شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
في هجاء

في هجاء "أفعَل التفضيل"... تذبذب الآمال بمناسبة المونديال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 15 ديسمبر 202204:10 م

زعلي من استبعاد اللاعب البرازيلي روبرتو فيرمينو من المشاركة في مونديال 2022 لم يمنعني أن أتمنى التوفيق لمنتخب بلاده. لكن الفريق خرج مهزوماً بضربات الجزاء أمام كرواتيا، فتجدد الاستياء. نريد البرازيل في المباراة النهائية لاكتمال المتعة. الفوز ليس بالتمني، لا مجال للتقوى أو حسن النية في المباريات. الحرية تثمر الثراء، ووفرة البدلاء، والقدرة على الفرز واختيار الأنسب. والاستبداد يمنع الهواء، فيحار المدير الفني في البحث عن عناصر تشكّل فريقاً جيداً.

ومباريات كأس العالم محفل عنوانه الديمقراطية شبه المطلقة، وشفافية تدخل فيها التكنولوجيا والجماهير طرفاً في الحكم على حكام المباريات أنفسهم. تسعون دقيقة تحت المجهر، يتنافس فريقان في حوار الرؤوس والأقدام.

المونديال لذة الفقراء، فاكهة حلال تكسر احتكار رأس المال المتوحش الحاكم للأندية الرأسمالية الكبرى، يبيع ويشتري ويعير، ويجعل اللاعبين أشياء، تروساً إنتاجية في آلته الاستثمارية. وفي المونديال يتوارى ذلك، وتحضر البهجة. حتى في ظل التنافس الاستعماري، وبعده عقود الحرب الباردة، كان فقراء الهامش البشري يصولون في المونديال، ويتوّجون أبطالاً عالميين.

لعل كأس العالم استثناء ينتقم به الجنوب من قبضة المركزية الأوروبية سارية المفعول. يحقق المونديال لفقراء أمريكا اللاتينية وإفريقيا الصعود إلى المسرح، وتمثيل أدوار الملوك والفرسان، وتصفق الجماهير المحلية بدافع الحماسة الوطنية وجماهير العالم إعجابا بالمهارات الاستثنائية. ينتهي العرض، فيخلع الممثل ثياب الملك، ويرجع إلى الخضوع لإكراهات ما قبل المسرحية.

يتفنن الإعلام المحلي في ترديد "أفعل التفضيل"، عزاء للذات المهزومة.  فمنتخب تونس "أول" فريق عربي يهزم الفريق الفرنسي البطل السابق للمونديال، ومنتخب المغرب "أول" فريق عربي وإفريقي يتأهل للمربع الذهبي، و منتخب السعودية "أول" فريق آسيوي وعربي يهزم الأرجنتين

ملوك اللعبة، بفائض المهارة، يأتون وهدفهم البطولة، أو بلوغ المربع الذهبي. يحتكمون في هذا "اليقين الرياضي" إلى التاريخ وإلى الحقائق في الملعب. والمنتخبات العربية، لأسباب تاريخية ولحقائق عمومية، غايتها المشاركة في المونديال.

ويتفنن الإعلام المحلي في ترديد "أفعل التفضيل"، عزاء للذات المهزومة. سأتخذ مونديال قطر 2022 مدخلاً ودليلاً. في الدور التمهيدي: منتخب تونس "أول" فريق عربي يهزم الفريق الفرنسي البطل السابق للمونديال. منتخب المغرب "أول" فريق عربي وإفريقي يتأهل للمربع الذهبي، بعد الفوز على إسبانيا ثم البرتغال. منتخب السعودية "أول" فريق آسيوي وعربي يهزم الأرجنتين. المكسيك هزمت السعودية في الدور التمهيدي، فخرجا معاً، وكان الخبر: "السعودية تقصي المكسيك من البطولة!".

لا يصح إطفاء فرحة الفوز بمباراة على فريق كبير: حالم بالتتويج كالأرجنتين، أو حامل لقب مونديال 2018 كفرنسا، أو إقصاء الفريق الإسباني بطل مونديال 2010. لكن المونديال، والرياضة عموما، أكبر من جولة، ليست معركة خاطفة يتحقق فيه نصر مستحق أو بسبب ظرف لا يتكرر. لا وجود لضربة قاضية. النتيجة تحددها محصلة الجولات، ففي نهاية الدور التمهيدي صعد الكبار، وإن وجد استثناء مثل خروج ألمانيا فهو يؤكد القاعدة. المونديال والحياة عمل متصل، طويل الأمد. حتى الحروب العسكرية تحتمل كبوات، معارك خاسرة. قصار النظر فقط، ممن ماتوا قبل نهاية الحرب الأوروبية الثانية، تأكد لهم الانتصار النهائي لهتلر. وكان للتاريخ وحقائقه منطق آخر.

نفي مفهوم الاستحالة

مونديال قطر ينفي مفهوم الاستحالة. نجحت دولة عربية في تنظيم البطولة. وتمكنت منتخبات المغرب وكوريا الجنوبية واليابان وكرواتيا من كسر الاحتكار التقليدي لكرة القدم. إرادة كرواتيا صمدت أمام البرازيل وأزاحتها. والمغرب صعد إلى الدور ربع النهائي بإقصاء إسبانيا. ليلة تجاوز المغرب عقبة إسبانيا بضربات الجزاء قلت لأصدقائي إن الفوز على البرتغال أيسر. وبعد شبه الجزيرة الإيبرية من يدري؟ الحالة المغربية استثنائية. لا شيء يأتي مصادفة. ربما تقع المصادفة مرة أو مرتين، لكنها لا تتكرر. التكرار قصْد وعزيمة، وعمل شاق يترجم المشاريع النظرية إلى نتائج. وما حققه المغرب إنجاز يرفع سقف الطموح الجنوبي إلى تحدي المركز الأوروبي واللاتيني في كرة القدم.

العرب ككتلة واحدة

كما أثبت المونديال حقيقتين: الأولى هي وحدة قلوب العرب. مستشرقون عرب وليبراليون جدد حاولوا، في العقود السابقة، تسفيه هذه الحقيقة، والسخرية منها، زاعمين ارتباطها بالمد العروبي الذي كان يجسده وجود جمال عبد الناصر وهواري بومدين. حاولوا نزع البعد الإنساني عن هذه الحقيقة، واختزالها في ظرف سياسي لا يستعاد. في المونديال نظر العالم إلى العرب ككتلة واحدة. تفوز تونس فيتلقى مصريون التهنئة من طلبة ماليزيين في القاهرة. ويصعد المغرب فيهنئون يمنيين وسوريين يصادفوهم، ويهنئ المصريون بعضهم بعضاً. والحقيقة الثانية هي انكشاف عورة دعاة التطبيع. فلسطين في القلب. القضية أكبر من فلسطين. هي جرح في الضمير العالمي. تأكد ذلك لممثلي إعلام العدو.

إذا نال لاعبون مسيحيون موهوبون فرصا عادلة، في الأندية المحلية العربية، ستتراجع الكراهية، ونضمن منتخبات طموحها يتجاوز أفعل التفضل

الإنجاز الكروي لفريق المغرب سما بالآمال العربية. قبله كانت الخشية أن نتعزى بانتصارات صغيرة، عابرة، تشغلنا عن رؤية حقيقة مكاننا على الخريطة. لا يزال لاعب مصري فخوراً بهدف أحرزه، من ضربة جزاء في مونديال إيطاليا 1990. هدف يتيم هو حصاد مصر من ثلاث مباريات انتهت بهزيمة وتعادلين وتغيير قانون كرة القدم. كان الأداء المصري هزيلاً. تلخصت خطة المدير الفني محمود الجوهري في تكتل الفريق في نصف ملعبه، لمنع وصول الكرة إلى المرمى، مع حلم بانتهاز هبة لا تمنحها السماء للكسالى، لخطف هدف من هجمة مرتدة. نجحت الخطة الدفاعية. اعتمد "الجنرال" الجوهري على "تعقيد" الخصم، وحرمانه من اللعب المتكافئ وتسجيل الأهداف.

المحاصصة الدينية

في مونديال 1990 تندر العالم بأننا نريد "تحنيط كرة القدم". أرادوا الإشارة إلى أننا خارج هذا العصر. وفي مباراة أيرلندا التي انتهت بتعادل مصر بهدف من ضربة الجزاء، أصيب جاك تشارلتون المدير الفني لمنتخب أيرلندا باليأس، فاجأته إضاعة لاعبي مصر للوقت بإعادة الكرة إلى الحارس، وتمنى أن يفكوا عقدة المباراة ولو سجلوا هدفاً في مرمى أيرلندا، وتساءل: "المصريون لم يصنعوا فرصة واحدة، فإذا كانوا لا يريدون لعب الكرة، فلماذا جاءوا إلى إيطاليا؟". وبسبب خطة الجوهري، عدّل الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) القوانين، باحتساب إعادة الكرة إلى حارس المرمى خطأ إذا أمسكها، لمنع الحارس من إضاعة الوقت بالاستحواذ المتكرر على الكرة.

منذ انضمام محمد صلاح إلى نادي ليفربول، صيف 2017، تراجعت معدلات الجريمة في المنطقة، وانخفضت المنشورات ضد الإسلام بمدينة ليفربول بنسبة 50%. وتوصلت جامعة ستانفورد إلى انخفاض جرائم الكراهية بنسبة 19%

في مونديال 1990 ضم الفريق المصري اللاعب المسيحي هاني رمزي. جذب الأنظار، فكان أصغر مصري يشق طريقه إلى الاحتراف الأوروبي. الآن يخلو منتخب مصر من المسيحيين. أرفض المحاصصة الدينية، وأرفض التعصب الديني الاجتماعي، وهو مرتبط بالاستبداد السياسي، كلاهما يغذي الآخر ويستفيد منه. الملاعب الرياضية لا تختلف عن احتقان ينتهي بتهجير مسيحيين لا يجدون كنيسة، فيؤدون الصلاة في بيت أحدهم، فيرشقهم مسلمون بالحجارة، غيرة على الإسلام.

وينتهي المشهد بعقاب الضحايا. في ظل الاستبداد تغيب الشفافية والمساءلة، فلا يحاسب مسؤول استبعد لاعبا موهوبا بسبب دينه. هذا المسؤول نفسه تنفر عروق رقبته احتجاجا على عنصرية تمسّ لاعبا مصريا أو مسلما في الأندية الأوروبية.

قبل سنوات، شاهدت مقطع فيديو عن الآثار الإيجابية في بريطانيا لوجود لاعبين مسلمين في الدوري الإنكليزي. المعلّق الإنكليزي ذكر خمسة أطلق عليهم "سفراء الإسلام": المصري محمد صلاح، والسنغالي ساديو ماني، والألماني/التركي مسعود أوزيل، والفرنسيان نجولو كانتي وبول بوجبا. قال إنه منذ انضمام صلاح إلى نادي ليفربول، صيف 2017، تراجعت معدلات الجريمة في المنطقة، وانخفضت المنشورات ضد الإسلام بمدينة ليفربول بنسبة 50 في المئة، مستنداً إلى دراسة "أظهرت ظاهرة صلاح لمواجهة الجرائم". وتوصلت جامعة ستانفورد إلى انخفاض جرائم الكراهية بنسبة 19 في المئة. وإذا نال لاعبون مسيحيون موهوبون فرصا عادلة، في الأندية المحلية، ستتراجع الكراهية، ونضمن منتخبات طموحها يتجاوز أفعل التفضل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image