الرعب الحقيقي أراه في صورة مبهمة، أصوات مجهولة المصدر، دقات خفيفة لا تكشف عن نفسها، أنفاس تأتي وتذهب من وقت إلى آخر دون أن تمنحني السلام.
بالنسبة لي، لا يرتبط الرعب بالدماء، والمشاهد المقززة، والأنياب والأظافر الحادة فقط، والتي أضحت علامات استسهال، يستخدمها بعض كتاب الرعب هذه الأيام ليثبتوا للقارئ أنهم ينتمون لهذا اللون الأدبي.
في رشاقة ومرونة قد تعبر بقارئك نحو عالم الرعب والإثارة دون أن تجعله يرغب في التقيؤ أو يقرأ كل هذا الكم من المصطلحات القوية بل والخبيثة، مما لا توظف عادة بشكل صحيح.
أجد نفسي أحياناً وحيدة في مشهد رعب حقيقي
في منزلي، أجد نفسي أحياناً وحيدة في مشهد رعب حقيقي، صنعته بنفسي، يدفعني إلى الاستماع لما لا يدرك، فألتفت يميناً ويساراً لأرى ما لا تراه العيون.
لا وجود لحقيقة مؤكدة، ولكن الصمت هو الرعب بمعناه الحقيقي.
لأكثر من مرة شاهدت فيلم الرعب "الحاسة السادسة"، تناقش زاويته النفسية رؤية طفل صغير، يدعى "كول"، للأموات. مشاهد عندما تراها للمرة الأولى تثير فيك الفزع، والإثارة، والترقب. تنظر للشاشة ولا تلتفت لأي اتجاه، تنتظر لتعرف ما يحدث مع هذا الطفل، والذي كان وهو في سن الثماني سنوات بطل الفيلم ومصدر الرعب، بنظراته وارتعاشاته.
نجد الآن الكثير من العناوين الغريبة والرموز الغامضة والأغلفة المقززة، ويكاد لا يخلو كتاب ينتمي لهذا الأدب من وحش أسطوري لا نعرف كنهه، يدور في الأجواء ليلتهم أرواحنا. فهل يتآلف القارئ بصورة جيدة مع نص مشابه، ويشعر برعب حقيقي أم أن إحساسه بالامتعاض والغرابة يغلب على أي شعور آخر؟
1 – الألفة والخوف
"يعتمد أدب الرعب، في رأيي، على تحرّي دِقّة نقل التجربة الشعورية لدَى الكاتب، واختيار الكلمات المناسبة للوصف وتعبير، وسلامة توظيفها، لتوصل النَّص إلى القارئ كصورة حيّة، يسهل عليه العيش فيها والاندماج معها"، يقول الكاتب المصري المتخصص في أدب الرعب إسلام صابر.
الكتابة الإبداعية، بحسب صابر، "يداخلها الكثير من الخيال، ومصطلح "التجربة الشعورية" هو ما يصف لنا كيف يعيش الكاتب أولاً هذه التجربة بخياله وشعوره، ويتعمَّق فيها، قبل أن يتخذ القرار بأن يحوِّلها إلى نص مكتوب".
يضيف إسلام: "وعلَى هذا، لا يكون العنصر المهم في النَّص هو التركيز علَى اختيار وحوش أسطورية أو طلاسم غامضة أو عناوين غريبة، بقدر ما يكون المهم هو قُدرة الكاتب علَى الوصول إلى القارئ، وبراعته في نقل إحساسه إليه، بحيث يألَف النَّص ويتبنَّى المواقف فيه، ويتصوَّر أنه قد يتعرَّض شخصياً إلى هذا السيناريو أو ذاك".
في منزلي، أجد نفسي أحياناً وحيدة في مشهد رعب حقيقي، صنعته بنفسي، يدفعني إلى الاستماع لما لا يدرك، فألتفت يميناً ويساراً لأرى ما لا تراه العيون، لا وجود لحقيقة مؤكدة، ولكن الصمت هو الرعب بمعناه الحقيقي
ويحلل إسلام نفسية القارئ، والقيم الجمالية التي يسعى أدب الرعب لأن يخلفها فيه: "إذا أحسَّ المؤلف أو أجاد تقمُّص مشاعر كالقلق أو الرعب أو الحيرة أو الارتباك، فأجاد نقلها إلى القارئ في نص ولو بسيط، يتحدث عن مواجهة بين سفاح وضحية في مكان محدود عادي، كأحد الأبنية السكنية مثلًا، فإن القارئ يتفاعل بقوّة، ويشعر بأُلفة أكبر مع النَّص، ويعقِّب عليه بأنه "قد خاف فعلاً"، برغم أن النص في المثال خلا تمامًا من أي عنصر خارق أو وحش أسطوري.. وهي عناصر لا أعيب استعمالها في شيء، لكني لا أتفق مع كونها لازمة في أدب الرُّعب".
لذا، ربما تتفقون مع إسلام بأن أدب الرعب هو الأكثر تحدياً بين الأنواع الأخرى، يقول: "أعتبر أدب الرعب، برغم شيوع المحاولات فيه مُؤخَّراً، صنفًا من صنوف الأدب الصعبة".
2 – اللغة المناسبة لأدب "الرعب"
يقول إسلام: "يعين الكاتب في نقل التجربة الشعورية إلى قارئه لغةُ النَّص، فهي دائماً أداة التعبير، وهمزة الوصل بين الكاتب والقارئ، ومنها درجات، أرَى أنه علَى الكاتب أن يجيد اختيارها والتنقُّل بينها عند اللزوم". "صنف الرُّعب القوطي مثلاً -بصراعاته المُميَّزة بين البشر وقوى الشر فوق العادية- يناسبه مستوَى أعلَى من التدقيق في اختيار الألفاظ، والبُعد قَدْر الإمكان عن الكلمات العاميّة والابتذال، بعكس الحال في الرُّعب الكوميدي والرُّعب الحداثي".
ويحذر إسلام من سوء اختيار الكاتب للغة المناسبة للنَّص أو تهاونه فيها، فذلك قد يمثِّل "صدمة للقارئ تدفعه إلى العزوف عن إكمال القراءة، وفقدان اندماجه واستمتاعه بالنَّص المكتوب".
ويوضح: "لا يعني هذا أنني أشجِّع الكاتب علَى اختيار الألفاظ الصعبة أو البحث عن كلمات غير شائعة أو استعمال صياغة ثقيلة، وإنما أرَى أن وقفة صغيرة قبل الشروع في الكتابة، ستساعده كثيراً في اختيار مستوَى اللغة المطلوب لنقل إحساسه بدِقّة".
لإسلام صابر العديد من الأعمال الروائية والقصصية أبرزها: "دروب مظلمة"، مجموعة قصصية عن دار "تويا" 2020، و"فتاة قصر غوتا" نسخة إلكترونية أصدرت عام 2021، وروايات مثل: "ما الذي في القبو؟"، "لعنة آل ميتشيل".
3 – الرعب المعوي
أندهش من وقت لآخر من بعض الأصدقاء العاشقين للرعب الدموي، المرئي أو المقروء منه على حد سواء، ويجدون فيه متعة خاصة، في حين أن البعض الآخر ينصرف بعيداً عنه، ويجده مثيراً للغثيان، ومن ثم فهناك حالة من الخلاف والجدول حول تقييم تلك المشاعر جمالياً وأدبياً.
تبحر بنا الكاتبة المصرية نسمة عاطف بين أمواج تلك المشاعر التي تجتاح هذا النوع الغريب بالنسبة لي من القراء، تقول: "هناك أنواع عدة لأدب الرعب، منها:
1 - روايات "الوحوش"، ويندرج تحته كل أنواع الوحوش من مصاصي الدماء، والمذؤوبين، والزومبي وصولا إلى وحوش المختبرات والأبحاث غير المحكمة، مثل جودزيلا وخلافه.
2 - روايات تحكي عن تغيرات في الجسد، ويمكن أن نعتبر رواية "المسخ" لكاتبها فرانك كافكا سنة 1915 وهي تحكي عن رجل يكتشف أنه تحول إلى حشرة! أبرز مثال عليها، بحسب نسمة.
3 - هناك أيضاً نوع من الروايات تحكي عن فقدان السيطرة على النفس أو الحياة، تقول نسمة: "في هذا السياق يكون رعب الأشباح والشياطين هو المسيطر، ثم يأتي رعب الكائنات الفضائية، ورعب غزو الفيروسات، ونهاية العالم بعد حروب نووية وخلافه"، وهناك عوالم خاصة أخرى، و"يعتبر لافكرافت أول من وضع حجر الأساس لهذا النوع، إذ أخرج إلى النور فكرة أن العالم الحديث مبني على أنقاض عوالم قديمة، تحكمها كيانات ضخمة".
وختمت: "كل نوع من هذه الأنواع قد يحتوي على جرعة من التوتر أو ما يطلق عليه الرعب النفسي بعض الدموية، أو الرعب المعوي، وهذا ما لا يفضله البعض، وعلى القارئ أن يختار جيداً".
نشرت نسمة عاطف عدداً من الروايات، منها: "حكايات الجدة صفية" عام 2020، و"عمارة رقم 9" 2021، و"بريد" 2019، و"قصر عيني" 2019.
4 - الهيكل الحكائي
حول الجرعة الشعورية "المسموح بها" جمالياً لكتابة أدب الرعب، يلفت الناقد والمترجم الدكتور هاني حجاج نظرنا إلى محاذير عاطفية على الكاتب أن يتحاشاها، يقول لرصيف22: "الكاتب الذي يعمد إلى إثارة التقزز يدق أول مسمار في نعش نجاحه، قصص وأفلام الحب إذا تعمدت التعرية تفقد التأثير المرهف، نفس الشيء في سينما وأدب الرعب".
يشرح حجاج وجهة نظره أكثر: "صحيح نحن نحب أن نشعر بالخوف ونراقب تفاعلنا مع غوامض الأمور مع قدر يماثل ما يمكن حدوثه في حياتنا من فزع (قطرات دم، جثة، ظلال مخيفة) لكن تقديم مشاهد العيون المقلوعة والأطراف المبتورة والمصارين دليل على إفلاس، فمعناه أنه لا يجد عنده من أدوات التعبير سوى ما هو مثير لحظياً كمشاهد الجثث المحترقة على أفلام رعب الهولوكوست، والمايوهات في بوسترات وأغلفة السبعينات التي تختصر الموضوع في متعة بصرية سريعة".
"نحب أن نشعر بالخوف ونراقب تفاعلنا مع غوامض الأمور مع قدر يماثل ما يمكن حدوثه في حياتنا من فزع (قطرات دم، جثة، ظلال مخيفة) لكن تقديم مشاهد العيون المقلوعة والأطراف المبتورة والمصارين دليل على إفلاس"، هل تتفقون مع هذا الرأي؟
ينتقل بنا حجاج إلى بعض الكتب والروايات الشهيرة التي وقعت في أمثال هذه الحفر،
رواية "الشيء" لستيفن كينغ
"في الرواية قدم ستيفن مشاهد معدودة مخيفة لحشرات، وتعذيب، وتمثيل بالجثث، لكن بقية الكتاب الذي يربو حجمه على الألف صفحة تغوص في الجذور النفسية للأولاد السبعة، ونشأتهم في مدينة ديري، ومواجهتهم للشيء (مهرج مخيف مسكون ربما) ثم العودة بعد 27 سنة للقضاء عليه".
"الشيء هنا –في رواية ستظل حية في الأذهان للأبد- هو الخوف الكامن في نفس كل واحد منهم، ورافقه من طفولته للنضوج، طبعا ظهرت آلاف الروايات التي تعتمد على نفس الموضوع وظن مؤلفيها أن إقحام جرعة أكبر من مشاهد العنف الدموي والاغتصاب يجعلهم أكثر جرأة وبالتالي الأسرع انتشارا، والنتيجة أن كافة هذه الكتابات سقطت واختفت، وعاشت رواية كينغ بعدد فلكي من الطبعات والأفلام وسوف تظهر في مسلسل تليفزيوني يتم الإعداد له في وقت كلامنا الآن اسمه "أهلاً بك في ديري"، يقول حجاج.
مسلسل "الغرفة 207"
"على نحو آخر، مارس صُناع مسلسل "الغرفة 207" عندنا، عن مجموعة قصصية للدكتور أحمد خالد توفيق تحمل العنوان نفسه، عملية استسهال مرئي، أضرت بالمسلسل عندما أسرفوا في استخدام مشاهد مكررة، تستعجل التأثير المطلوب، لكنها غير مبتكرة".
يضيف حجاج: "الغوص في النفس البشرية لدرجة الملل لا يجوز هنا طبعاً، لأن القارئ يحتاج إلى جرعة الاستمتاع المطلوبة، الفكرة في سر الصنعة، وطريقة وضع مقادير الطبخة بشكل متقن، هذه المسألة تميز بين الموهوب والمُقلد".
يضرب حجاج المثل بأفلام كثيرة فشلت مأخوذة من قصص لستيفن كينغ لأن المخرجين، برأيه، اعتمدوا على مشاهد مرعبة بعينها، وتجاهلوا "الهيكل الحكائي والنفسي للموضوع"، وهو السبب عينه الذي أفشل الكثير من مسلسلات الرعب المصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...