شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
وضع فريد الأطرش

وضع فريد الأطرش "الفيصلي" مكان "الكسرَوي"... عن تهذيب التراث ونفاق المطربين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 17 نوفمبر 202204:06 م

لم أقرأ "في الأدب الجاهلي"، تهذيب طه حسين لكتابه "في الشعر الجاهلي". لا يريحني تهذيب التراث، إلا بإرادة صاحبه، قبل أن يصير تراثاً. طه حسين فقد حرية الاختيار وأُكره. ولم أقرأ طبعة مهذبة لـ"ألف ليلة وليلة" أو غيره من كتب التراث. التهذيب نفاق ديني واجتماعي، وصاية على القراء، اتهام بالقصور وعدم بلوغ الرشد، فالهوامش تتسع لقتل المتون بحثاً.

تهذيب التراث الفقهي والعلمي

أرفض تهذيبَ تراثٍ فقهيٍّ تجاوزه الزّمن، بما فيه ركام التكفير، ويشمل أعمال سيد قطب وذريته. التراث تراث، لا فرق بين ابن تيمية وابن الهيثم. وهب الدكتور رشدي راشد، الذي أدار مركز الفلسفة والعلوم والفلسفة العربية للعصور الوسطى في باريس، حياتَه لتحقيق التراث العلمي.

الأساطير المؤسسة للعلوم، ومحاولات تحدي الطبيعة، وبذور التفكير العلمي، تدرج ضمن تاريخ العلم وتطور الوعي بالوجود. وكذلك التراث الفقهي الذي يجب نشره كما هو، مع شروح لا تقدسه ولا تسخّفه، بل تستوعبه كقطرات في نهر الوعي بالدين والحياة. ولا يسيء إلى الدين اجتهادٌ بشري ساذج، يتحرّاه الآن كارهون للدين لا يفرقون بين المطلق والنسبي. هذا كلّه تراث يختلف عن الطبعات التالية للكتب، ودائماً أنتظر إضافاتٍ تؤكد حيوية المؤلف، وقابليته للتفاعل مع الجديد. ويظل الكتاب قابلاً تناقضاتِ المؤلف حتى يموت، فيغلق القوس على تراث لا يقبل إضافةً ولا تهذيباً. توجد إبداعات تتحدى تهذيباً يمسّ العنوان فقط، كما في "أميات" نجيب سرور.


إهانة الإبداع

الإبداع كَتُراث أهمُّ من صاحبه، وأطول عمراً. ولو تضمن إشادةً بحاكمٍ، في ظرف خاص، فلا يصحّ تهذيبه، بأن يحذف اسم الحاكم تملّقاً، أو خوفاً من عودة عهد بائد. والأكثر سخفاً هو النفاق الذي يستبدل اسماً لاحقاً باسم سابق. إهانة للإبداع، نظرة نفعية تراه مجرّد إطار تُنزع منه صورة، وتعلّق أخرى. كتب أحمد شوقي قصيدة "السودان"، ومطلعها: "إلامَ الخُلف بينكمو إلاما/وهذي الضجة الكبرى علامَا"، وخاطب فيها الملك فؤاد: "أبا الفاروق أدركها جراحا/أبَت إلا على يدك الْتئاما". وفي عام 1945 لحّن محمد عبد الوهاب القصيدة وغنّاها، واستبدل الملك فاروق بأبيه، فالحيّ أبقى. مات الملك، عاش الملك: "فيا فاروق أدركها جراحا...".

أرفض تهذيب تراثٍ فقهيٍّ تجاوزه الزّمن، بما فيه ركام التكفير، ويشمل أعمال سيد قطب وذريته. التراث تراث، لا فرق بين ابن تيمية وابن الهيثم

في العهد الملكي أيضاً لحن عبد الوهاب قصيدة "نشيد الحرية" لكامل الشناوي، وبدايتها: "أنت في صمتِك مرغم/أنت في حبّك مكرَه". وسجلها قبيل ثورة 1952، ومُنعت إذاعتها، وقيل إنها أذيعت مرة واحدة ومُنعت. وبعد استيلاء الضباط على الحكم وإجبار الملك على الرحيل، عُثر عليها في الأدراج، وطالبوا عبد الوهاب بتعديلها. وأجرى كامل الشناوي تغييرات لم يُستأذن في مثلها أحمد شوقي، لوفاتِه قبل تنصيب الملك فاروق. تغيّرت "أنت" إلى "كنت"، وعُدّلت "أنت في حبّكَ مكره" إلى "كنتَ في صبرِك مكرَه"، وأذيع النشيد بعد ثلاثة أسابيع على قيام الثورة. لم يدرك الضباط دلالة ترك النص الأصلي نكايةً بعهدٍ ثاروا عليه، لترسيخ شرعيتهم.

لتغيير النصوص والعبث بها علاقة بثقافة النفاق المجاني أو الخوف، في منطقة موبوءة بأسباب الإغداق والخوف. وأحياناً يتم التغيير اختيارياً، بمبادرة شخصية، وخصوصاً من المطربين. في الفيلم المصري "آخر كدبة"، عام 1950، أغنية لطيفة كتبها بيرم التونسي، ولحنها فريد الأطرش وغناها، بالاشتراك مع عصمت عبد الحليم. أغنية "بساط الريح" أغضبت الجزائر، لأن بساط الريح قفز من مراكش إلى تونس، وتجاوز بلادهم. في الأغنية وصف لبغداد بأنها "بلاد أمجاد"، يليها نداء: "يا دجلة أنا عطشان ما أقدر أرتوي/من حسنك الفتّان هدا الكسروي/في كل رمشة عين خنجر ملتوي/لو صاب مني القلب يعدمني عدمْ/آه يا زلِم... آه يا زلم".

لتغيير النصوص والعبث بها علاقة بثقافة النفاق المجاني أو الخوف، في منطقة موبوءة بأسباب الإغداق والخوف

ثم أراد فريد الأطرش تحية فيصل الثاني آخر ملوك العراق، فلم يجد أفضل من "بساط الريح". وبذكائه وضع كلمة "الفيصلي" مكان "الكسروي": "يا دجلة أنا عطشان ما أقدر أرتوي/من حسنك الفتّان هدا الفيصلي". لا يعي فريد الأطرش أن لبعض الكلمات حمولةً أثقل وأعمق من حروفها: "الكسروي، الفرعنة، القيصري، البغددة" يحيل كلٌّ منها إلى ثقافة وتقاليد مرتبطة بجغرافيا صاعدة. فإلى أي شيء يحيل لفظ "الفيصلي" الآن؟ إلى مُلك لا يتذكره عراقيون ولدوا في ظل الجمهورية؟ أم إلى الملك السعودي فيصل؟ أم إلى شارع "فيصل" الذي أقيم فيه في الجيزة؟ ولم يكن فيصل الثاني الوحيد الذي ذكره فريد الأطرش في أغنية.

يذكر الدكتور نبيل حنفي محمود في كتابه "العصر الذهبي للغناء المصري" أن طائرة ملكية جاءت من عمان إلى القاهرة، وعادت بفريد الأطرش وفرقته الموسيقية المكونة من ستة وعشرين عازفاً، لإحياء حفل زواج الملك حسين من الملكة دينا. واستعد بأغنية كتبها صالح جودت يقول مطلعها: "يا أغلى من أمانينا/وأحلى من أمانينا/يا زينة الدنيا يا دينا". وفي الأغاني التي ذكرت أسماء حكام عرب نجا جمال عبد الناصر، وحده تقريباً، صمد رغم الهزيمة والموت وحملات تشويه تنافس فيها خلفه أنور السادات وجماعة الإخوان المسلمين. لا تختلف أغنية كتبها صلاح جاهين عن أغنية كتبها بيرم التونسي. لعل السرّ في صدق اللحن والأداء.

وضع فريد الأطرش كلمة "الفيصلي" مكان "الكسروي". لا يعي فريد الأطرش أن لبعض الكلمات حمولةً أثقل وأعمق من حروفها: "الكسروي، الفرعنة، القيصري، البغددة" يحيل كلٌّ منها إلى ثقافة وتقاليد مرتبطة بجغرافيا صاعدة. فإلى أي شيء يحيل لفظ "الفيصلي" الآن؟

لماذا يُهزم موهوبون أمام ذهب المعز؟ حتى المتنبي الذي كان أقوى بشعره من سيف الدولة في الشام، ومن كافور الإخشيدي في مصر، أضعفته التجربة. للأدباء والفنانين سطوة يخشاها معاصروهم من الحكام. لا أحد يعرف حكام اليونان في زمن سقراط وأفلاطون، أما الإسكندر الأكبر فاقترن باسم معلمه أرسطو الذي ظل يذكّره بالحكمة: "تذكر أنك بشر". ولا يشتهر من لويسات فرنسا إلا التاسع، لسجنه في مصر، والسادس عشر المعدوم بالمقصلة. وجورجات إنكلترا أشهرهم جورج الخامس، ومصدر شهرته ليس عظمة استثنائية، وإنما لشهرته بمحاورة جورج الخامس. ولا يُعرف حكام هذه البلاد في أزمنة شكسبير، جون ميلتون، فولتير، جان جاك روسو، فلوبير، أناتول فرانس.

صاحب المقام الرفيع إسماعيل باشا صبري (1854 ـ 1923) ورث مناصبَه كثيرون، من الكبار والصغار، ولكن موهبته الشعرية ظلت خاصة به. نسي الناس ألقابه إلا "الشاعر"، ويذكرون له على الأقل ما غنته أم كلثوم من ألحان أبو العلا محمد: "أقْـصِر فؤادي فما الذكرى بنافعة/ولا بشافعة في ردّ ما كانا". ولم تسلم هذه القصيدة من إضافتها إلى أحمد رامي، في استسهال جائر على إسماعيل صبري تستوي فيه مواقع إلكترونية وموسوعة أم كلثوم التي نشرتها مكتبة الإسكندرية ودار الشروق. ولا أظن حاكماً فهم المصريين مثل سعد زغلول. قبل موته بعام زار أحمد شوقي الذي دعا المصور إلى التقاط مصورة "مع الخلود". فأشار الرئيس سعد زغلول إلى أمير الشعراء، وخاطبه: "الخلود هنا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image