داخل كنيسة القديسة بربارة في الفسطاط، شمال القاهرة، وقفت سارة عماد (34 سنة) تتضرع بكلمات إلى السيدة مريم العذراء كي تهبها طفلاً، بعد أن عجز الأطباء عن مساعدتها.
في أكتوبر 2013، تأكدت سارة أنها لن تُرزق طفلاً، على الرغم من عدم وجود مشكلة طبية، وهي في الوقت ذاته لا تريد الانفصال عن زوجها.
تذكر أنها قالت حينها: "الرب سيهبنا ما نتمناه. خشينا تأخر الوقت، لذا سعى زوجي في البحث عن حل طبي للإنجاب، ولم نفلح، ثم فكرنا في تبني طفل، لكنه ممنوع في مصر".
أسر مسيحية كثيرة لم تنجب أطفالاً لأسباب طبية، وعلى الرغم من ذلك لم يحدث انفصال - حتى الآن - بين المسيحيين إلا لعلة الزنا أو تغيير الدين. تشعر عماد بمشاعر مضطربة نتيجة العيش بمفردها مع زوجها من دون أطفال طوال عشر سنوات، مدة زواجهما.
تطبق مصر الشريعة الإسلامية والمذهب السنّي اللذين يمنعان جميع المواطنين داخل مصر من التبني بشكل قاطع. إلا أن المادة الثالثة من دستور 2014، نصت على رجوع غير المسلمين إلى شريعتهم في ما يخص أحوالهم الشخصية، وعلى الرغم من إباحة حق التبني في الشريعة المسيحية بخلاف الإسلامية، إلا أنهم محرومون منه بحكم قانون الأحوال الشخصية.
المادة المذكورة آنفاً شكّلت نقلة نوعية لمسيحيي مصر، فقد نصت دساتير مصر المتلاحقة منذ 1971 في مادتها الثانية، على أن الإسلام هو دين الدولة، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية، هي المصدر الرئيسي للتشريع. وكانت تطبق على الجميع، لكن المادة الثالثة في دستور 2014 أعطت غير المسلمين سنداً دستورياً في تطبيق شريعتهم.
إلا أن المادة الثالثة من الدستور، بحسب المفكر القبطي كمال زاخر، مادة "شكلية" لأنها لم تُفعّل حتى الآن، وإذا لم تفعّل ولم تُطبّق شرائع غير المسلمين، فيجب أن تحذف مع المادة الثانية من الدستور، وتبدأ أولى خطوات الدولة المدنية.
في المسيحية، تبنى الله الإنسان
الديانة المسيحية لم تحرّم التبني وفي الوقت نفسه لم تجزه، إلا أنه يُعتبر (التبني) أساس الشريعة، بحسب الأب لوقا راضي، كاهن كنيسة مار مرقس في محافظة أسيوط، لأن الله تبنى الإنسان روحياً وفداه بالسيد المسيح. لذلك يقول المسيحيون في الصلاة "أبانا الذي في السموات"، فمن الضروري أن يتبنى إنسان إنساناً آخر، حتى تنتشر الرحمة بين البشر. ويضيف لرصيف22: "في المسيحية، لا يوجد ما يمنع التبني، لأنه قيمة إنسانية تقوم عليها ديانتنا"، مشيراً إلى أن التبني يضمن حياة كريمة ومستقرة لطفل فقد أسرته، وبيتاً يؤويه بدلاً من دور الأيتام التي تخرّج عادة طفلاً مضطرباً نفسياً، ويوفر لأسرة لم تنجب الشعور بالسعادة لوجود طفل فيها. حتى سبعينات القرن الماضي، كان يسمح للمسيحيين، مِمَن لم ينحبوا، بتبني طفل طبقاً للائحة الأقباط الأرثوذوكس 1938، إلا أن البابا شنودة الثالث عطلها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1971 بحجة أن فيها مواد تخالف الشريعة المسيحية، إلا أن البعض عزا سبب التعطيل إلى إجازة الطلاق لأكثر من علة. وفي 2008، أُدخلت عليها تعديلات لم تشمل التبني. فرضت لائحة الأقباط الأرثوذوكس عام 1938، شروطاً للتبني، منها "عدم جواز التبني إلا إذا وجدت أسباب تبرره وكانت تعود منه فائدة على المتبنَّى، يخول المتبني أن يلقب المتبنَّى وذلك بإضافة لقب إلى اسمه الأصلي، وأن يكون المتبني تجاوز سن الأربعين وألا يكون عنده أولاد ولا فروع شرعيون وقت التبني وأن يكون حسن السمعة، وأن يكون أصغر سناً من المتبنى بخمس عشرة سنة ميلادية على الأقل". كما حظرت اللائحة الزواج بين المتبنَّى والمتبني وفروع هذا الأخير، وبين المتبنَّى وأولاد المتبني الذين رُزقهم بعد التبني، وبين الأولاد الذين تبناهم شخص واحد، كذلك بين المتبنَّى وزوج المتبني وكذلك بين المتبني وزوج المتبنَّى. ومنعت اللائحة أن يرث المتبنَّى تركة المتبني من غير وصية.ماذا سيحدث إن تبنى مسيحي طفلاً الآن؟
الأسباب الصحية المختلفة في الأغلب سبب منع الإنجاب، وهذا ما حصل مع مينا (31 سنة)، فهو لا ينجب لأسباب مرضية. وبعد مرور خمس سنوات على زواجه في 2012، قرر تبني طفل من إحدى دور الأيتام في القاهرة، لكنّ القائمين على الدار رفضوا، وقالوا له: "التبني ممنوع يا بني، لن نستطيع مساعدتك". فكّر مينا كثيراً في كفالة طفل، وأن تكون أسرته بديلة لطفل فقد عائلته، لكن الأمر لا يعجبه، وفي الوقت ذاته يريد طفلاً، فيقول: "أعلم أنها إرادة الرب، لكن الإنسانية لا ترفض أن أكون أباً". حال مينا تشبه حال كثيرين يرغبون في تبني طفل، لكن القوانين تمنعهم. يضيف لرصيف22: "أعلم أن هناك طرقاً غير قانونية يمكنني من خلالها تبني طفل، لكنني لن ألجأ إليها. سمعت أن دولاً أجنبية تجيز التبني، أفكر في أن أذهب إلى دولة منها وأتبنى طفلاً وأعود إلى مصر". في سبتمبر 2009، حكمت محكمة جنايات القاهرة على امرأة وزوجها وهما أميركيا الجنسية، بالسجن عامين وترحيلهما إلى أميركا بعد تبينهما طفلاً وتربيته ونسبه إليهما. ووجهت إليهما اتهامات بتزوير أوراق رسمية وتهريب طفل مصري خارج البلاد. طبقاً لقانون الطفل الرقم 12 لعام 1996، فإن التبني محظور في مصر (على المصريين والأجانب) ولم يتم التطرق إلى الديانة أو وجود استثناءات في القانون، وإذا ثبت أن مواطناً تبنَّى طفلاً ونسبه إليه فسيعاقب بتهمة الإتجار بالبشر واتهامات أخرى.مادة دستورية وقوانين متعارضة
منظمات وجمعيات حقوقية تسعى إلى تقديم مسودة مشروع قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين، أبرزها الاتحاد المصري لحقوق الإنسان ومركز قضايا المرأة والمركز المصري لحقوق المرأة، علماً أن التبني ليس قضيتها الأساسية، لأن المجتمع المدني يهتم بقضايا الزواج والطلاق بشكل أكبر. من وجهة نظر زاخر، فإن "الدستور أبو القوانين ومنه تؤخذ التشريعات، وإذا عرف محامٍ أن هناك قانوناً يخالف الدستور يرسله إلى المحكمة الدستورية للفصل في دستوريته. وهذا ما يجب فعله مع قوانين الأحوال الشخصية، وذلك عبر الاستناد إلى المادة الثالثة من الدستور في أي قضية". ويتابع لرصيف22: "قدمت الكنائس الثلاث مقترح قانون إلى وزارة العدالة الانتقالية في 2015 التي اعترضت على القانون لوجود نصوص خاصة بتبني عائلة مسيحية طفلاً مسيحياً، كأنها صاحبة القانون والجهة التي سيطبق عليها، أو أن هناك مؤسسة أعلى ترفض قوانين الأحوال الشخصية لغير المسلمين. في 2010، قدم المحامي نجيب جبرائيل، مدير الاتحاد المصري لحقوق الإنسان إلى مجلس الوزراء مقترح مشروع قانون يجيز لعائلة مسيحية لم تنجب، تبني طفل مسيحي، كان ذلك في حياة البابا شنودة، ولم يلقَ قبولاً حينذاك، وقدمه مرة أخرى في 2015 ووجد رد الفعل نفسه. القانون الذي قدمه جبرائيل وفق ما يقول لرصيف22، تضمن عقوبات على من يتبنَّى طفلاً ليس مسيحياً، منها السجن لخمس سنوات و100 ألف جنيه غرامة، وبذلك سيمنع وقوع ضرر على المسلمين لعدم التبني إلا من داخل المسيحية. كما يتضمن مشروع القانون مواد مشابهة لمواد لائحة 1938 في خطوات التبني.الإتجار بالأطفال طريق التبني
"لكن، ما الضرر من إتاحة التبني؟"، تساءل القس رفعت فكري، مسؤول الإعلام في الكنيسة الإنجيلية، مشيراً إلى أن التبني سيحمي المجتمع، والمتبنّون سيكونون لأسر لم ترزق أطفالاً حتى لا يتجهوا إلى طرق غير شرعية للعيش، ناهيك بالمعاملة القاسية للأطفال في الشوارع. وتابع: "التبني لن يقلل عدد المسلمين أو يزيد المسيحيين والعكس، الأمر كله لحماية الطفل من مآسي حياة الشارع وحتى لا يتجه إلى طرق غير قانونية للعيش". "التحايل على القانون لإشباع غريزة إنسانية يجعل البعض يتجه إلى الإتجار بالبشر، والحصول على طفل من أهله أو شخص ما مقابل المال"، قالت المحامية هيام الجنايني. ووضحت: "يسلك من يريد طفلاً ولم ينجب هذا الطريق غير الشرعي لإرضاء غريزة الأمومة والأبوة وبعيداً من الإجراءات الروتينية لكفالة طفل". تتابع الجنايني لرصيف22: "بعد شراء الطفل، يتجه الأب إلى أي مستشفى لإثبات ولادته، فيقول حينئذ أن الأم ولدته في البيت، وأنه يريد توثيق ولادته ويحصل على شهادة ميلاد للطفل، بكل سهولة". "الإتجار بالأطفال منتشر، بسبب حظر التبني"، قال إسحاق فرانسيس مؤسس مبادرة الصرخة للأحوال الشخصية، وأردف: "رصدت تبني سيدة ثرية طفلاً منذ 4 سنوات مقابل مبلغ مالي، ونسبته إليها. هذه السيدة اعتقدت أنها لا ترتكب جرماً، وبررت ذلك بأنها يجب أن تشعر بالأمومة".من يعطل القانون؟
يرى مسيحيو مصر أن الأزهر الشريف يعرقل تمرير قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، كما يعول البعض على رضوخ الكنائس تجنباً لتلويح الدولة بإدخال قانون مدني للزواج والطلاق. الباحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إسحاق إبراهيم، يقول أن وضع التبني في الأحوال الشخصية للمسيحيين يثير جدالاً، لأن إجازته سيدخل الكنائس في صدام مع مؤسسات الدولة التي تطبق الدين الإسلامي. كذلك تعتقد الكنيسة الأرثوذوكسية أن التمسك بالتبني سيدخلها في صراع وهو ما يمكن أن يجعلها تضحي بالإرث والزواج والطلاق، إلا أن الكنيسة الكاثوليكية تعتقد أن الموضوع حق أصيل في المسيحية ويجب التمسك به. وفق ما يقول إبراهيم. كان هناك بعد جوهري في الموضوع، فهل الأزهر يسيطر حقاً على قوانين الأحوال الشخصية للمسيحيين؟ الأزهر لم يصدر أي بيان يشير إلى تدخله في شؤون غير المسلمين سواء من قريب أو من بعيد، بخاصة في ما يتعلق بتشريعات المسيحيين، بحسب الدكتور محمد عبدالعاطي رئيس كلية الدراسات الإسلامية في الأزهر، وأن كل ما يثار في هذا الشأن تهويل وتزييف للحقائق، الأزهر لا يتدخل إلا في شؤون المسلمين. يقول عبدالعاطي لرصيف22: "إن البعض يحاول التدخل في الأوراق، إذ يطلب إتاحة التبني لجميع المصريين وهو ما يرفض الأزهر تطبيقه على المسلمين، أما إذا كان لغير المسلمين فليست لنا سلطة تدخل أو فرض رأي". ينتظر المسيحيون مِمَن لم ينجبوا بمعظمهم أن يُشرّع قانون يجيز التبني لهم تحته، حتى لو كانت الشروط مجحفة وصعبة في مقابل الشعور بالأمومة والأبوة، وفي الوقت ذاته يحد من الإتجار بالبشر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون