ترجع بي الذاكرة إلى الوراء، إلى الوعي الأوّل والبحث عن لحظة الشغف بالقراءة، تلك اللحظة التي تولد مع الإنسان حين يدرك أو يلمس لذّة تحصيل المعرفة، حين يكتشف طريق عثوره على سحر اللغة، يبحث عنها ليسلكها، ولحظة الكشف تلك، تبدأ عادة في سنٍّ مبكرة، في مراحل تعلّمه أو لحظة ثقافته الأولى، ويبدأ بسؤال: من أنا؟ ويكون الجواب عادة: أنا لغتي.
ولدت ولادة محظوظة، حيث عثرت على لغتي مباشرة، دون عناء البحث عن الكتب، أو عن اللغة، ولدت بين الكتب، ومن عائلة أورثتني حبّ القراءة والكتابة، وصناعة الإبداع لديها شيء مقدس، كأنّها ترفع شعاراً: "أكتب كي تكون".
كان والدي روائياً، وجدّي، والد والدي، كان رساماً تشكيلياً وقارئاً نهماً لمجلة "العربي"، ولديه مكتبة ما زالت حتى الآن في غرفته القديمة، وكان خطّاطاً ماهراً يكتب بكل أنواع الخط العربي، ومكتبته كانت تحتوي على كافة أعداد مجلة "العربي" القديمة، والخال الأول روائي، والخال الثاني شاعر، والخال الثالث فنان تشكيلي، والأخت الأصغر شاعرة وناقدة.
في هذه البيئة التي حضنتني منذ صغري وجدت ما أريد، ورسمت منذ البداية طريقي للعثور عمّا أريد أن أكونه، وكانت اللغة العربية في متناول الأيدي، وحولي كيفما تحركت في البيت في مخيم نهر البارد/ شمال لبنان، وأوّل ما دفعني إلى الإمساك بها ليست المدرسة والمدرس فقط، بل قراءات والدي الليلية للشعر والقصص لي ولأختي في مكتبته التي كانت في الصالون ومفتوحة على كافة غرف البيت، وتحتوي على العديد من الكتب الشعرية والنثرية والسياسية واللغوية.
لم أكن أعرف بأنّ الكلمات لها أجنحة مثل الطيور، ولم أكن أعرف بأنّ القراءة هي إحدى وسائل النقل الفضائية من العالم الضيق إلى العالم الأوسع
كنت أشرد فيما يقرأ لغسان كنفاني وسميح القاسم ومحمود درويش ونزار قباني وتوفيق زيّاد، وأحاول أن ألتقط السحر في قلب هذه اللغة رغم صعوبة فهمي الأول لما يلقى علي، والخيال الذي يقذفني بعيداً خارج حدود الغرفة، فوجدت أن اللغة قد تضعني في عالم خارج عالمي وأنا مكاني، وأتذكر بعض الأبيات لتوفيق زيّاد كانت تخترق ذائقتي الحسية ، حين يقرأ والدي بصوته:
كأنّنا عشرون مستحيل / في اللد والرملة والجليل / هنا ... على صدوركم باقون كالجدار / وفي حلوقكم كقطعة الزجاج كالصبّار.
حين يخترق إيقاع اللغة أذني، أتخيّل نفسي على أجنحة الكلمات، أطير معها إلى عالم آخر، وتنمو بذورها داخلي، تتفتح البراعم في دمي، تشدّني بحبالها الطائرة إلى فضاءٍ مذهّب، أصعد وأهبط، أتجوّل في جهاتها المفتوحة على مصراعيها، وحين ينتهي أبي من القراءة، أذهب لغرفتي وأفتح الراديو الصغير الأسود القديم، أحاول التقاط الأغنية التي كانت تأتي بصوتٍ بعيدٍ وخافت.
أصعد على السطح كي ألتقط الإذاعة جيداً من أعلى، فهي أغنية: "زيديني عشقاً زيديني يا أحلى نوبات جنون"، بصوت كاظم الساهر، فأغرق بها، وأنا أنصت بقوّة لهذه الكلمات التي تقدح في أعماقي رغم رداءة الصوت البعيد. كأنّ ناراً تصعقني، ومن الوهلة الأولى تأثرت بها، وكانت ملح الأسئلة الأولى عندي: كيف تكتب هذه اللغة؟ ومن كتبها؟ ومن أين جاءت؟
لم أكن أعرف بأنّ الكلمات لها أجنحة مثل الطيور، ولم أكن أعرف بأنّ القراءة هي إحدى وسائل النقل الفضائية من العالم الضيق إلى العالم الأوسع. كنت مراهقاً حينها، ولا ملاذ لحساسية سنّي سواها، لكني اكتشفتها وأنا أتصفح ديوان نزار قبّاني فيما بعد، وجدت القصيدة، وأدركت أنّ الأغنية الساحرة انبثقت من اللغة الشعرية الساحرة، فاكتشفت فعلاً أنّ للكلمات أجنحة، وللكلمات سلّم الصعود إلى أمكنة سماوية أخرى، وأكملت سباحتي الأبدية في اللغة.
أذكر أبي حين قال لي يوماً: "اقرأ كثيراً كي تستطيع الكلام مع الناس، من يقرأ يملك مهارة الكلام"
أن تحبّ اللغة يعني أن تنام على وسادة لا يغادرها كتاب، أو أن تصحو على فنجان قهوة ثم تبحث عن الكتاب: أين سقط منّي في آخر الليل حين غرقت في الحلم وتركته؟
أن تحبّ اللغة يعني أن تسافر معها إلى جماليات المتخيّل الشاسعة، وأن تحبّها يعني أن تغار منها حبيبتك، وتتشاجر معها، ليس على الحب، بل على تقاسم الوقت الذي لا ينصفها مثلما تدّعي، ولا ينصفك مثلما تدّعي أنت، والكتاب هو الحكم الوحيد بينكما، ولكنّ الصلح الكبير يكمن حين تجد هي نفسها أنّ الكتاب الذي تتمسك به هو كتاب عن الحب، فتدرك بأنّك تدرّب لغتك، كيف تحبّها بطريقةٍ أخرى، فتقول لك بهدوء القطة حين تصحو فجراً: في الحقيقة، الحب حين تختار حريتك اللغوية للتعبير عنّي، ألست أنا من ألهمك كي تقرأ؟ فتعانقها مثل القطّ وهو يداعب فروها الحريري، ويقول: "نامي قليلاً كي أقرأ". تنظر إليك وهي تهمس: "اقرأ عيوني".
فيلمع الشرر في ذهنك المرتبك، لغة العيون أفهمها من نظرةٍ أولى، لغة العيون هي نفسها لغة الكلام لكنها تظهر في العيون قبل الكلام، فأذكر أبي حين قال لي يوماً: "اقرأ كثيراً كي تستطيع الكلام مع الناس، من يقرأ يملك مهارة الكلام".
لا زالت هذه العبارات تخترق ذاكرتي لأنني أعيشها الآن حين أقرأ، أشعر بأنّني أسافر إلى مدن الكلام المختلف. لا أعرف ماذا يحدث في خلدي، وكأنّ اللغة تشكّل نفسها بنفسها داخلي. هي وحدها تبلوّر شخصيتي الحقيقية، وأتذكر قول سقراط للشاب الوسيم الذي مرّ به وذهل الناس من حوله لوسامته، وحين مرّ قال له سقراط: "يا هذا تكلّم كي أراك"، وكأنّه لم يره ولم ير وسامته إلا حين تكلّم.
إنّه يريد أن يرى فيه وسامته اللغوية في الحقيقة، من وسامة كلامه ومعناه لكي يتسنّى له اكتشاف مدى وسامته الكامنة في لغته، وليس صورته الخارجية من الوهلة الأولى كما فعل الناس من حوله، واللغة الوسيمة في الشخصية الوسيمة، فأنا أريد أن تكون لغتي الوسيمة هي شخصيتي الوسيمة حين أتكلم، وما يعبّر عنّي، فأصبح اهتمامي باللغة مثل اهتمامي بكافة تفاصيل الحياة، لأنّ الحياة بالنسبة لي تبدأ باللغة، ولا توجد حياة خارج إطار اللغة، اللغة هي الحياة بكل تفاصيلها المطلقة، ألم يبدأ القرآن الكريم الذي هو مصدر اللغة الأول بكلمة " اقرأ"، واللغة العربية هي بحرنا الواسع الذي يصعب الإبحار فيه حتى الثمالة.
أنا أقرأ وأبحث باللغة وأكتب يعني أنا موجود، واللغة هي مبرّر الوجود. أنت تكتب يعني أنت موجود، والوجود هو الوجود في اللغة إن صحّ التعبير، حين نكتب فإنّ اللغة هي مبرّر لوجودك في هذا العالم، لأنّ اللغة هي أطول عمراً من كاتبها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع