في منزلها الكائن في منطقة المزة في دمشق، تجلس بثينة العقادي، بجانب شجرة عيد ميلاد صغيرة صُنعت قاعدتها من "فراغة" طلقة صاروخية، وبين دموع وابتسامات تملأ وجهها، تقول: "هذا ما خرجت منه من منزلنا المهدَّم في حرستا في ريف دمشق بعد زياتي له في آخر مرة".
تجمع الفتاة الثلاثينية جميع ذكريات طفولتها هي وأخوتها في هذه القطعة النحاسية، لذلك في كل عام تضعها لتذكّر نفسها وعائلتها بأن "الحياة ممكنة"، وبأن "الأمل لا يزال موجوداً".
تقول بثينة لرصيف22: "أقنعتنا الجدات بأن ‘سانتا كلوز’ يأتي قبل الفجر عادةً، حين ننصب شجرة العيد، يترك هداياه لأطفال المنزل، ويسير بعربته التي تجرّها الخيول المجنحة، وقالوا أيضاً إن شجرة الأمنيات تحقق ما يُعلَّق عليها من آمال، لكن هذا لم يحدث. فمنذ عام 2011، لم يأت سانتا ولم تحقق الشجرة أي أمنية؛ أخي قتلته رصاصة طائشة على الطريق العام، ولم تعد أختي التي أصبحت في ألمانيا بعدما فضّلت ركوب زورق الموت بحثاً عن حياة جديدة مع أطفالها وزوجها".
"في الماضي، كان والدي يضع لنا شجرةً كبيرةً نعلّق عليها جميع أمنياتنا ونزيّنها بأحدث الزينات التي تباع في الأسواق، ولكن اليوم وبعد الحرب والحصار والوضع الاقتصادي السيئ، بتنا نضع آمالنا على ما خلّفته الحرب على أمل الاستمرار"، تروي بثينة التي لم تظهر على محياها أي إشارة توحي بأنها تنتظر العيد.
تتراوح أسعار أشجار العيد بين 600 ألف ومليون ونصف مليون ليرة، أي ما بين 100 و250 دولاراً أمريكياً
إصرار على الحياة
تزينت شوارع سوريا بعدما وضعت الحرب أوزارها، فبالأمس نظم فندق الداماروز، حفلاً لإضاءة شجرة ميلاد من صنع يدوي ارتفاعها 33 متراً وافتتاح مغارة مساحتها 400 متر مربع تُعدّ أكبر مغارة في الوطن العربي.
تأتي الاحتفالات هذا العام في محاولة للقول إن "السوريين يريدون الحياة"، بالرغم من الوضع الاقتصادي الصعب، فلا محروقات ولا كهرباء بالإضافة إلى توقف الكثير من المنشآت الصناعية والتجارية عن العمل، والحكومة السورية أيضاً أصدرت قرارات بتعطيل جميع العاملين والطلاب نتيجة شح وسائل الطاقة التي تُعدّ العمود الفقري للبلاد.
أشجار الميلاد والزينة كمختلف السلع، ارتفعت أسعارها هذا العام، فبات الشعور بالعيد ترفاً لا يملك الفقراء وأولادهم إليه سبيلاً، فسعر كرة الزينة الواحدة، وفق ليلى المحسن التي تعمل في الأشغال اليدوية، يصل في بعض الأحيان إلى أكثر من ستة آلاف ليرة، أي ما يعادل دولاراً واحداً، ما يعني أن سعرها تضاعف مرتين أو أكثر عن العام الماضي.
تقول المرأة الأربعينية لرصيف22، إن "الشجرة الواحدة تحتاج أقله إلى 20 طابةً من هذا النوع، فيما يصل سعر النجمة التي تزيّن رأس شجرة العيد إلى ثلاثين ألفاً أي ما يعادل 5 دولارات، في حين يمكن أن يصل سعر شجرة الميلاد المتوسطة الحجم إلى 600 ألف ليرة، أي ما يعادل 100 دولار".
تحايل على الواقع
من باب التحايل على الصعوبات المعيشية، قررت خلود خضور، وهي معلمة رسم، هي وطلابها في المرحلة الإعدادية صناعة مواد لزينة الشجرة، لا تحتاج إلى إضاءة، ومصنوعة من مواد شديدة اللمعان أو حاملات شمع آمنة، كي لا تتسبب في حريق.
تقول خلود لرصيف22: "جمعنا أكبر كم من الأضوية المحروقة والنيونات الطويلة التالفة، وصنعنا منها شجرةً من خلال استخدام مادة لاصقة لتثبيتها بشكل جيد، وبذلك وفّرنا سعر الشجرة الذي تجاوز المليون ليرة سورية. أما بالنسبة إلى الزينة فاستخدمنا الورق المقوّى لصنع العديد من الأشكال ضمن الإمكانات المتاحة لنا، فنحن نحاول أن نوفر مواد الزينة وبأساليب جديدة ومظهر جميل من دون الحاجة إلى كهرباء، وكانت النتيجة شجرة عيد ميلاد من النفايات بهيكل جميل".
جمعنا أكبر كم من الأضوية المحروقة والنيونات الطويلة التالفة، وصنعنا منها شجرةً من خلال استخدام مادة لاصقة لتثبيتها بشكل جيد، فنحتفل بالعيد ولا ننتظر الكهرباء
تتراوح أسعار أشجار العيد بين 600 ألف ومليون ونصف مليون ليرة، أي ما بين 100 و250 دولاراً أمريكياً، ويمكن تزيين الشجرة بمبلغ لا يتجاوز 300 ألف، أي ما يعادل 50 دولاراً، كما يمكن وضع مغارة تحت الشجرة، وهو تقليد مسيحي يرمز إلى المكان الذي وُلد فيه السيد المسيح في بيت لحم في فلسطين، بتكلفة تتراوح بين 150 و250 ألف، أي ما يعادل 40 دولاراً.
وهذه أسعار غير مقبولة ومرتفعة جداً وفق رأي إلياس (45 عاماً)، وهو ما دفعه إلى وضع الزينة القديمة التي توجد في المنزل، مع إدخال بعض التعديلات اليدوية عليها، ووهي تعديلات صنعتها زوجته من كؤوس البلاستيك والكرتون.
"سنوات عجاف تمرّ على أطفال في هذه البلاد وكبارها، بسبب عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والمعيشي، فارتفاع الأسعار يضعنا على المذبح، ويقضم من أجسادنا قبل أرواحنا، لذلك بدلاً من أن نشتري زينةً بكلفة مرتفعة، نفضل شراء الحلويات التي نقدّمها في العيد بالرغم من أن كلفتها تتعدى ما نتقاضاه من رواتب شهرية"، يقول إلياس لرصيف22.
بحسب آخر الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء، فقد بلغ معدل التضخم في سوريا 163.1 في المئة في عام 2020
وضع اقتصادي سيئ
وكان اقتصاديون قد حذّروا من وصول التضخم في الاقتصاد السوري إلى مرحلة التضخم الجامح، وهو الشكل الأكثر ضرراً للاقتصاد، بسبب الارتفاع السريع والمتواصل في المستوى العام للأسعار، ما يؤدي إلى فقدان المال قيمته الشرائية.
وبحسب آخر الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء، فقد بلغ معدل التضخم في سوريا 163.1 في المئة في عام 2020، ومن المتوقع أن يتجه معدل التضخم في سوريا نحو زيادة بنسبة 12 في المئة في عام 2022، و9.80 في المئة في عام 2023، وفقاً لنماذج الاقتصاد القياسي، كما انخفضت قيمة الليرة السورية بمقدار عشرة أضعاف خلال السنوات السابقة، إذ بلغ سعر الصرف اليوم نحو 6 آلاف ليرة سورية للدولار الواحد، بالإضافة إلى ذلك ارتفع معدل البطالة في سوريا إلى أكثر من 60%، ويعيش نحو 90% من السكان داخل البلاد تحت خط الفقر.
وتشكّل الأعياد على اختلافها مناسبات أخرى للمزيد من الغلاء في أسعار المستلزمات المرتبطة بها، والتي ترتفع عن أيام السنة الأخرى كون الأعياد موسماً للشراء بكثافة، وازدادت هذه الأسعار بشكل كبير مقارنةً بعيد الميلاد الفائت.
الظروف السيئة دفعت بجورج وليندا إلى ابتكار طريقة جديدة للاحتفال بالميلاد، فعلّقا شريط إضاءة على الحائط على شكل شجرة، فماذا ابتكر غيرهم؟
هذه الظروف السيئة دفعت بجورج وليندا إلى ابتكار طريقة جديدة للاحتفال بالميلاد، فقد قررا تعليق شريط إضاءة على الحائط على شكل شجرة. يقول جورج لرصيف22: "دفعنا 10 آلاف ليرة ثمن الشريط الأخضر، و15 ألفاً ثمن الشريط الكهربائي، وصنعنا نجمةً كبيرةً وخمس طابات حمر من الكرتون المقوّى، أي أن كلفة شجرتنا المتواضعة نحو 25 ألف ليرة، بالرغم من أنّي كنت أتمنّى وضع شجرة الميلاد في بيتنا، ولكن أعمل في محل لبيع الأكسسوارات، بينما تعمل ليندا مدرسة أطفال، ومجموع راتبينا لا يزيد على 500 ألف ليرة، ونحتاج إلى مدخولنا كله لنضيء شجرةً حقيقيةً في هذه الأيام المرّة".
يبدو عيد الميلاد هذا العام مختلفاً في المدينة التي يُخيّم عليها الظلام، ويثقل كاهل أهلها ضيق الحال، وصعوبة تأمين لقمة العيش اليومية، فمحاولات التزيين أو وضع أشجار العيد وربط حبال الضوء الملونة، تشبه وضع مساحيق تجميل لجثة هامدة"، فأي عيد نمضيه بلا كهرباء ولا فرح؟ من دمشق إلى بقية المحافظات السورية ينتقل مشهد العيد الحزين، ويمكن التقاط صور واضحة عن المأساة التي يحاول السوريون تحويلها إلى أفراح صغيرة يتقاسمونها في أيام العيد، وأحياناً لا يستطيعون ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...