شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
تونس...

تونس... "ديمقراطية الأقلية" الشعبوية تغيّب الأغلبية الصامتة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 20 ديسمبر 202212:46 م

"الديمقراطية" مصطلح يوناني يتكون من كلمتين: "ديموس" أي الشعب، و"كراتوس" أي الحكم، وتُعرّف على أنها "حكم الشعب"، وقد تطور مفهوم الديمقراطية واتخذ أشكالاً متعددةً ليتفق جلّ الفرقاء على أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية، فيما تعالت أصوات مدافعة عن حقوق الأقلية ومناهضة لحكم الأغلبية. ليذهب توماس جفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن الديمقراطية لا تزيد عن كونها حكم "الغوغاء"، إذ يمكن لواحد وخمسين في المئة من الشعب استلاب حقوق التسعة والأربعين في المئة المتبقّية.

ديمقراطية ناشئة؟

بعد أن تمكّن التونسيون من التصدي لنظام الاستبداد والإطاحة به في ثورة 2010، دخلت البلاد مرحلة الانتقال الديمقراطي التي امتدت إلى حدود عام 2014، سنة انتخاب الشعب التونسي لممثليه في مجلس نواب الشعب. ولئن نجحت تونس في إرساء أسس التحول الديمقراطي، فإن توالي الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أرخت بظلالها على الشعب حالت دون ترسيخ الديمقراطية التي تشقّ طريقها الصعب ببطء شديد. ولعلّ إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، وما تلاها، قد ساهمت في تفكيك أسس الديمقراطية الناشئة وخوض غمار تجربة جديدة تتماشى مع رؤية الرئيس قيس سعيّد الذي يرى أن "من يتباكون على الديمقراطية يحاولون اغتيالها بكل الطرق".

كما يرى الرئيس سعيّد أن البرلمان الذي قام بحله والدستور الذي علّق العمل به، لا يمثلان إرادة الشعب ولا تطلعاته مقدماً خريطة طريق جديدة تجسدت في الاستشارة الشعبية والاستفتاء على الدستور، وفي الانتخابات التشريعية التي نُظمت في 17 من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وفقاً لقانون انتخابي جديد.

اللافت للانتباه هو أن جل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضتها تونس في العشرية الأخيرة، والتي كانت محطات مهمةً في تحديد مصير دولة وشعب بأكمله، لم تنخرط فيها سوى أقلية من الشعب التونسي بغضّ النظر عن إحصائيات الفئات العمرية التي بيّنت عزوف الشباب عن الاقتراع وعن الممارسة الديمقراطية.

جل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضتها تونس في العشرية الأخيرة، والتي كانت محطات مهمةً في تحديد مصير دولة وشعب بأكمله، لم تنخرط فيها سوى أقلية من الشعب التونسي

إذا كانت الانتخابات تُعدّ الآلية الوحيدة لممارسة السلطة في جميع الأنظمة الديمقراطية الحديثة، فإن التنشئة الديمقراطية وتأهيل المواطن ليكون فاعلاً في العملية السياسية عبر اختيار ممثليه بكل حرية ووعي، يُعدّان من بين أهم أركان العملية الديمقراطية، وهنا نستحضر فكرة جان جاك روسو، صاحب "العقد الاجتماعي" وأحد المنظرين لمبدأ "السيادة الشعبية" التي عدّ فيها أن رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في الانتخابات فحسب، بل في وعي الناس.

"ديمقراطية الأقلية"

تفيد النتائج الأوّلية لنسب مشاركة التونسيين في الانتخابات التشريعية التي أُعلنت من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أن 11.22 في المئة، أي  مليون و25 ألف ناخب، شاركوا في عملية التصويت إلى حدود إغلاق مراكز الاقتراع، أما نسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور فلم تتجاوز الـ27 في المئة، فيما بلغت نسبة المشاركة في الاستشارة الوطنية 6 في المئة فقط، وتالياً من الواضح أن الذهاب نحو جمهورية ثالثة في تونس كان بقرار لم يصدر عن الأغلبية بل بمباركة الأقلية التي شاركت في المحطات التي حددها رئيس الجمهورية وساندت توجهاته، فيما ظلت الأغلبية الرافضة صامتةً أو "مقاطعةً".

إذا كانت ظاهرة العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية قد أصبحت منتشرةً وبكثافة، خاصةً في صفوف الشباب، فإن أسبابها تُعزى بالأساس إلى فقدان التونسي ثقته بالطبقة السياسية وعدم رضاه عما آلت إليه الأوضاع في البلاد في العشرية الأخيرة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن مقاطعة المحطات الأخيرة سببها الرئيسي دعوة الأحزاب المعارضة قواعدها لعدم المشاركة في المسار الذي اقترحه رئيس الجمهورية.

يرى الكاتب والمحلل السياسي فتحي الزغل، أن إطلاق تسمية "ديمقراطية الأقليّة"، مغالطة في العرف الديمقراطي لأنه لا حديث عن ديمقراطية ما لم تحدّد الأغلبية سياسة المجموعة، وتالياً ليس بالإمكان الحديث عن هكذا تسمية للمشهد السياسي التونسي كما لا يمكن توصيفه لأي مشهد إطلاقاً وفقه.

أظهر الزّغل في حديثه إلى رصيف22، أن عدم مشاركة الأغلبية الساحقة من الشعب في المحطّات السياسيّة الأخيرة، هو موقف مُعلنٌ منها لا يخطئه كلّ مراقب للشأن التونسي، وهو موقف يُبطن الرفض التام لما يجري ولمخرجاته، مضيفاً: "لقد علّمتنا الشعوب في أصقاع عديدة من الأرض أن رأيها الصامت يسبق تحرّكها".

ويرى المتحدث أن ذلك سيتيح للأقلّية تحديد مستقبل البلاد ما دامت الإجراءات والترتيبات المترتبة عليها هي التي تسيّر البلاد.

عدم مشاركة الأغلبية الساحقة من الشعب في المحطّات السياسيّة الأخيرة، هو موقف مُعلنٌ منها لا يخطئه كلّ مراقب للشأن التونسي

كما رأى أنه لا مجال للحديث عن ديمقراطية حقيقيّة ما دامت الأغلبية لا تحكم ولا تمارس الحكم، وهو ما يُدرَّس في كل جامعات العالم، وهو ما ذهب إليه في كتابه "الديمقراطية والإسلام"، مبيّناً أن مفهومه للديمقراطية هو المفهوم المعتمد في ممارسة هذا المصطلح في المجتمعات الديمقراطية العريقة، وهو أن تمارس الأغلبية حقّها الطبيعي في حكم المجتمع المنتسبة إليه وميزان توصيفها بذلك الوصف هو الانتخابات النزيهة لا غير.

"الديمقراطية أقل الأنظمة شراً"

تستوجب المراحل التأسيسية إجماعاً واسعاً من قبل جميع الفرقاء السياسيين، وتزكيةً تشمل أكبر عدد ممكن من الشركاء الفاعلين في الدولة للتوافق حول الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة. وقد اتّسمت المرحلة الانتقالية عام 2014، بالتوافق والإجماع داخل الأحزاب والمنظمات المحلية، كما حظيت التجربة بإشادة دولية، لكنها لم تؤتِ أُكُلها على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، والدليل على ذلك هو التردي الذي طال جميع المجالات والذي يعاني المواطن التونسي من تبعاته إلى اليوم.

يرى المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي، أن النتائج التي سجّلتها الانتخابات التشريعية الأخيرة مدوّية وتُعدّ الأقل قيمةً وحجماً في تاريخ الانتخابات في تونس، خاصةً منذ الثورة إلى الآن، عادّاً أنها ليست مسؤولية أعداء الثورة، كما يقول الرئيس سعيّد، ولا خصومه السياسيين، بقدر ما كانت هذه النتيجة محصلةً نهائيةً يتحمل مسؤوليتها الرئيسية الرئيس نفسه، لأن هذه الانتخابات هي انتخاباته هو، وما حدث هو أنه وضع نفسه في الميزان وهذا من شأنه أن يعقّد علاقته بالشعب الذي يتحدث باسمه، لأن الرئيس دائماً ما يقول إنه يمثل إرادة الشعب واليوم هذه المقولة تتعرض لمراجعة أساسية، وقد يظهر أن الرئيس لا يمثل الشعب، إنما يمثل عُشر الشعب وهذا يفترض أن تترتب عنه نتائج سياسية.

أضاف الجورشي، في حديثه إلى رصيف22، أنه لا بد من أن نقول بأن الديمقراطية ليست كما فهمها رئيس الجمهورية، بل هي التعبير الحقيقي لإرادة المواطنين من خلال مجموعة من المؤشرات، من بينها مدى إقبالهم على الانتخابات سواء كانت رئاسيةً أو تشريعيةً، وبذلك هناك مشكلة مع الرئيس حول مسألة الديمقراطية قبل أن نتحدث عن بقية التفاصيل.

وتابع: "الديمقراطية هي أن يكون قرار إدارة الشأن العام قرارا جماعيا، وذلك من خلال وجود مؤسسات مستقلة تتمتع بحد أدنى من الصلاحيات، مضيفاً أن الديمقراطية هي أيضاً التوجهات والمطالب التي تنبع من القاعدة، لكنها تجد في الأثناء قواعد لعبة محترمة من قبل الجميع تُحترم فيها سلطة القانون، وتُحترم خاصةً حرية الاختيار، وتُحترم فيها الحريات وحقوق الإنسان. وإذا تجمعت كل هذه الشروط فإن المسار العام في بلد ما يصبح مساراً يتجه نحو الديمقراطية".

"الديمقراطية هي أن يكون قرار إدارة الشأن العام قرارا جماعيا، وذلك من خلال وجود مؤسسات مستقلة تتمتع بحد أدنى من الصلاحيات"

يضيف الجورشي، أن الديمقراطية ليست عمليةً سهلةً ويمكن أن تصبح في لحظة من اللحظات "مغشوشةً"، إذا لم تحترم قواعد اللعبة، لكنها تبقى أقل الأنظمة شراً، مشيراً إلى أن الديمقراطية فيها أخطاء ورهانات ربما تؤدي إلى مآزق لكنها أفضل من الحكم الفردي.

لفت المحلل السياسي إلى أن مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، أصبح متعثّراً جداً وعرضةً لصراعات وإجراءات من شأنها أن تدفع نحو إعادة النظر إلى آليات هذا المسار، خاصةً من قبل رئيس الجمهورية وأنصاره، مستبعداً القول بتوقف المسار الديمقراطي خاصةً أن بقية أجندة الرئيس لم تنفَّذ إلى الآن.

تحدث الجورشي، عن وجود مؤشرات تتوالى للتأكيد على أن اللاعبين الرئيسيين في صناعة الحدث السياسي هم أنصار الرئيس سعيّد، بتنوعاتهم المختلفة، وهم بالمقارنة مع بقية الطبقة السياسية أقلية، وتالياً أصبحت الأقلية من خلال تواجد الرئيس في أعلى هرم السلطة واستحواذه على كل الصلاحيات، تمارس نفوذها وتأثيرها عبر تحالفها مع رئيس الجمهورية وتأييده في قراراته وتالياً يمكن الحديث عن وجود بداية تحول في آليات وسلطة القرار في تونس.

"الديمقراطية ليست كما فهمها رئيس الجمهورية، بل هي التعبير الحقيقي لإرادة المواطنين من خلال مجموعة من المؤشرات، من بينها مدى إقبالهم على الانتخابات سواء كانت رئاسيةً أو تشريعيةً"

ورأى أن مشكلة الأغلبية أنها عددية لكنها غير منظمة، كما تشقّها تناقضات كبيرة وترفض التنسيق في ما بينها، وعليه أعطت فرصةً لهذه الأقلية لأن تكون أكثر تأثيراً على الحياة السياسية، فعندما تختار الأغلبية المقاطعة والمواجهة في وضع لا تستطيع أن تمسك فيه بخيوط اللعبة، فإنها شيئاً فشيئاً تجد نفسها على هامش صناعة القرار السياسي.

للإشارة فإن رئيس هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر، أكد خلال مؤتمر صحافي، أن النسبة الأولية للمشاركة في الانتخابات التشريعية المعلن عنها هي تقريبية والرقم مرشح للارتفاع بشكل طفيف نظراً لوجود بعض المراكز التي لم تُغلَق بعد.

وبخصوص الفئات المشاركة في الانتخابات بيّن بوعسكر، أن 5.8 في المئة من المصوّتين ينتمون إلى الفئة العمرية من 18 إلى 25 سنةً، و26.7 في المئة من فئة 26 إلى 45 سنةً، و32.7 في المئة من فئة 46 إلى 60 سنةً، و34.8 في المئة الفئة التي تتجاوز الـ60 سنةً. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image