لم تكن الروايات التي تدور حول الجرائم تروقني بقدر ما كانت مثيلاتها من السلاسل التلفزية تفعل. أحاول أن أتجاوز خجلي اليوم وأنا أسرّ لكم بالأمر.
أعترف أنني قضيت ساعاتٍ طوالاً حتى أعرف كيف سيحلّ هذا أو ذاك لغز جريمة تبدو مثالية. لم تكن جنسية العمل تعنيني بقدر ما كان ذكاءُ الكاتب في البحث وتوظيف تفاصيل نادرة تثير إحساساً غامضاً فيّ، يشبه الإحساس بالوصول لحلّ معادلات رياضية معقدة، كنت قد أدمنتها خلال فترة الدراسة الثانوية.
ظلّ الأدب الجيد بالنسبة لي، ولفترة طويلة لا يخرج عن حدود الأدب الأبيض، حتى عندما فاز الجزائري عدلان مدي بجائزة في أدب الجريمة عام 2018 عن روايته "1994"، وجدت الأمر انتقاصاً من الرواية التي عشقت تفاصيلها، هي التي سردتْ سنة سوداء في تاريخ البلاد.
دعاني كاتب لشغل الغرفة المظلمة في روايته، التي تدور حول جريمة، وإن لم تنتمِ إلى "أدب الجريمة"، فوجدتني أقضي ساعات طوالاً في تفكيك الشخصيات، وسير الأحداث، تدقيق التفاصيل ومقارنتها، واقتراح أخرى، حتى إن وزني أخذ يزداد لمكوثي طويلاً أمام شاشة الكمبيوتر، وقراءة الكثير من الروايات في أنواع أدبية متقاربة بين البوليسية والسوداء و"التريللر"، أنواع لم أكن أطيقها.
لقد تغيرت مشاعري حيال هذا النوعِ من السّرد.
قد تكون تجربة القرّاء مادة جيدة للسّرد والتحليل في مناطق يكون فيها لهذا الأدب تقاليد واضحة، لكن الأمر يبدو غريباً، وفي غير محلّه في لغتنا العربية، إذ يندر هذا النوع من الروايات، على الرغم من وجود تجارب مميزة، مثل رواية "قاف قاتل، سين سعيد" للكويتي عبد الله البصيص، التي حققت منذ سنتين، عند صدورها، حجم مبيعات جيدة في منطقة الخليج، وإن كانت أقرب للرواية البوليسية من أدب الجريمة. وتظل رواية "اللص والكلاب" للروائي المصري نجيب محفوظ، علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي كاملاً.
يبدو أن استيعاب هذا النوع أدبياً يتطلب استعراض تجربة كاتبٍ خبير في هذا النوع.
بحثت في خياراتي، فلم أجد أفضل من الروائي الجزائري عمارة لخوص، صاحب التجارب العديدة، والمتميزة.
لماذا لا يعتبر البعض من الروائيين والمثقفين روايات الجريمة أدباً؟ ولماذا لا تتوهج الكتابات الإبداعية حول الجرائم، على الرغم من انتشارها في عالمنا العربي، وتتوهج في ثقافات مثل الدول الإسكندنافية، على قلة جرائمها؟
اشتغل لخوص على أدب الجريمة في أربع تجارب روائية كاملة؛ اثنتان باللغة العربية: "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك"، صدرت سنة 2003 عن دار الاختلاف في الجزائر، والدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، وكذلك رواية "طير الليل" الصادرة سنة 2020 عن دار الاختلاف في الجزائر، واثنتان باللغة الإيطالية: "فتنة الخنزير الصغير" و"مزحة العذراء الصغيرة". كما نالت أولى تجاربه في لون الجريمة جوائز مهمة في إيطاليا، وهي رواية "صدام الحضارات حول مصعد بياتزا فيتوريو"، ونال عنها جائزتين مهمتين "راكالماري ليوناردو سياتشيا" و"فليانو" سنة 2006.
لماذا روايات الجريمة؟
في البداية، ينفي لخوص أن تكون الجريمة والكتابة عنها هدفاً بحد ذاته، بالنسبة له، ولكنه اتخذها كمنطلق لـجذب أنظار القراء للحديثين إلى الوضعية الاجتماعية والسياسية. في أولى تجاربه "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك"، يقول: "الجريمة لم تكن غاية أو هدفاً وإنما أداة للحديث عن المجتمع الإيطالي والمهاجرين، أما في (طير الليل)، فأردت الحديث عن الجزائر في ستين سنة، لم أجد أفضل من رواية الجريمة للخوض في تاريخ البلاد خلال هذه المدة".
ويضيف: "أدب الجريمة قد يتعدى تناول الجرائم بالتحليل إلى الغوص في الأسباب التي أنتجتها، مما يؤهلها لتكون كتابة كاشفة وفاضحة لمجتمعات تعجّ بالفساد، وتعايشت مع إزهاق الأرواح".
التقيت أستاذ الأدب العربي بجامعة هارفارد وليام غرانارا، وهو من ترجم رواية "الزلزال" لـلطاهر وطار، فسألته حول سبب تأخر الأدب العربي، فرد علي بجملة قصيرة: "مافيش أكشن"
ويلفت لخوص النظر إلى الخلط الحاصل في المنطقة العربية بين رواية الجريمة والرواية البوليسية، فرواية "طير الليل" ليست بالرواية البوليسية. أما عن اختياره للون الجريمة فيعزوه لكونها "وسيلة للحديث عن الفساد السياسي، الأخلاقي والديني، و(طير الليل) رواية عن الفساد، وأتمنى أن تكون أفضل طريقة لفهم الجزائر اليوم".
يتوقف لخوص ملياً عند مفارقة أساسية حيال ضعف ما يكتب في أدب الجريمة، والأنواع المقاربة له عربياً، على الرغم من انتشار الجرائم في المنطقة، تتعلق بالأدب الإسكندنافي، إذ تمكّن من فرض لون روائي خاص، يقوم على تناول الجرائم، على الرغم من قلتها داخل هذه المجتمعات.
بين أدب الجريمة والسينما
تأخر أدب الجريمة في المنطقة العربية لقلة الربط الكافي بين السينما كفن والرواية عموماً. يقول لخوص: "السبب الأساسي في تأخر الرواية الإجرامية العربية مقارنة بالأدب الأمريكي، الذي يعتبر الأساس في هذا النوع، هو عدم ربط الرواية بالسينما.
"السينما تطورت تطوراً كبيراً، وأدب الجريمة اعتمد على الكثير من تقنيات السينما، كالمونتاج. والمونتاج هو تقديم وتأخير بعض المشاهد، واستعمال الفلاش باك، والاعتماد على التصوير".
كما يوضح عمارة لخوص أكثرَ ما اقتبسته الرواية من السينما في أدب الجريمة: "عندما نقرأ الكثير من روايات الجريمة الناجحة نجد كأنها مصورة أمامنا، تتيح للقارئ أن يتخيلها أمامه، وأنا شخصياً متأثر بالسينما. حاولت استخدام الكثير من التقنيات السينمائية كالمونتاج، بناء الشخصيات مثلاً. فكل هذه التقنيات موظفة في رواية (طير الليل)؛ الانتقال بين الماضي والحاضر، كما مع شخصية ميلود صبري التي تموت في البداية، ثم تظهر فيما بعد، لكن للأسف بعض القراء وجدوا صعوبة في هضم ذلك".
كما يستشهد بموقف قد يفسر سبب التأخر هذا: "يحضرني موقف عشته قبل سنوات طويلة، حوالى سنة 2002 أو 2003، حين التقيت أستاذ الأدب العربي بجامعة هارفارد وليام غرانارا، وأظنه ما زال يدرّس هناك، وهو من ترجم رواية (الزلزال) للطاهر وطار، فسألته حول سبب تأخر الأدب العربي، فردّ علي بجملة قصيرة، وهو الذي درس اللغة العربية بمصر: (مافيش أكشن). وأدب الجريمة هو أكشن، بالحركة والحدث. وتعتمد السينما على الحدث".
مهارات الكتابة
يتوقف لخوص عند عدة نقاط لتطوير مهارات كتابة رواية الجريمة:
1 - قراءة الروايات
يقول لخوص: "على الكاتب أن يكون قارئاً جيداً لهذا النوع. لطالما تساءلت حول أسباب غياب رواية جريمة في الجزائر باللغة العربية (ياسمينة خضرا كتب روايات جريمة ولكن بالفرنسية). كان هاجسي أن أكتب رواية جريمة باللغة العربية. القراءة هي أول نقطة، والرواية الأمريكية هي المنارة في هذا الأدب. كل الكتاب في العالم تأثروا بها، خصوصاً بكاتبين هما: داشيل هامت، ورايموند تشاندل، وهما كاتبان أبدعا خلال أربعينيات القرن الماضي، وطورا هذا النوع، من الرواية البوليسية الكلاسيكية، ورواية الجريمة بمفهومها الواسع".
2 - فهم المجتمع
يشدّد لخوص أنه على المشتغل على أدب الجريمة محاولة فهم المجتمع، عليه "التوجه نحو المحاكم، المقاهي، أن يتحدث مع الناس ويفهم المجتمع، قراءة وتواصلاً وملاحظة، وطرح الأسئلة".
"التحدي الأكبر اليوم بالنسبة للكتّاب هم القراء، خصوصاً المتابعون منهم للسلاسل التي تتناول مواضيع الجريمة"
3 - المونتاج
يشير لخوص إلى أهمية "تطوير التقنيات، وهي موجودة في السينما، خصوصاً المونتاج، وكيفية تركيب القصة".
"القصة الواحدة قد يحكيها شخصان بطريقتين مختلفتين؛ فترتيب الأحداث يختلف، وهي من أساسيات فن الحدوتة أو الحكي، إضافة إلى خلق التشويق، فرواية الجريمة تقوم على التشويق أيضاً".
4 - أرضِ نفسك
يصنف بعض الباحثين رواية الجريمة والفنون المجاورة لها بأنها فنون تشاركية، عليها أن تأخذ في الحسبان القراءَ أكثر من أي نوع آخر، لكن تجربة لخوص تبدو مختلفة في هذا السياق. يقول: "تعلمت منذ بدأت كتابة الرواية إرضاء نفسي أولاً، أكتب ما أريد أن أقرأه، ليست بالنرجسية، لكن الأدب الحقيقي هو الأدب الصادق، الذي يصدق فيه الكاتب مع نفسه ومع القراء. ولا وجود لوصفة للبيست سيلر. الأهم بالنسبة لي ككاتب هو أن أقدم عملاً أبذل فيه جهداً كبيراً؛ مثلاً في (طير الليل) قضيت سنوات طويلة في الكتابة والتوثيق أيضاً، وكانت سبباً ودافعاً لفهم الكثير من المسائل والقضايا، فهي أسئلة أيضاً أطرحها وأبحث عن أجوبة لها".
5 - الحذر
أما عن الأخطاء التي يمكن أن تشوب بعض روايات الجرائم، ما يضطر لرفع منسوب الحذر لدى الكثير من الكتاب، فيقول الباحث الجزائري المقيم بنيويورك: "التفاصيل في الأدب عموماً مسألة أساسية جداً، وخصوصاً أدب الجريمة، والتحدي الأكبر اليوم بالنسبة للكتّاب هم القراء، خصوصاً المتابعون منهم للسلاسل التي تتناول مواضيع الجريمة، فقد صاروا يحتكمون إلى تجربة ورؤية، وبإمكانهم أن يلاحظوا ويتلمسوا مواضع الضعف في أي عمل، إن كان سينمائياً أو تلفزياً أو أدبياً، فهذا أيضاً يجب أن يرفع درجة الحذر عند الكتاب".
كما يشير لخوص لاستعانة الكثير من الكتاب الأمريكيين بمستشارين أمنيين وغيرهم، أو على الأقل بقراء متخصصين يعملون في مجالات ترتبط بحيثيات الرواية، كالطب الجنائي مثلاً وغيره، يقرأون النص، ويقدمون ملاحظات، ويصوبون الأخطاء إن وجدت.
كما يضيف: "يرجع الأمر إلى حرفية الكاتب. عليه أن يكتب نصّه، ويطرح الأسئلة على المختصين، ويسلمه لأشخاص مطلعين قبل نشر النص".
قد يحسب أدب الجريمة على الأدب الشعبي في البلدان، التي يعتبر فيها نوعاً قائماً بذاته، ولكنه أثبت ولا يزال، قدرتَه على التكيف، وطرق مواضيع ذات خلفيات فلسفية عميقة، والفضاء العربي ليس بمعزل عن الأمر، ولا يحتاج لأن يمرّ بجميع مراحل تطور أدب الجريمة، بل يكفي أن يطلق الكتّاب سراح إبداعهم، وحتى استلهام الجرائم التي تؤثث لليومي العربي، وكسر حاجز الرتابة في الكتابة لصالح كتابة أنشط إيقاعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع