قصائد مُهداة إلى الشاعرة والصديقة الدنماركية نايا ماريا آيت*
1
كنتِ تَصفينَ سَمَكَ السالْمُون
يتقافزُ بين حَجَرٍ وشقوقٍ في أنهرٍ نرويجية
كانت روحُكِ في الكلمة
وكنتِ تفكرين بالبنات لو صادفْن من يُحببْن
وكنتُ أتخيلُ الروحَ التي
تقفزُ من أجسادِهُنّ نشوةً
لتُلقيَ بنفسِها في الماء من
شدَّةِ الوله
مثل وليدكِ.
2
دُوارٌ لازمني
قاعُ البحرِ، أم السفينة؟
اللحظةُ، أم عشرون سنة خلت؟
في الطائرة، أم الطريق
ينسحقُ من تحتي
أم المقبرة صارت طوابقَ؟
هذا الدُّخَانُ نذيرُ موت
أعاركه بيدي، أبَدِّدُه
أصرخُ... صوتُ ارتطام.
أركضُ ما زلت
من نافذةٍ إلى أخرى
أتأكدُ من الأقفال
وليدي
كلما أفلتُّهُ من بينِ يديَّ
تخيَّلَّ أنَّ له جناحيْن.
صدر مؤخراً ديوان "شراعٌ واقفٌ في عين الهواء" لدُنى غالي عن دار أطلس للنشر والتوزيع، ويحوي قصائد كتبتها غالي أثناء ترجمتها لكتاب "إن أخذ الموت منكَ شيئاً فردّه إليك-كتاب كارل" من تأليف الدنماركيّة نايا ماريا آيت التي فقدت ابنها في حادث مريع
3
سكونٌ يجهشُ بالبكاء
كلما تلألأَ بصيصٌ من الورق الأخضر
من خلف الزجاج
احتدمَ هذا الشيءُ الحارق
في داخلي
يتفلَّت
برعماً أعمى
يتلوَّى... يصعد
جارحاً يشقُّ صدري
يدمِّمُ القميصَ
من جديد.
4
شيءٌ مني يتكرَّر في نزول الدَّرجات
ليطمئنَ على الشمعة التي
تركتُها موقدةً.
بيدي أرخيتُ الحبلَ
ودفعتُ المركب.
لوَّحتُ لكَ على عجلٍ مرتيْن
وأسرعْتُ في عودتي.
عندما تكونُ شُعلةً أسفلَ خطِّ الأفق
سأكون قد سبقتكَ لأعدَّ لنا لقمة.
5
قلبي منكفئ على الحافَّة
من السرير
يدي على ساقِكَ الهامدة
عيني في الأوردة
لو تبرز أنيابي
لأحفرَ
حتى العظم
لأنهشَه.
أسمعُه
السمُّ ماضٍ سريعاً في طريقه
من دون خريطة.
6
سأقضمُ إبهامي
وألوِّثُ هذا السرير
لو كان دمي
يُعيدُ إليكَ لونَكَ
ويبلُّ ريقي.
على الشاشة
لا الحياة ولا الموت
يُظهران بوضوحٍ
سيرَ منحنى خَطَّي
خداعي.
7
ما خلَّفْتَه وراءَكَ مُفرداً، يجلس في الركن قانعاً بفرادته
الشاشة أمامي مثلاً لا تصاهرُ شاشتَنا الكبيرة
الجدران منزوعة اللوحات
الثلاجةُ رطبةٌ بفراغ بطنها
هل نسيتَ أن تأخذ زرعاً معك؟
الشراشف المغسولة كلُّها لي
علبةُ الحذاء التي وظَّفْتَها صيدليةً للبيت.
عبر النافذة المطلَّة على الحديقة
يربض الثعلب طويلاً يرصدُ القفص
لا خوف! كان المكر يمرُّ سريعاً قبلاً ويختفي.
مستريحةٌ
كلُّ الأشياءِ المتمردة أول صباح
يدي على ذراع الأريكة
المقاسات في جيبِ سترتك المخفيِّ إلى اليسار
وداعاً
لا تنسَ أن تفسحَ مكاناً لاثنيْن.
لي البقاءُ، وله كلُّ ذكرٍ طيِّبٍ/ولا ذِكْرَ له استحياءً هنا/لا في المتن/ولا الهامش... يفوقُ الخيال/حين يظهر/أنيسي بهيئةِ حزن... دُنى غالي
8
روحُكَ تصعد
وهي تركل
إلى السماء.
تعافرُ كالوليد
نهمُ الوصول إلى حلمةِ أمِّك.
الخوف زوجٌ من قفازات ملاكمة
ليلاً
الكدمات الزرق صباحاً
ما تركْتُه لي من أثر.
كُفَّ عن الشكوى
صغيري
فطامي لا فطامُكَ.
9
لي البقاءُ، وله كلُّ ذكرٍ طيِّبٍ
ولا ذِكْرَ له استحياءً هنا
لا في المتن
ولا الهامش
يفوقُ الخيال
حين يظهر
أنيسي بهيئةِ حزن.
غريبٌ أنْ تعبرَه وتردَّ السلام على الباقين
تُحذِّرُ مثل أبٍ من خلف الباب
إذا ما كان قد انفردَ بي
إذا ما...
اقتربْ أرجوكَ أكثر.
أنا ورقةٌ
سقطتْ على طين شجرتِهِ
جذورها تفرعت في الأثير
أقاربُ أن أسمِّيَكَ
فيجمدَ كلُّ شيء
الكلمةُ بخارٌ إن فتحتُ فمي
والضوء
تحت طبقةٍ سميكة من زجاج.
10
أُلقي نظرةً جانبية على المقعد
الشاغر وقد تحرّكتِ القصيدةُ داخلي
ألبثُ في مكاني
أحاذرُ ألا تطرفَ عيني
متوسلةً
إيماءةً
أنْ يتهلَّلَ وجهُه ويُشرق
ذلك المقعد.
11
ابني وهو طفلٌ كان يعتذر مني
حتى لجمالِ روحِه الذي يرفعني.
روحُكَ الوعاء بلا حافةٍ ولا قعر
عيوني كلُّ تلك الغيوم الخفيفة التي تمشي
وتحثُّني على المضي من دون النظر إلى أسفل.
تمنيتُك شيئاً لا يُلمس
الله الذي لا يعرفونه
يستردُّ هِباتِه بابتسامةٍ عريضة
في حالات ندمي المتكرِّرة.
12
لا خريرَ للسواقي الجَدَّات
لن تسمعَ للريحِ الأبِ عويلاً
الغيمةُ الخالة ترمَّلت منذ زمن
والظلُّ الأخ ملتصق ببقايا جدار.
في غفلةٍ نديَّةٍ لا تلبثُ الفراشة
تُقبِّلُ فمَ أمِّها
ها يُمّه، محمد؟
علاوي؟
رافد؟
سامر؟
مهيار؟
انتشر فيديو لجَدَّة عراقية تستقرُّ على صدرها فراشة كبيرة فترة طويلة. دخلتْ حوشَ الدار فجأة وتوجهتْ إليها تحديداً. توقن الجَدَّة أثناءها: أن الفراشة لا بدَّ أحد الخمسة أو الستة الذين فقدتهم بين أبناء وأحفاد.
...
* نايا ماريا آيت: كاتبة وشاعرة دنماركية، فقدَتْ ابنها في حادث مريع؛ كتبتْ عنه كتاباً صدر بعد عاميْن من وفاته، بالدنماركية، بعنوان "إن أخذ الموت منكَ شيئاً فردّه إليك-كتاب كارل"، وقد صدر بترجمتي إلى العربية عن منشورات المتوسط 2019 . كتبت هذه القصائد بعد ذلك الحادث، وخلال ترجمتي لكتابها. (الهامش من دُنى غالي).
...
الغلاف الخلفي للكتاب
ثقلٌ يعانق الخفة، وسكونٌ يسكن الهيجان، وواقعٌ يتخفى بالخرافة، وخرافةٌ تبرق المحسوس؛ فيصحو نشيجٌ، وشميم ورد وتفاح، على وسادة حرير وشوك.
هذا بعض نسيج مجموعة دنى غالي الشعرية، التي عجنت الحضور بالغياب، والشرقي بالغربي، والتجريدي بالحسي، حتى صارت رمز حياة تتكثف وهي تتبدد، ونداءٌ لا يكاد يغادر الحنجرة حتى يغيب، ولهفة لا تكاد تورق حتى تتيبس، وعناقٌ لا يكاد يتشكل حتى ينقطع.
إنها الرحيل الذي لا يرحل، والعودة التي لا تعود. إنها العطش الذي لا يرتوي، والقلق الذي لا يطمئن، والخوف الذي لا يأمن. إنها الانشطار الذي لا يلتئم. إنها الإنسان في نشيده الذي لا يكتمل.
مجموعة دنى غالي "شراعٌ واقفٌ في عين الهواء" تجتاح وهي تتسلل؛ لأنها رتق الذي صار بعيداً بخيط ما هو قريب. هذا القريب الذي يبتعد باستمرار حتى يعود ما مضى الذي يمضي دائماً وهو يعود.
إنها المجموعة الشعرية التي تمزج بأصابع رهيفة ما طردته حضارة الغرب بما فقدته حضارة الشرق؛ لكي تفتح طريقاً وسيعة نحو مستقبل الإنسان الإنساني دون اختزال.
...
دُنى غالي: كاتبة ومترجمة عراقية من مواليد البصرة، تقيم في الدنمارك. لها إصدارات في الرواية والقصة والشعر، وترجمت أهم الأعمال الأدبية الدنماركية إلى العربية. عضوة اتحاد الكتاب الدنماركيين ورابطة المترجمين الدنماركيين. صدرت لها بالدنماركية أعمالٌ في القصة والشعر والرواية.
...
جميع الحقوق محفوظة لدار أطلس للنشر والتوزيع.
الكتاب متوفر في المكتبات وعلى نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...