يمكنك أن تراقب أي زائر لمعرض فني، أو أن تتأمل شخصاً يقف أمام لوحة، ثم توجه إليه السؤال البسيط: ما رأيك بهذه اللوحة؟
في غالب الظن، وهذا الظن ليس اعتباطياً بقدر ما هو نتيجة لسماع الكثير من الإجابات، فإنك ستحصل على إجابة من نوع: إنها ترمز إلى الحرب، أو يريد الفنان هنا أن يقول كذا وكذا، أو هذه العين تعني الحرية، وهذا النهر يعني المجهول. ستحصل على إجابات مبنية على تحليل سياسي أو رمزية لاهوتية، لكنك في حالات نادرة يمكنك أن تتعثر بشخص يشرح لك ما يرى باستخدام مصطلحات علم الجمال. قلائل هم من يجيبون انطلاقاً من فهم اللون أو التحيز للفراغ أو كره الظل. يقضي الفنان شهراً وهو يحاول خلط لونين، ويستغرق المشاهد العربي دقيقةً واحدةً ليحسم الأمر: لوحة جميلة ترمز إلى الانتصار.
مقابل هذه الخطوة، وكما تقول التسريبات في ذلك الوقت، بدأ الضغط على إدارة النادي لضم اللاعب الليبي، وابن الزعيم، الساعدي القذافي.
لماذا نفعل ذلك بثقة عالية؟ نفعله لأننا لسنا فنانين. لم نحصل على تدريس يؤهلنا لفهم الفن التشكيلي. لم يقل لنا أحد جملةً واحدةً عن تاريخ هذا الشيء، ولا عن مدارسه وروّاده. لذلك فإننا نقف مبهورين محتارين أمام اللوحة، ثم نستخدم مصطلحاتنا التي اكتسبناها في الحقل أو في الطريق إلى البقالة، فلا أحد يستخدم مصطلحاً لا يعرفه، ولا أحد يشرح شعوراً لم يجربه.
على العكس من ذلك، فإننا نملك ما يكفي من مصطلحات الشعر، الذي هو ديوان العرب، كما قيل ويقال. نستطيع بالشعر أن نغزو العالم، ونستطيع أن نتحايل به وعليه، وأن نختصر وأن نكثّف وأن نطرب لسماعه وأن نشير إلى مواطن الخلل في القصيدة. وحين نصف قصيدةً بأنها جميلة نستطيع الشرح بلغة ومصطلحات مقنعة لِم هي كذلك.
كرة القدم تشبه الفن التشكيلي، أو اللوحة، أكثر مما تشبه الشعر. على الأقل في ما يخص امتلاكنا فنيّاتها ومصطلحات نقدها وتشجيعها. ليس لها تاريخ عريق في منطقتنا، كما للشعر، ولم تلتفت إليها الحكومات أو تستثمر فيها لتصبح من ثقافتنا اليومية ومنظومة معارفنا.
كرة القدم تشبه الفن التشكيلي، أو اللوحة، أكثر مما تشبه الشعر. على الأقل في ما يخص امتلاكنا فنيّاتها ومصطلحات نقدها وتشجيعها. ليس لها تاريخ عريق في منطقتنا، كما للشعر، ولم تلتفت إليها الحكومات أو تستثمر فيها لتصبح من ثقافتنا اليومية ومنظومة معارفنا
لهذه الأسباب ولغيرها مما يخص أولويات الفرد وانشغالاته، نجد أن مشجعي كرة القدم في أوطاننا من الفئة التي يُطلق عليها عالمياً "مشجعو التلفاز". هذه الفئة العريضة اكتسبت اهتماماتها الرياضية بالتداعي وبالتراكم، لكيلا نقول بالتقليد والغيرة، ومن دون ارتباطات أو مصالح حقيقية بينها وبين النادي أو المنتخب الذي تختار تشجيعه.
ولأن التشجيع الحقيقي بدأ في الملاعب، وعلى مدرجاتها، كان من الطبيعي أن تخاف الحكومات من احتشاد جماهير لا يمكن السيطرة عليها وعلى هتافاتها، وتالياً عدم وجود ملاعب مؤهلة لاستقبال آلاف البشر، أفضل للدولة وأقل وجعاً للرأس. لكن الحكومات انتبهت، في مرحلة ما من القرن الماضي، إلى فكرة العائد المادي الذي لا يمكن إغفاله، فبدأت بالاستثمار في الخارج. كان من أوائل المستثمرين في سوق كرة القدم الخارجية الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، أو الحكومة الليبية، إن شئنا استخدام لغة الصحافة.
ولأن التشجيع الحقيقي بدأ في الملاعب، وعلى مدرجاتها، كان من الطبيعي أن تخاف الحكومات من احتشاد جماهير لا يمكن السيطرة عليها وعلى هتافاتها.
استثمرت الحكومة الليبية في نادي يوفينتوس الإيطالي بأسهم معتبَرة، تخولها أن تكون شريكاً في استقدام لاعبين وعقد صفقات. لكن في مقابل هذه الخطوة، وكما تقول التسريبات في ذلك الوقت، بدأ الضغط على إدارة النادي لضم اللاعب الليبي، وابن الزعيم، الساعدي القذافي. والساعدي هذا كان لاعباً لا يستطيع أي حكم مخالفته، إلى درجة أنه كان يحرز الأهداف من تسلل واضح ويتم احتسابها. وفي إحدى الطرائف الليبية التي لا أدري مدى صحتها، فإن الساعدي أحرز هدفاً وهو في موقع تسلل، ثم خلع قميصه وبدأ بالاحتفال، لكن حكم الراية كان قد رفع الشارة معلناً عن التسلل، في المقابل لم يقم حكم الميدان بإطلاق صافرته، فذهب حكم الراية إلى حكم الميدان وقال له: ألم ترَني وأنا أرفع الراية؟ هذا الهدف تسلل فكيف تحتسبه؟ رد حكم الميدان: ألم ترَه أنت وهو يخلع القميص ويحتفل، هل تريدني أن أفسد عليه فرحته؟
لا أريد إطلاق الأمثلة في مناطق عربية أخرى، فكل منكم لديه مثاله الخاص، من عدي صدام حسين كرئيس للاتحاد العراقي لكرة القدم لثلاث دورات، وفي آخر هذه الدورات استمر ثلاثة عشر عاماً، إلى اللقطة اليتيمة التي تم بثها في افتتاح مونديال قطر، والتي يظهر فيها الأمير الأب يلعب الكرة مع أقرانه على الرمل، ثم يقوم بعد ستين عاماً بتوقيع قميصه أمام حشود المونديال. بين هذا وذاك توجد عشرات الأمثلة التي تبيّن تحكم الدولة، على الأقل في القرن الماضي، بكرة القدم بما لا يسمح للمهتم العادي بأن يشاهدها إلا بمعايير الدولة. أريد فقط أن أركّز على الساعدي القذافي الذي وبسبب هتافات طالته من جمهور النادي الأهلي في بنغازي عام 2000، قام النظام، يومها، باستخدام الجرافات لتسوية الملعب وكل مرافق النادي بالأرض، ناهيك عن الاعتقالات بين صفوف المشجعين في الملعب والمتواجدين صدفةً في المكان.
لقد كان هذا حال كرة القدم في بلادنا حتى السنوات الأخيرة، مما جعلنا متفرجين عليها عبر التلفاز لا مشجعين في الملاعب. نحن إذاً متفرجون، ولا يمكن إطلاق مصطلح مشجع على شخص يهتف في بيته أو في المقهى لناديه في مدريد أو مانشستر، بالرغم من أن هذا الاستنتاج يخالف ما ورد في الكتاب الأخضر للزعيم نفسه، والذي يعرّف فيه كرة القدم وغير كرة القدم بجملة "الرياضة نشاط عام ينبغي أن يُمارَس، لا أن يُتفرج عليه".
نحن إذاً متفرجون، ولا يمكن إطلاق مصطلح مشجع على شخص يهتف في بيته أو في المقهى لناديه في مدريد أو مانشستر
ولأننا متفرجون على شيء ليست له جذور قوية في وعينا الثقافي، فإننا نغرف من سلة مصطلحاتنا السياسية والدينية، ونستخدم ما نغرفه باصطفافنا مع هذا النادي أو ذاك، أو مع هذا المنتخب أو المنتخب المنافس. الأولوية للعرب المسلمين ضد أي منتخب إفريقي؛ مع السنغال ضد كوريا الشمالية مثلاً لحسابات طبقية، ثم مع كوريا ضد إسبانيا بحكم أن إسبانيا من أوروبا الاستعمار، ومع إسبانيا ضد هولندا لأن إسبانيا أفقر، ومع هولندا ضد فرنسا بسبب ماكرون... وهكذا. من النادر أن تجد من يقول: أنا أستمتع بتمريرات مودريتش الطويلة الملتوية، وأنا أندهش من حركة القدم اليسرى لياسين بونو أمام ضربة الجزاء، وأنا أقرّ بأن ميسي مراوغ عظيم لكن القادم فينيسيوس، وأنا أرى أن أوناحي يلعب بكامل جسده، أو ما أجمل التوقف المباغت لبوكايو ساكا.
لا أريد التوقف المباغت عند هذه الجملة، فالكتابة أحياناً تريد إسعاد نفسها، فهي كالفن أيضاً يمكنها أن تكون من ذاتها لذاتها. لذلك سأختم لكم هذا المقال بطرفة عن الساعدي القذافي "ما غيره": بعد أن رفضه النادي الإيطالي يوفينتوس، صار يضغط هنا ويوظف أمواله هناك إلى أن قبل به أحد النوادي الصغيرة في إيطاليا، وأبرم معه عقداً لأربع سنوات. طبعاً الساعدي هو من دفع ثمن نفسه في العقد لصالح النادي وليس العكس. كل هذا لا يهم، المهم أن اللاعب الموهوب جلس على دكة الاحتياط مدة أربع سنوات، من دون أن يشارك إلا في عشر دقائق من الشوط الثاني، في مباراة كان النادي قد ضمن الفوز فيها بفارق جيد من الأهداف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين