شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
هل تساهم الأزمة المالية في انهيار منظومة الأدوية في تونس؟

هل تساهم الأزمة المالية في انهيار منظومة الأدوية في تونس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 19 ديسمبر 202203:37 م

في طوابير طويلة، يغادر الخمسيني كمال، الصيدلية الليلية في محافظة منوبة، محمّلاً بكيس مليء بأدوية ضغط الدم المخصصة لاستعماله الشخصي ووالدته، على اعتبار أن المرض وراثي في العائلة. يقول كمال إنه زار ثلاث صيدليات ليتمكن من تحصيل مخزون احتياطي من الدواء، لتلافي النقص الذي يمكن أن يحدث في المستقبل: "كنت أتحصل على دواء ضغط الدم بصفة مجانية من المستشفى المحلي في الجهة، لكن في السنوات الأخيرة يتكرر ذهابي وإيابي إلى المستشفى دون جدوى، ففي كل مرة يتم إعلامي بأن الكمية الموجودة نفدت أو يتم تمكيني من علبة واحدة لا تكفي للاستعمال الشهري فاضطر إلى اقتناء ما ينقصني ووالدتي من الصيدلية، علماً أن سعر العلبة الواحدة من الدواء الذي أستعمله يبلغ 50 ديناراً".

يأسف كمال في حديثه إلى رصيف22، لما آلت إليه الأوضاع في الفترة الأخيرة، ليجد المواطن التونسي نفسه مضطراً إلى الوقوف في طوابير طويلة لساعات علّه يظفر بدواء أو حليب أو خبز وغيرها من المواد الأساسية التي يتم فقدانها بشكل يومي وأصبح البحث عنها بمثابة المهمة المستحيلة، كما يتكبد المواطن عناء اقتناء أضعاف حاجياته خوفاً من فقدانها فيثقل كاهله بمصاريف يومية أخرى هو في غنى عنها. لكن كمال ليس الوحيد ممّن يواجهون أزمة نقص الأدوية، مع دخول تونس دوامةً جديدةً عنوانها فقدان الدواء.

"كنت أتحصل على دواء ضغط الدم بصفة مجانية من المستشفى المحلي في الجهة، لكن في السنوات الأخيرة يتكرر ذهابي وإيابي إلى المستشفى دون جدوى". التونسيون يواجهون أزمة  ندرة الأدوية

تشهد مختلف أنواع الأدوية المخصصة لعلاج الأمراض المزمنة ونزلات البرد وأدوية الأطفال وغيرها من أدوية "الإسعافات الأولية"، إقبالاً واسعاً من قبل التونسيين الذين رصدوا ميزانيات مهمةً لتخزين حاجياتهم وما يزيد عنها لمجابهة النقص المرتقب في الأدوية بعد إعلان موزعي الأدوية بالجملة عن وقف إمداد الصيدليات بدءاً من يوم 5 كانون الأول/ ديسمبر الجاري.

إضراب موزعي الأدوية أثار مخاوف التونسيين من مواجهة أزمة جديدة خاصةً أن بعض الأدوية حياتية وضرورية للعديد من الشرائح التي تعاني من أمراض مزمنة أو أمراض خبيثة وغيرها، فساهم الجزع واللهفة على اقتناء الأدوية في تفاقم أزمة الدواء في تونس التي تعددت وتشعبت أسبابها.

نقص حاد في الأدوية

قررت الغرفة النقابية الوطنية للمؤسسات الصيدلية الموزعة للأدوية بالجملة، إيقاف نشاطها لعدم التوصل إلى حل وعدم تجديد شهادة الخصم من المورد على مبيعات سنة 2022، عادّةً أن الارتفاع المتواصل في الضريبة تسبب لها في أزمة مالية خانقة. إضراب موزعي الأدوية لم يدُم لفترة طويلة فقد استجابت وزارة المالية لمطالبهم المتمثلة أساساً في إعفائهم آلياً من الحسم من المورد، وتوقف الإضراب قبل تأزم الوضع، لكن هذه الحادثة سلطت الضوء على واقع منظومة الصحة التي تواجه تحديات بالجملة تسببت في فقدان نحو 700 نوع من الأدوية وتسجيل نقص مهم في كميات بعض الأصناف الأخرى.

تُعرف أزمة الأدوية في تونس على أنها مركبة ومعقدة فالصيدلية المركزية المكلفة بتوريد وتوزيع الدواء بصفة حصرية، تراكمت ديونها لدى الشركات العالمية المصنعة لتبلغ نحو 225 مليون دينار، وهو ما حال دون تمكّنها من التزود بالكميات اللازمة من الدواء في حين أن مستحقاتها لدى المستشفيات والصناديق الاجتماعية تبلغ 400 مليون دينار.

ندرة الأدوية تهدد بانهيار منظومة الصحة في البلاد، خاصة أن المؤسسات الكفيلة باستيرادها أصبحت عاجزة عن سداد أسعار الدواء للشركات العالمية

الأزمة المالية التي تمر بها الصيدلية المركزية، مردّها إلى عجز الصندوق الوطني للتأمين على المرض عن تأمين مستحقاتها لديه نتيجة تخلف كل من الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن سداد المستحقات عليهم. الأزمة المتشعبة والمتصلة حلقاتها بإحكام تعمقت بمغادرة ثلاث شركات أجنبية متخصصة في صناعة الأدوية وتسويقها في البلاد بشكل نهائي بسبب التعقيدات وطول الإجراءات الإدارية المعتمدة في تونس.

بدورها أصبحت صيدليات المستشفيات الحكومية عاجزةً عن توفير جميع احتياجات زوّارها، فهي أيضاً تشهد نقصاً كبيراً في أصناف بعض الأدوية الحياتية، مما يشكل خطراً حقيقياً على حياة بعض المرضى والمصابين، ليجد المواطن التونسي نفسه مضطراً إلى اقتناء الأدوية من الصيدليات الخاصة -إن وُجدت- ويُحرم من مجانية تلقّي العلاج في حين أنه يتكبد اقتطاعات شهريةً بعنوان التأمين على المرض.

أمام هذه الأزمة الخانقة، يجد المواطن نفسه مضطراً إلى تلبية حاجياته من الأدوية المفقودة بطرق أخرى، فيتزود البعض بالأدوية من الخارج عن طريق الأقارب والأصدقاء المقيمين في دول أجنبية، أما البعض الآخر فيبحث عن ضالّته في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي راجت مؤخراً، ولعل أشهرها "Médicament a donner" (أدوية للتبرع بها)، وهي صفحة يتفاعل فيها التونسيون بين محتاج إلى الأدوية والمواد شبه الطبية ومتبرع بها.

أزمة مالية

يرى الدكتور سهيل العلويني، مستشار منظمة الصحة العالمية في تونس، أن أزمة الأدوية في البلاد مالية بالأساس وتتلخص في تراكم ديون الصيدلية المركزية وعدم قدرتها على سداد مستحقات الشركات الخارجية لديها فيرفضون تزويدها بالدواء زيادةً على الإشكالية المالية التي يمر بها الصندوق الوطني للتأمين على المرض "الكنام"، مقرّاً بأن الأزمة معقدة لكن الأدوية ليست مقطوعةً تماماً، وغالبيتها المتعلقة بالاستعمال اليومي تُصنع في شركات تونسية لكنها أدوية جنيسة غير معروفة في الوسط التونسي.

أوضح العلويني في حديثه إلى رصيف22، أن الإشكال يكمن في رفض المواطن التونسي لاستعمال الأدوية الجنيسة، وهي الأدوية التي يتم توريد مكونها الأصلي بكميات كبيرة من الخارج وتصنيعها وتعليبها في تونس باسم تجاري جديد، مُرجعاً ذلك إلى سببين رئيسين أولهما عدم ثقة المواطن في الأدوية الجنيسة التي أصبح استعمالها شائعاً حتى في الدول الأوروبية التي تشجع على استعمالها عبر تأمين استرجاع مصاريف الأدوية الجنيسة بشكل كامل لا الأدوية "الأصليّة". أما السبب الثاني فيتمثل في ضعف قنوات التواصل بين المريض والطبيب في ما له علاقة بنجاعة الأدوية الجنيسة داعياً إلى تكثيف الحملات التوعية بهدف تشجيع المواطن على استهلاك الدواء المحلي الموجود.

الإشكال يكمن في رفض المواطن التونسي لاستعمال الأدوية الجنيسة، وهي الأدوية التي يتم توريد مكونها الأصلي بكميات كبيرة من الخارج وتصنيعها وتعليبها في تونس باسم تجاري جديد

وتُعدّ الأدوية الجنيسة بديلاً أو مكافئا لأدوية تنتجها الشركات العالمية للأدوية بعد أن ينتهي احتكار هذه الشركات لبراءة الاختراع الخاصة بالعلاج. ويعتمد صنعها على تغيير طفيف في جزئيات الدواء من دون أي تغيير جذري في موادها الفعالة، ما يؤدي إلى إنتاجها بأسعار أرخص بكثير، وتحمل القدرة العلاجية نفسها للعلامة التجارية الأصلية.

كما لفت إلى أن النقص المسجل يشمل الأدوية المعقدة التي تُصنع في الخارج على غرار أدوية السرطان، وهي باهظة جداً، مشيراً إلى أن الدعوة الموجهة إلى الأطباء لترشيد وصف الأدوية لمرضاهم تشمل توصيف الأدوية الجنيسة وهدفها تقليص عدد الأدوية قدر الإمكان خاصةً أن المواطن التونسي يرغب في استعمال الكثير من الدواء ليُشفى سريعاً، حسب اعتقاده، كما أنه يستعمل بكثرة المضادات الحيوية التي تسببت في اكتساب الفيروسات والميكروبات نوعاً من المقاومة ضد المضادات.

كما رأى العلويني أن ترشيد استهلاك الأدوية يندرج في إطار النصائح الطبية وليس الاستهلاكية، مشدداً على ضرورة إيلاء موضوع الأدوية اهتماماً خاصاً، لأن صحة المواطن مهمة جداً، ووجب التحذير من الأزمة لكن لا داعي للمبالغة في الخوف لأننا لم نصل إلى المرحلة التي يُفقد فيها الدواء.

وعن ارتفاع أسعار الأدوية في تونس، رأى المتحدث أن ظاهرة الغلاء عالمية وليست في تونس فقط وتعود بالأساس إلى ارتفاع سعر مكونات الأدوية الجنيسة المستوردة وإلى غلاء الأدوية المصنعة من طرف الشركات العالمية.

حلول "ترقيعية"

راهنت دولة الاستقلال على قطاع الصحة وأولته أهميةً كبرى وأفردته بميزانيات مهمة لتعميم الصحة على جميع الفئات المجتمعية على نحو شبه مجاني، لكن المؤسسات الصحية على أهميتها ما انفكت تتهاوى بشكل لافت وتسجل تراجعاً حاداً في خدماتها.

وتُعدّ أزمة الأدوية من بين مؤشرات تأزم الواقع الصحي في تونس إلى جانب العديد من المؤشرات الأخرى، على غرار اهتراء البنية التحتية للمؤسسات الصحية العمومية وغياب جودة الخدمات وندرة أطباء الاختصاص في المناطق الداخلية، بالإضافة إلى تمدد القطاع الخاص والإقبال عليه بشكل لافت بالرغم من ارتفاع أسعاره.

وتعمل الحكومات المتعاقبة على النهوض بالقطاع الصحي، فيما تنكبّ الحكومة الحالية على تجاوز معضلة فقدان الأدوية من خلال بعض الحلول الترقيعية. وقد اقترح وزير الصحة علي مرابط، تحديد حاجيات البلاد بدقة خلال عملية التزود بالأدوية بهدف ترشيد النفقات في هذا المجال، مبيّناً أن إنشاء وكالة تونسية للأدوية بات وشيكاً بما سيمكن من حلحلة الأزمة في القريب العاجل.

كما لفتت الوزارة إلى أن الحديث عن نقص حاد في الأدوية مبالغ فيه، ويقتصر النقص على بعض أصناف الأدوية التي توجد لها بدائل، منوّهةً بأن الصناعة المحلية توفر 54 في المئة من احتياجات الدولة للأدوية.

بدورها، دعت نقابة الأطباء إلى ترشيد وصف الأدوية للمرضى قدر الإمكان، تماشياً مع الوضع الراهن، فيما دعا نقيب الصيادلة نوفل عميرة، في تصريحات إعلامية محلية، إلى تغيير السياسة الدوائية في تونس، وتقسيم الصيدلية المركزية إلى فرعين أحدهما يُعنى بالقطاع العمومي والآخر بالقطاع الخاص.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image