أجساد متراصّة لا تترك زاوية واحدة شاغرة في صحن الكنيسة. أصوات مرتفعة تدفئ موجاتها أجواء ديسمبر الباردة. أطفال لا يملون الوقوف بالساعات، يحمل بعضهم الدفوف ويدقونها بقوّة دون أن يزعجهم طنينها، مشاركين الكبار في ترديد الترانيم بأيام لا تتكرّر إلا كل عام، قبل ذكرى ميلاد المسيح.
تصنع الكنيسة الأرثوذكسية القبطية طوال الوقت رابطة بين كل مناسبة ودلالاتها "الزمكانية"، وكأنها توصل بخيط مُحكم كل ما له صلة ببعضه، ليشكل مناسبة مكتملة المعنى بشخوصها وزمانها ومكانها، فتأخذ بيد رعاياها في رحلة روحانية إلى تفاصيل الحدث.
ذكرى ميلاد المسيح (7 يناير وفق التقويم الذي تعتمده الكنائس القبطية في مصر) رأت الكنيسة أن العذراء مريم هي بطلة القصة، فبدون حملها العُذري ورعايتها للطفل المولود لم يكن ليكتمل ميلاد يسوع المعجزة، من هنا نظمت في قوانينها تسبحة على مدار شهر كيهك القبطي "تسبحة كيهك"، أو "تسبحة الشهر المريمي"، فكل الترانيم والتسبيحات فيه موجهة إلى مريم العذراء، تكريماً لها وتقديسا لمكانتها في قلوب المسيحيين.
تسبحة كيهك والعدرا صديقة أمي
كانت أمي تحب العذراء حباً مصحوباً بالعشم. عشم رعايتي وإخوتي: "حافظي عليهم يا عدرا. حلي المشكلة يا عدرا. بشفاعة العدرا كله يتحل". لم تكن تردّد تلك الكلمات من باب التديّن، فبالشكل التقليدي للمتدينين لم تكن أمي كذلك، بل كانت تتجنّب أشكال التديّن السطحية التي لا تترك تأثيرات عميقة بالقلوب ولا تنبت معها رحمة أو لين.
تبادل العدرا مريم صداقة وحب. تخبرني أنها لا تردّ لها طلباً: عند غرقي في دوامات ضيق وإحباط، أطلب منها الابتعاد عني وتركي وحدي. كانت تحترم رغبتي، ثم تخبرني بعد عودتي أنها نادت العدرا لحل الأزمة.
في ذكرى ميلاد المسيح في شهر "كيهك" القبطي، تنظّم الكنيسة تسبحة على مدار الشهر، موجّهة إلى العذراء مريم، تكريماً وتقديساً
الغريب أن كثيراً من الأزمات كانت تحلّ بطرق سحرية تبدو غير مفهومة إلا لأمي وللعدرا، كنت أداعبها: "بينك وبين العدرا عمار يا ماما".
في أول عام دراسي لي بالجامعة 2003 تعرفت على التسبحة الكيهكية، التي تبدأ 10 ديسمبر. كانت بالنسبة لي اكتشافاً فريداً. كل هذا الجمع من المسيحيين في مكان واحد، يرنمون بصوت واحد، يتشاركون السهر سوياً، منذ الليل حتى ساعات الصباح الأولى بلا كلل.
أمدح في البتول وأشرح عنها وأقول:
أنتِ أصل الأصول يا جوهر مكنون
بك يا نعمتنا وخلاص جنسنا
سبانى حبك يا فخر الرتبموسى رآكِ يا مريم عجب من عجبوالقناديل فضة بتضوي والصلبان دهب
قد بلغنا المُنى ونحن فرحون
تجسد الابن بثبات من فخر البنات
صلب عنا ومات عند الإقرانيين
ثمرة العيون هي ابنة صهيون
أعدائي يقولون إني بحبك مفتون
وسباني.. (إحدى التسبيحات التي تقال في أيام تسبحة كيهك).
"ماتعرفيش تسبحة كيهك؟". فتح سؤال صديقتي بالكلية أمامي هذا العالم الجديد، 3 أيام كل أسبوع نجتمع فيها لنحضر فيهم التسبحة الكيهيكة، وكان من المهم أن نضبط مواعيدنا لنحجز ولو ركن في الكنيسة يمكننا الوقوف فيه وسط الحشد المجتمع.
مئات الأتوبيسات تأتي مُحمّلة من الصعيد والقرى والأماكن النائية بالبشر القادمين خصيصا لحضور التسبحة الكيهية، في كنيسة العذراء مريم بمنطقة الزيتون بالتحديد، من أجل روحانية الكنيسة نفسها، وثانياً من أجل الأنبا يوأنس الذي يقود التسبحة في هذه الكنيسة.
كان اسمه يتردّد وقتها كالنجوم، يأتيه المحبون من كل مكان لحضور التسبحة بقيادته التي تتسم بالحماس وترك مشاعر الجموع تنفجر بلا حرج، تارة بزغاريد نسائية مع أبيات الترانيم ذات اللحن العالي، وأخرى بأصوات جهورية يقاسمها مع "الشمامسة (المرنمين المعتمدين من الكنيسة)، ثم يبتعد هو عن الميكروفون ويصمت مع الشمامسة لتعلو أصوات الحضور بالترنيم.
لدى الأنبا يوأنس، أسقف أسيوط، سمات كارزمية أخرى كانت محل أحاديث الجميع، يحب عزف الدُفّ، (آلة موسيقية إيقاعية من النحاس تستخدم في الكنيسة) وكان يسمح للحضور بعزفه أيضاً.
يتمتع بنشاط ويقظة تبقيه واقفا ومتفاعلاً طوال ساعات التسبحة، ويحب الحديث مع الحضور ومناوشتهم، كلما لمح أحد يغفو للنوم يشجّعه لمعاودة الوقوف، فحتى كبار السن كانوا يتحمسون للوقوف والسهر في هذه الأجواء الحماسية.
ظللت كل سنواتي الجامعية أواظب على حضور التسبحة كل عام، اشتريت دُفاًّ، وكتاب التسبحة، وإيشارب مطبوعاً عليه صورة العذراء مريم. أخبرت أصدقائي وأقاربي عن تلك الأوقات التي تتقطع فيها حبالي الصوتية من الاندماج في الترانيم. أتجاهل أدوار البرد الموسمية التي تخترق عظامي، أكتسب مناعة ودفئاً من الحضور. لا تهمني مواعيد الامتحانات والمذاكرة. كنت أعوضها، بينما التسبحة لا تعوّض.
أقنعت معارفي بالحضور، ثم جاء الدور على أمي. هي تحب العذراء مريم وسيكون إقناعها بالسهر من أجلها بسيطاً.
تسبحة أمام الشاشة
حضرت معي مرة واحدة. كل ما كنت أراه إيجابيات رأته هي إشكاليات أخلاقية وإنسانية: زحام، دفوف تطنّ في الأذن بلا احترام لحاجة كبار السن للراحة، جموع ترنم بصراخ، أسقف يطلب مني ومن العجائز الوقوف بالساعات ولا يبالي بآلامهم، صغار في السن يتحركون بعشوائية: "مش هكرّر التجربة طول حياتي". كلمات ألقتها في وجهي قبل أن أسألها حتى عن رأيها.
كانت أمي تحب العذراء حباً مصحوباً بالعشم. عشم رعايتي وإخوتي: "حافظي عليهم يا عدرا. حلّي المشكلة يا عدرا. بشفاعة العدرا كله يتحل".
أن تقول رأياً عكس الجموع، خاصة في أمور تتعلق بالدين أو طريقة التعبّد، هو أمر شائك دائماً على الذين لم يتعودوا تقبل الاختلافات، هؤلاء الباحثون دائماً عن منطقة آمنة من الآراء السائدة والركون إليها دون عناء التفكير في نقيضها أو تقبّله ولو لمرة واحدة.
كنت وقتها ضمن هؤلاء. أرتاح لما يرتاح له الجموع. تقبلت رأيها، لكني لم أخفِ تعجبي منها: كيف لم تستمتعي بهذه الأجواء الروحانية كما استمتعت مع عشرات الأصدقاء؟
لم يفلح إلحاحي عليها في إعطاء الأمر فرصة ثانية، لم تمنعني من الحضور في أي وقت، ولم تمارس أي طريقة مثل أمهات كثر في إقناعي بشيء ضد قناعتي، فقط أخبرتني أن هذا الشكل لا يناسبها ولم تحبه.
بالتزامن في عام 2005، انطلقت قناة "أغابي"، وهي أول قناة قبطية أرثوذكسية تبث من القمر الصناعي المصري، انتشرت في كل البيوت المسيحية، ومع الوقت باتت التسبحة الكيهكية تُعرض عليها، ويتم تسجيلها من أكثر من كنيسة.
مرت سنوات لم أحضر فيها التسبحة من الكنيسة. مثل أمي، أحببت دفء البيت وراحته، ولم تعد هناك حاجة إلى البحث عن قناة أغابي، يمكنني سماع التسبحة في العربية، المترو، أو حتى في صباح يوم العمل.
أصدر الأنبا يوأنس قراراً بتوقف الحضور عن العزف على الدفوف، والاكتفاء بما مع الشمامسة، للسيطرة على الضوضاء الزائدة عن الحدّ، وبات الأنبا يوأنس أكثر هدوءاً من ذي قبل. أتذكر روح أمي في ديسمبر، صوتها وهي ترنم التسبحة مع الأنبا يوأنس لكن أمام الشاشة بالبيت: "مش حضور الكنيسة أفضل من القعدة قدام التليفزيون؟". اسألها لتجيبني: "الترنيم هنا بهدوء... هناك زحمة ودوشة".
سبانى حبك يا فخر الرتب
موسى رآكِ يا مريم عجب من عجب
والقناديل فضة بتضوي والصلبان دهب
وده مدحي.. ده مدحي فى البتول زاد قلبي فرح
واللي يمدحها على طول على طول قلبه ينشرح
يا قبة موسى يا مريم يا شورية هارون.
أحنّ لصوت أمي وترنيمة أمي. ديسمبر هو شهر كيهك لمريم العذراء، وشهر ترنيمة أمي الهادئة الفردية التي تصل للعذراء، مثلها كمن يجلس تماماً في الصفوف الأولى بالكنيسة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...