينو يُدافع، ويُطالب الفنّانين بسلسلةٍ من الصّفات، التي يستغلها ميسّي بمزيجٍ من الحدس والوعي والموهبة والخبرة التي يمتلكها أفضلُ لاعبي كُرة القدم قطعاً. كان ميسّي بالفعل خفيفاً عندما كان طفلاً، إلى درجةٍ كبيرةٍ بعض الشيء، في الواقع، لقد زوّده العلاج بهرمون النّمو بنقطة الجاذبية التي يحتاجها بالضّبط. علاوةً على ذلك، أصبحت هذه الخفة الجّسدية أيضاً عقليّة - أو من الأفضل القول: روحيّة- مع مرور السنين وتمتّعه بالكثير من النجاح. يركّز كالفينو قبل كلّ شيء على البطل بيرسيوس، "الذي يطيرُ مرتدياً خُفّاً مجنّحاً"، واستلهاماً من ذلك، يتذكّر سلسلةً من الكُتّاب الذين خلقوا هذا الإحساس بالرّشاقة، من لوكريتيوس، الذي يبدو أنه يريد "منع ثقل الأمر من سحقنا" إلى شكسبير عندما يقول بروسبيرو "نحن أشياءٌ تُصنع مثل الأحلام".
كلُّ هذه الإشارات تتحرّك، كما أعتقد، بذات الخفّة التي يتحرّكُ بها ميسّي بين المدافعين، كأنّ قدميه لا تُلامسان الأرض. لكن إذا اضطُررت إلى اختيار اللّحظة التي توضِّح خفَّته بشكلٍ أفضل، فيجب أن تكون لحظة الهدف الذي سجّله في نهائي دوري أبطال أوروبا في روما ضدّ مانشستر يونايتد، في 27 أيار، مايو 2009.
تشافي كانت لديه الكُرة على يمين خط المنتصف، يبحث عن تمريرةٍ، ويرى ميسّي ينبثق من بين اثنين من المدافعين على طرفِ منطقة الجَزاء، وكان يَظهرُ بوضوح أنّه يتوقع تمريرةً عرضيّة، وتشافي يستجيبُ فوراً، ويُسدِّدُ كرةً سريعةً ودقيقة داخل منطقة الجزاء، ميسّي يركض ويقفز فجأةً، ثم يرتفع فوق المُدافع (فرديناند، الذي يبلغ طوله متراً وتسعة وثمانين سنتمتراً) ويطيرُ طوال الوقت اللازم لتسديد الكّرة بالرأس وإرسالها فوق حارس المرمى (فان دير سار، الذي يبلغ ارتفاعه متراً وسبعاً وتسعين سنتمتراً)، يتقوّس جسده إلى الخلف حتّى يتمكن من الحصول على وضعيّةٍ أفضل لتلقي التمريرة العرضية، ولو لم تكن رأسيّته دقيقةً جداً إلى درجة أنها تُرسِل الكُرة فوق الحارس وتُدخِل هدفاً، لقلنا أن ميسّي ربّما صعد مثل بالون هيليوم، رشيقاً وخفيف الوزن، إلى السّماء.
السّرعة
السّرعة كما يراها إيتالو كالفينو، هي قبل كلّ شيء: "العلاقة بين السّرعة الجسديّة والعقليّة". ومع ذلك، فإن السّرعة تتطلّب أيضاً فنّ التوقُّف، ومعرفة متى تستريحُ من حينٍ إلى آخر لضمان فعاليّة السُّرعة. نقلاً عن قصة من ديكاميرون لبوكاتشيو، لاحظ كالفينو: "أنّه حتى الأسلوب المناسب يتطلب استعداداً للتكيُّف، ورشاقةً في التعبير والتفكير". أحياناً، تكون سرعة ميسّي محض وهم. إنه ليس أسرعَ لاعب، ولا أكثرَ من يركضُ في اللعبة، لكنه بالتأكيد أحد أفضلِ اللاعبين عندما يتعلَّق الأمر بتكييف سرعته مع ما يريد تحقيقه. علاوةً على ذلك، فهو الأسرع عندما يملكُ الكُرة، وعندما يُمرّرها، لا يُداعبها مطلقاً، يُمرّرها في الوقت والمكان الصحيحين. يعمل دماغه بسرعةٍ كبيرة إلى درجة أنه غالباً ما يبدو فعلاً انعكاسيّاً، وعملاً غريزيّاً لا يُمكن تخيّل عدم حدوثه، ولهذا نادراً ما يتباطأ عندما يراوغ، على سبيل المثال: إذا كانت خطوةً واحدة كافية، فلن يقوم بخطوةٍ أخرى. وأعتقد: هنا يكمن تفوّق ميسّي على كريستيانو وآخرين.
هناك العديد من الأمثلة على هذه السّرعة يمكن رؤيتها في لعبته، لكن الهدف المفضّل لديّ هو الهدف الذي سجّله في 30 أيار، مايو 2015، في نهائي كأس الملك ضدّ أتلتيك بلباو، وهو أحدُ أفضل أهدافه على الإطلاق. قوّتهُ في المرة الثّانية التي يخطفُ فيها فرصة التسجيل، وساقاهُ تلتفّان بينما يتخطّى ثلاثةَ خصومِ في ثانية، ثم توقّفه لحظة لاختيار طريقه نحو الهدف، والسُّرعة التي يُسدّد بها عندما يرى فجوة؛ كل شيء يتّحد ليَصنع هدفاً خارقاً. مثلُ هذا الجّمال والسُّمو جعلَ العديد من المُعجبين يصنّفونه واحداً من أفضل عشرةِ أهدافٍ على الإطلاق. حللت صحيفة "سبورت" اليوميّة الحركة علمياً، وكتبت: أنّ الأمر برمّته استغرق 11.4 ثانية، وأن ميسّي ركض خمساً وخمسين متراً، وعندما سدد الكُرة، فعل ذلك بمنتهى الدّقة من خلال الطريق الوحيد الممكن، لو كان قد مرّرها بمقدار 1.5 ملم إلى اليمين أو اليسار، لكان حارسُ المرمى سيوقف الكُرة، أو كانت ستصطدم بالعارضة.
الدّقة
السُّرعة تكون أكثر فاعليّة عندما تكون مصحوبةً بالدّقة. ومع ذلك، في هذه الحالة، يؤكد كالفينو معبراً عن الدقة: أنّها رهانٌ فنيٌّ من شأنه "استحضار صورٍ مؤثّرةٍ لا تُنسى"، و "لغة دقيقة قدر الإمكان"، ضدّ "طاعونٍ رهيب" يشجّع على الكتابة الخاطئة غير المُقنعة. تُعد الدّقة التي يلعب بها ميسّي تحدّياً أيضاً، ويجب أن تكون بمثابة مثال على الضجيج الذي يسلب كُرة القدم أهميّتها: الأخطاء، وإضاعة الوقت، والتسلّل، والمبالغة في الدّفاع، وأنانيّة المهاجِمين. ميسّي لا يغوصُ أبداً في منطقة الجزاء، ولا تُغريه نوبات اللاعبين المسرحية أبداً، ولا يلجأ إلى الرّتوش لتجميل لعبته. ولهذا، فهو لا يحبُّ المُدرّبين الذين يتكهنون بالنتائج، ولا الحكّام التعسُّفيين الذين لا يملكونَ معاييرَ واضحة فيما يتعلق بالأخطاء، ولا الذين يشجعون على التّمثيل. يستشهد كالفينو بنصّ بقلم بول فاليري، حيث يُحدّد الدافع الإبداعي لإدغار ألان بو، ويمكن بسهولة أن يكون ذلك وصفاً لكُرة القدم، وينطبق تحديداً على ميسّي: "شيطان الوضوح وعبقريّة التحليل ومخترع أكثر التوليفات إغراء في المنطق والخيال".
ميسّي لا يغوصُ أبداً في منطقة الجزاء، ولا تُغريه نوبات اللاعبين المسرحية أبداً، ولا يلجأ إلى الرّتوش لتجميل لعبته. ولهذا، فهو لا يحبُّ المُدرّبين الذين يتكهنون بالنتائج، ولا الحكّام التعسُّفيين الذين لا يملكونَ معاييرَ واضحة فيما يتعلق بالأخطاء، ولا الذين يشجعون على التّمثيل- جوردي بونتي
الوضوح
عند توقّع شكل لاعب كُرة القدم في القرن الحادي والعشرين، قال هيلينيو هيريرا: إنه سيكون لديه السّحر الذي تمتلكه أجهزة الكمبيوتر. مما جعلني أفكر في المناسبات العديدة التي لاحظ فيها شخص ما: أن كُرة قدم ميسّي تشبه لعبة فيديو. من المحتمل جداً أن هيريرا، بالأفكار التي كانت لدى الناس عن أجهزة الكمبيوتر في عام 1979، كان يُشير إلى لغز معالجة المعلومات بمثل هذا التعقيد السحري، والبعيد عن قدرة بني البشر، ويرى عُشّاق ألعاب الفيديو في ميسّي طريقة للّعب وإيقاعاً ومجموعة من الصّفات التي تبدو ممكنة فقط في الواقع الافتراضي، وليس على أرض ملعب كُرة قدم حقيقي.
يُعرِّف إيتالو كالفينو الرؤية بأنها: براعةُ تخيّل شيءٍ مستحيل، شيءٍ لم يكن موجوداً من قبل. نحن نعيش في عصر تفرض فيه الصُّور نفسها علينا، وتطغى علينا بتجاوزاتها. في أيام لازلو كوبالا أو ستانلي ماثيوز، نادراً ما يرى لاعبو كرة القدم الأهداف التي سجّلوها، ناهيك عن أهداف خصومهم. أقصى ما يمكنهم فعله هو تذكّرها وتجديد ذكرياتهم بمساعدة تقارير الصّحف والصّور. والشيء نفسه ينطبق على المُتفرّجين؛ إذا لم تكن في أرض الملعب، فإن التّعليقات الإذاعية وتقارير ورسومات الصّحف في صباح اليوم التالي كانت هي المصادر الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة، إذا أردت إعادة تصوُّر الحركات.
اليوم هو عكسُ ذلك تماماً. نشاهد المباريات مباشرةً، ونرى الحركات الرئيسيّة تتكرر من كل زاوية، بالحركة البطيئة، مصحوبةً بتعليق الخُبراء. وفي صباح اليوم التالي يمكننا إعادة رؤيتها على الإنترنت ومقارنتها بحركاتٍ أخرى في الماضي وتحليلها، ويفعل لاعبو كرة القدم ذات الشيء أيضاً. عندما تكون لاعباً مبدعاً، غالباً لا تأتي لعبتك من الخيال الخالص، ولكن من المشاهدة المتكرّرة لما سبق وشاهدته بالفعل من مباريات سابقة، وهذا نراه حتى في الطريقة التي يلعب بها الأطفال الصغار في الشارع أو في ملعب المدرسة: يحاولون المراوغة مثل رونالدينيو، أو الاحتفال بالأهداف مثل داني ألفي ش على طريقة السامبا، أو تقليد تسريحة شعر نيمار، دون أن ننسى المدرّبين، الذين يحاولون باستراتيجياتهم وتكتيكاتهم التنبؤ بما لا يمكن التنبؤ به…
في هذا السياق، يذكر كالفينو: أن الخيال المرئي يجب أن يكون مصحوباً بترتيب يُضفي عليه معنى - الأسلوب في حالة الرّاوي- أي "شبكة يفرض فيها التفكير والتعبير اللفظي منطقه". تُترجم إلى عالم كُرة القدم، وهذا يعني: أنّه يجب التّحكم في القدرة على الابتكار وإيجاد الحلول من خلال الإحساس بما هو عملي، فلا يبدأ أي شخص لديه ذرّة من الفطرة السليمة في صنع لعبةٍ مُتقنة في منطقة الجزاء الخاصة به، ولا أن يخاطر بضربةٍ قويةٍ من فوق مستوى الرأس ( الذي سيكون أكثر إثارةً) عندما تكون الضربة الرأسيّة المباشرة ممكنة، وخير مثالٍ على هذا الشعور، هو: الركلة الحرّة المباشرة.
في مسيرته الاحترافية مع برشلونة والمنتخب الأرجنتيني، سجّل ميسّي ثلاثة وأربعين هدفاً من الركلات الحرّة المباشرة (اعتباراً من نيسان، أبريل 2019). ذهب معظمهم إلى يسار حارس المرمى، نحو الزاوية العلويّة، وحاول مرتين فقط القيام بشيءٍ صعب، وهو: التّسديد على الأرض وإرسال الكُرة تحت الحاجز. كانت المرة الأولى في تصفيات كأس العالم بين الأرجنتين وأوروغواي، وبدا فوراً أن ذلك هو الخيار الأفضل، إن لم يكن الوحيد، وتلك اللحظة كانت عندما لعب جيرونا في كامب نو كفريق من الدرجة الأولى في 24 شباط، فبراير 2018. سدّد ميسّي الرّكلة الحُرّة باستخدام نفس الاستراتيجية، وسجّل هدفاً فوراً. نذكرُ جميعاً، نحنُ مشجعو برشلونة: أنّ رونالدينيو سجّل هدفاً كهذا في أيام مجده، وبذلك فإنّ ميسّي يُعيدُ ابتكار الكلاسيكيات. ما هو أكثر من ذلك الآن: كلما كانت هناك ركلةٌ حرّة سيسدّدها ميسّي، تعيّن على حُرّاس المرمى التفكير في هذه الاحتمالية، ووجب على اللاعبين الموجودين كحاجز أن يسألوا أنفسهم: ماذا نفعل؟ هل نقفز أم لا؟.
التعدُّدية
حتى عندما لا يلعب ميسّي، أو عندما لا يكون في الملعب، فإنّه يلعب لبرشلونة. غيابه بالطّبع ليس حاسماً مثل وجوده، لكن من الطبيعي أن يؤثّر على المباراة، حتى في تلك الأيام النّادرة التي تركه فيها المُدرّب على مقاعد البُدلاء، كان لاعبو الفريق المُنافس يراقبونه من زاوية أعينهم، ويخافون من اللحظة التي سيأتي فيها الملعب، وهذا التهديد، إلى حدٍّ ما، يحدّد شكل لعبهم، فقد يجعلهم يسارعون كثيراً لمحاولة تحقيق الربح في المباراة قبل ظهوره، أو قد يكون العكس، فهو يُبطئهم، ويُخمد رغبتهم في الهجوم، حتى لا يوقظوا الوحش الذي يراقب بهدوء. عندما لا يكون ميسّي على العشب، يلعبُ زملاؤه أيضاً بشكلٍ مُختلف. هناك أحد عشر منهم، لكنّهم يعرفون أن الأمر يشبه اللعب بعشرة؛ لأن الرقم 10 لا يمكن الاستغناء عنه. ثم يحفّزهم غيابه، ويمنحهم نوعاً ما ميّزاتٍ مختلفة. عندما تكون الكُرة عند أقدامهم، فإنهم يبحثون عنه، ولا يرونه، ويلعبون على أمل أن يظهر كما لو كان بالسحر - لأنه موجود دائماً- وليس لديهم خيار سوى ملء الفراغ الذي يشغله.
هذا الوجود الغيابيّ هو أيضاً إحدى الصّفات العديدة التي تمنحُ ميسّي التعدّدية. اختار إيتالو كالفينو أرجنتينياً آخر، هو خورخي لويس بورخيس، ويشير إلى "نموذج شبكة من الاحتمالات [التي] يمكن تلخيصها في بضعِ صفحاتٍ من قصة بورخيس". وما يمكن قوله عن القصّة يمكن قوله أيضاً عن الحركة الجماعية عند الاستحواذ على الكُرة. في مكانٍ آخر من مقالته، كتب كالفينو: "إن أفضل الأعمال المُحبّبة، على العكس، تنشأ من التقاء وتصادم العديد من الأساليب التفسيريّة وأنماط التفكير وأنماط التعبير". يُقدّم ميسّي الملف الشخصي للّاعب الذي مع كلّ حركة ينفجرُ في ألف لونٍ، وفي نفس الوقت يُكثّف جوهر كُرة القدم، فهو يُمثّل كلّ الأشياء التي يجب القيام بها بشكلٍ جيد في اللعبة.
اسأل أحد المعجبين عن طريقة لعب ميسّي التي يفضّلها، وستحصل على مجموعةٍ متنوّعة من الردود، أكثر الردود دِقةً ستقول: "كلّها!". منذ أن بدأ مع ريكارد جناحاً أيمن، خلال الفترة التي قضاها مع غوارديولا بكونه رقم 9، جرّب الأرجنتيني مختلف المواضع، بدءاً من خط الوسط وما بعده. علاوةً على ذلك، وعندما يكون ذلك ضرورياً، يركضُ إلى الخلف ويتحوّل إلى الدفاع، ويستعيد الكُرات، وهو أوّل مهاجمٍ يضغط على الملعب. إنّ ميسّي، حرفيّاً، ينتشر عبر الملعب مُسجّلاً الأهداف، يُساعد الحركات والتمريرات، وينظمها.
في يومٍ لا أعتقد أنه بعيد سيعَلم ميسّي أنّه: ليس عليه القيام بكل حركةٍ من البداية حتى النهاية. ومع ذلك سوف يجد باستمرارٍ المكان الذي يمكن أن يكون فيه مفيداً. ستمرُّ السنوات، وسيقترب وقت الاعتزال، وبينما يبتعد عن منطقة الجّزاء؛ لأنه لم يعد حاسماً هناك، أنا متأكدٌ أنه سيجد دائماً طريقةً ليصبح فاعلاً.
...
الغلاف الخلفي للكتاب
تغلبُ على هذه الصفحات حالةٌ من السعادة: هي غير مكتملة؛ إنّها عملٌ مستمر، لعبةٌ لا تزال تُلعب. طالما بقي ميسي لاعب كرة قدمٍ محترف؛ فقد تتغير بعض العبارات، بل سيتعيّن علينا تغييرها. أنا لا أشير فقط إلى الإحصائيات التي تلخص ببرود مسارهُ الفريد، ولكني أشير أيضاً إلى العاطفة والحماس والقدرة على الابتكار في كلِّ مباراةٍ، وإيجاد سُبلٍ جديدة للتعامل مع ممكنات الكرة التي لم يسبق حصولها من قبل في عالم كُرة القدم، كرسام قادر على ابتكار لونٍ جديد؛ لأن ما لديه لا يكفي مُخيّلته وقدراته.
...
جوردي بونتى: ولد في مانليو بالقرب من برشلونة، وهو كاتب روائي ومشارك منتظم في الصحافة الإسبانية والكتالونية، كان أيضاً مشاركاً في فيفا ويكلي، حصل على العديد من الجوائز الأدبية، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من خمس عشرة لغة. أولى رواياته التي تُرجمت إلى الإنجليزية،Lost Luggage -أمتعة ضائعة 2013، ونُشرت مجموعته الجديدة من القصص القصيرة، This is Not America -هذه ليست أميركا في الولايات المتحدة في عام 2019.
...
محمد بيطاري: شاعر ومترجم وكاتب ومخرج مسرحي فلسطيني سوري، من مواليد مخيم اليرموك - سورية عام 1990. درسَ الأدب الإسباني في جامعة دمشق، واختصّ في اللغات الساميّة في جامعة برشلونة المركزية. حاز على درجة الماجستير في الدراسات المسرحية واختصّ بالكتابة المسرحية والإخراج. يُدَرّس اللغة العربية ونظرية نشوء اللهجات في ماجستير الدراسات العربية المعاصرة في جامعة برشلونة المستقلة. حاضر في عدة جامعات إسبانية وكاتالانية حول الشعر العربي. كتبَ في صحف ومواقع عربية مختلفة. صدرت له ترجمة ثلاث قصائد طويلة للشاعر التشيلي توماس كوهين في أنطولوجيا "حجرٌ لم يُقلب". كتبَ وأخرج النصّ المسرحي "تحت رمال الشاطئ" باللغة الإسبانية مع المخرج والمسرحي الكاتالاني مارك بيلانوفا. أصدر كتاب "أنا الذي أنتم" نسخة ثنائية اللغة كاتالاني – عربي، ترجمة مارغاريدا كاستيلس كريبالس (مُختارات شعريّة لستّة شعراء من سوريا). آخر عمل مسرحي كتبه باللغة الكاتالانية هو: "مُتلازمة الرحيل" وتمّ عرضه طيلة شهر أبريل من العام 2022، إخراج: تشيكو ماسو، إنتاج: المسرح الحر.
...
جميع الحقوق محفوظة لدار أطلس للنشر والتوزيع.
الكتاب متوافر في المكتبات و على نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.