تسعون دقيقة يلعبها فريق الكرة هي ثمرة المئات من ساعات التدريب. والعمل الأدبي المنشور هو ما يستخلصه الكاتب من ركام المسودات. قال بهاء طاهر إن مسودات روايته القصيرة "قالت ضحى" تبلغ حجم رواية تولستوي "الحرب والسلام". وقد يصور مخرج مئة ساعة، ويأتي فيلمه الوثائقي في تسعين دقيقة. وتخطيط عابر لفنان تشكيلي يلخص عمرا من الخبرة. قيل إن بيكاسو كان يتناول القهوة، ورسم على منديل ورقي فنجانا تنسكب منه القهوة على طاولة. فكرة لعلها طارئة طلب لقاءها مبلغاً كبيراً من فتاة أرادت شراء "الورقة". جادلت الفتاة بأن "الرسمة" استغرقت منه دقائق، فقال إنها كلفته ستين سنة، لكي يرسمها في بضع دقائق.
في كرة القدم والكتابة تتشابه المهارة. كلتاهما لعبة. فن يتمرد على قانون الطبيعة، طبيعة الجاذبية الأرضية واحتيال القدم في لمساتها للكرة، وطبيعة الكلمات. هناك لاعبون تبدأ حياتهم وتنتهي من دون ترك بصمة تدل عليهم، يشبهون السابقين والمعاصرين. أما أصحاب البصمات فعابرون للعصور. البعض تستهويه المراوغة، إدمان الترقيص. لاعب الزمالك حمادة عبد اللطيف، والبرازيلي دينلسون.
كنت أستمتع بدقائق يلعبها دينلسون بديلاً، في نهاية مباريات مونديال 1998 و2002. دقائق مثل شامة في الخد. وعشرون شامة تشوّه الوجه. الإفراط الترقيصي لدينلسون لم يفد فريقه، قلما يتذكره أحد، على العكس من رفاقه: كافو، روبرتو كارلوس، دونجا، كاكا، ريفالدو، رونالدو، رونالدينيو. اقترنت مهاراتهم بإحراز الأهداف.
الاستعارات والمحسنات والشحوم البلاغية تثقل النصوص، وتؤكد الحضور الخشن لكتاب يحلو لهم الاستعراض، ويفتقدون فضيلة إخفاء سرّ الصنعة، حتى أكاد أسمع صرير القلم أو نقرات لوحة المفاتيح. يصيبون السرد بتصلب الشرايين، وأحياناً الانسداد الذي يُعيق تدفق الدراما. خالٌ واحد في الخدّ يكفي، المهم أين يوضع، فيصير علامة على الحسن.
فؤاد حداد ونجيب محفوظ وماركيز وسعدي يوسف وأدونيس لم تنضب آبارهم. وآرثر رامبو أنهى، في سن الشعرين، رسالته. هجر الشعر إلى إفريقيا، وأجاب ناشره بأنه باق في الحبشة للبحث عن لغة لم تلوثها العادة. المغادرة في الذروة تصون الكبرياء
والكلمات المجردة خرساء، محايدة، ملقاة في المعاجم مشاعة للجميع، لكنها في الموضع المناسب تنبض بالحياة، وتكتسب قبساً من روح الكاتب، كأننا نقرؤها للمرة الأولى. والكرة لعبة يجب أن تُمتع اللاعب أولاً، متعة تسبق إحراز الهدف وتحقيق الفوز. هذا هو الفرق بين لاعبي البرازيل ولو خسروا الكأس، والفريق الألماني ولو أحرز البطولة.
الكرة والكتابة لعبة
الكرة والكتابة لعبة، اقتراح جمالي، حَرفنة تحتاج، بعد الموهبة، إلى طاقة تصهر المهارة، فلا تكون الكرة مجرد كرة في أي قدم، ولا الكلمات كلاماً يكتبه أي أحد. الجمهور وحشٌ، مستعد لطيّ الصفحة، ولا يتمتع بالرحمة إلا مع تاريخ اللاعب والكاتب. وفي المباراة الجديدة والنص الجديد لا شفاعة لماضي اللاعب والكاتب. يتوسل كلاهما بالحيوية والإمتاع، وليس بالتاريخ. الرصيد لا يغني. كل مباراة هي الأولى، محسومة بزمنها، ولا استجداء شفقة. وكل نص جديد يسبقه التوتر والرهبة، ويلازمه قلق النص الأول. الاطمئنان واليقين بداية النهاية. والاعتزال في الوقت المناسب يحفظ الكرامة، ويبقي بهاء الصورة في الذاكرة. اختيار توقيت انصراف اللاعب والكاتب ذكاء وشجاعة.
أجاد يحيى حقي اختيار توقيت الاعتزال. أرهقته كتابة القصة، فاكتفى بالقليل الباقي. وكذلك الطيب صالح. يعيش الكاتب بعمل واحد مختلف. ويموت غيره وهو حي لا يسند قامته أربعون كتاباً. لا قاعدة للعبة، ولا للفراغ منها. فؤاد حداد ونجيب محفوظ وماركيز وسعدي يوسف وأدونيس لم تنضب آبارهم. وآرثر رامبو أنهى في سن الشعرين رسالتَه؛ هجر الشعر إلى إفريقيا، وأجاب ناشره بأنه باق في الحبشة للبحث عن لغة لم تلوثها العادة. المغادرة في الذروة تصون الكبرياء. الراحلون في شبابهم لا يشيبون في الصور، وتعجز الإطارات عن سجن أرواحهم، فيزدادون ألقاً. ويموت كاتب يحزق، ويستبدل بالإفلاس قصاقيص منسية، يبحث عنها في أركان الورشة.
"لازم تعرف إن البروفة هي مطبخ الأغنية، فيها يتم تبادل الرأي في الجملة الموسيقية، وتدور مناقشات قد تحتد، وما يراه أو يسمعه المشاهد يكون بعد التلميع، وعبد الوهاب لا يحب أن يطلّع أي غريب على أعماله قبل نشرها"
المعرض يختلف تماماً عن الورشة. ما يبدو تلقائياً على شاشة السينما، وفي الملعب والكتابة، هو حصاد جهد كبير. وتتحقق المتعة لمشاهدي الأفلام وكرة القدم، وللقراء، بإخفاء التعب. قال يحيى حقي: "لا أحد يحب أن يرى عرق العامل وهو يعمل". وعرق فنون الكتابة والكرة هو التدرّب. لا المشاهدون ولا القراء مستعدون لتقاسم عبء التدريب. اللاعب والكاتب لا يحب الاطلاع إلا على المنتج النهائي، ما قبله عورة. حكى كمال الطويل أنه كان يعمل مدرساً للرسم، وتعرف بعازف الكمان أنور منسي والملحن رؤوف ذهني، وكان مديراً لمكتب محمد عبد الوهاب، وطلبا إليه زيارتهما في معهد فؤاد الأول للموسيقى (معهد الموسيقى العربية الآن) بالقاهرة.
البروفة مطبخ الأغنية
ذهب كمال الطويل إلى المعهد، وجذبت أذنيه موسيقى تعزف، ففتح الباب ودخل من دون استئذان. كان عبد الوهاب والفرقة في بروفة أغنية "اتمخطري واتمايلي يا خيل" التي غنتها ليلى مراد في فيلم "غزل البنات". جلس الطويل منبهراً، وإذا بعبد الوهاب يوقف البروفة، وينظر ناحيته بضيق، فأسرع أنور منسي يهمس في أذن الطويل الذي أحس بالحرج، وغادر مكسور الخاطر.
بعدها قال له منسي: "لازم تعرف إن البروفة هي مطبخ الأغنية، فيها يتم تبادل الرأي في الجملة الموسيقية، وتدور مناقشات قد تحتد، وما يراه أو يسمعه المشاهد يكون بعد التلميع، وعبد الوهاب لا يحب أن يطلّع أي غريب على أعماله قبل نشرها".
ثم تكرر الموقف في المكان نفسه، مع تبادل للأدوار بين عبد الوهاب وكمال الطويل الذي كان يجري بروفة لحن أغنية "غريب على باب الرجاء" لأم كلثوم. فتح عبد الوهاب الباب ودخل، وتوقع أن ترحب به أم كلثوم، لكنها لم تفعل، وتوقفت البروفة لكي يخرج عبد الوهاب. همّ الطويل أن يرحب بالأستاذ، ويدعوه إلى حضور التسجيل، فنبّهته أم كلثوم بلكزة في ساقه.
وبعد ذهاب عبد الوهاب، قالت له أم كلثوم: "اللحن اتشمّ يا كمال". والكلمة، في السياق الشعبي المصري، تعني التطيّر، حتى إن الطويل فترت حماسته للحن، ولم يحبه، وانتقل شعوره إلى أم كلثوم. وظلت الأغنية محجوبة أكثر من ربع قرن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع