شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"اكسر عظامي ولا تكسر منصوباً"... اللغة حين تُحوّل الخطأ "البديهي" إلى "عيب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 4 يناير 202101:21 م

لا يكاد يخلو موقع أو منتدى أو مدونة أو مجموعة على منصات التواصل الاجتماعي، مهتمة بالنحو وتعليمه وتيسيره، من مقولة ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، الإمام الشافعي، الشهيرة: "من تعلّم اللغة رَقّ طبعه"، في محاولة للتحفيز على تعلم النحو والإبحار باللغة العربية، والتلذذ بجمالها، بَيد أنه في المكان عينه، غالباً ما تجد سلوكاً، من القاموس النقيض لفعل الرقّة، في التعاطي مع الآخر "المخطئ" في الكتابة.

دفاعاً عن وعاء الفكر والوجود

ينطلق الكثير من المهتمين باللغة العربية من مبدأ أن اللغة وعاء الفكر، وإذا فسد الوعاء فسد الفكر، أو التعبير عنه على الأقل، بوصفها لغة قادرة على احتواء العلوم ومناقشتها، خلافاً للّهجات الدارجة، لكن غيرهم ينطلق بالدفاع عن اللغة منطلق "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" ("الأنفال":61)، ويرى أن أهمية عِلم النحو تظهر في "حماية القرآن من الخطأ والتحريف"، لما يقوم به من زيادة فهمٍ للمعاني الواردة بالشكل الصحيح، في تفسيره، وأن التدافع مع الأمم الأخرى مرهون بمدى القدرة على الدفاع عن لغة القرآن.

في مجموعات تعلم اللغة العربية ونحوها، يحدث أن تجد من يستهزئ ويسخر ممن يطرحون أسئلة بسيطة، غالباً ما تكون مكررة، وسبق أن طُرِحَت كتلك المطروحة حول الفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر.

وعلى الرغم من أن المجموعة تكون مخصصة بالأصل لتبادل المعرفة، بما يخص هذا المجال وتيسيره، وإيجاد أجوبة للأسئلة المطروحة، يتذرع المعلق بهذه الـ"صلافة" في أن السائل كسولٌ، لم يكلف نفسه مراجعة المصادر المختصة بالنحو، وأنه جاهل في القواعد الأساسية و"البديهية".

ولطالما كان النقد عبر الأخطاء الإملائية والنحوية المصيدة الأسهل للإطاحة بالكتاب المبتدئين، وحتى المعروفين، ومعياراً واضحاً للجودة بنظرهم، بغض النظر عن المحتوى المكتوب، ويوردون عشرات الشواهد لتبرير سلوكهم، تُجانب الصواب أغلبها.

ومما لا تخطئه العين، أن هناك من ينظر بدونية تجاه من يُخطئ بالإملاء، ولا ريب في أن يوصف الأخير بـ"الجهل". حتى أن خبراً ساخراً ينتشر على سبيل المثال على منصات التواصل العراقية، مفاده أن فتاة فسخت عقد الزواج مع خطيبها، لأنها انتبهت إلى أنه يخطئ في الإملاء، مبررة ذلك بأن الثقافة تأتي من الإملاء.

ولا يختلف الأمر كثيراً في المنصات التي تقدم نفسها لتعليم العربية. إحدى الصفحات، تنشر محادثات تردها على البريد الخاص، تستفهم عن اللغة وكيفية تعلمها، يشوبها أخطاء، يعالجها صاحب الصفحة بسخرية، على الرغم من أنه يحجب اسم صاحب الرسالة. أما في الصفحات الأخرى، فلا يختلف الأمر كثيراً، متخذةً من كل حدثٍ أو تصريحٍ يحصد تفاعلاً مادةً لها، وبالوقت الذي يحمل فيه هذا الفعل، جانباً إيجابياً، كونه يتضمن نقداً، لا سيما للأوساط السياسية والثقافية والإعلامية، لأنه في الوقت عينه يحمل "عيباً"، كونه لا يتوقف عند حد معين.

ينطلق الكثير من المهتمين باللغة العربية من مبدأ أن اللغة وعاء الفكر، وإذا فسد الوعاء فسد الفكر، أو التعبير عنه على الأقل، بوصفها لغة قادرة على احتواء العلوم ومناقشتها... لكن غيرهم ينطلق بالدفاع عن اللغة منطلق "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ"

إحدى الصفحات، لم تتردد في تصويب همزات وإملاء صورةٍ في محتواها أم تحمل نعش ابنها، محاطة بكلمات، فيها أخطاء. وبغض النظر عن الموقف الذي تقف منه لتحديد المحمول على الأكتاف ما إذا كان شهيداً أم قتيلاً، فهل من "رقة الطبع" الاهتمام بالنحو في هذا الموضع؟ والمفارقة أن المنشور حصد أكثر من 300 تفاعلٍ، بينهم 5 أشخاصٍ وضعوا تفاعل "أغضبني"، و37 آخرين اختاروا "أضحكني"، ورغم أن المنشور لقي العديد من الاعتراضات والنقد، ومن رأوا فيه "شماتة واضحة"، لم يُحذف منذ عام 2017، حتى الآن.

الفجوة تتسع!

غالباً ما يكون المعنيون باللغة العربية والمتيمون بتفاصيلها، أشبه بالمفصولين عن الواقع، ويقدمون مقترحات، بعيدة عن هم المجتمع واحتياجاته، حتى في أعتى الكوارث، فبالتزامن مع اجتياح فيروس كورونا للبلدان العربية، نشرت عدة منصات، تنبيهات لأخطاء لغوية تداولتها وسائل إعلامية في الأخبار، والوصلات الإشهارية والتوعوية، بالالتزام بالوقاية عبر ارتداء الكمامات، والحرص على التباعد الاجتماعي.

تنقل إحدى الصفحات، منشوراً بعنوان "لا تلبسوا الكمامة... ولا تتباعدوا اجتماعياً"، يقترح فيه استبدال كلمة "كمامة"، بـ"اللثام الحامي"، لأن الأولى "للحيوان... ما يُجعَلُ على أَنف الحمار أَو البعير لئلاَّ يؤذيَه الذُّبابُ". ويقترح أيضاً استبدال "التباعد الاجتماعي"، لما فيه من "تفرقة وتنافر وصراع" بـ"مسافة الوقاية"!

الجائحة التي تقتل المئات يومياً، من دول العالم الثالث العربية، لا تلفت أنظار الحالمين بـ"لسان عربي"، عن الخطر المحدق بالعربية، على أيدي الجاهلين باللغة العربية، وذلك بعقد مقارنة بين الماضي والحاضر: "فانظر إلى تفصيل العرب في كلامهم، ثم انظر إلى من يسمون غطاء الفم والأنف اليوم في هذه الجائحة (كورونا) بالكمامة التي هي للحيوان دون الإنسان لتدرك أن لغة القرآن تحتضر في أرض العروبة أو هكذا أُريد لها".

ولا مثال أوضح من الاحتجاجات التي اندلعت في عدة بلدان عربية نهاية العام الماضي لملاحظة الفجوة الواسعة بين اللغة العربية والمجتمعات المطالبة بحقوقها، بشعارات رُفعت باللهجة الدارجة، هدفت إلى إرسال رسائل الى المحتجين والسلطة، وشعارات رُفعت بألسنة أجنبية معنية بإيصال أصواتهم إلى العالم، فيما الشعارات المرفوعة باللغة الفصحى، كانت شبه منعدمة، وظلت على هامش المشهد الاحتجاجي.

حضور اللهجة الدارجة البارز في الاحتجاجات، فُسِّر على أنه قريب من واقعية المطالب المرفوعة، ومن واقع الاحتجاجات التي قُوبلت بعنف مفرط أحياناً... يرفع المتظاهر أهزوجته باللهجة الدارجة، بوجه القنبلة الدخانية، والشتيمة بوجه الرصاص ووسائل الإعلام المعادية لمطالبه المشروعة، تختنق اللهجة معهم، وتنتفض، تحتج، وتسارع بالتعبير عن لحظتهم الراهنة، فيما تقبع الفصحى بعيداً كقطع رخامية باردة.

إذا كان المدافعون عن الإملاء والنحو ينطلقون من منطلقات قومية "عروبية"، أو يقفون موقف الذائد عن الهوية، يجعلك شريط مصور انتشر بكثرة على منصات التواصل الاجتماعي، تتساءل ما الذي يدفع هندياً تعلم العربية، إلى قول عبارة من قبيل: "اكسر عظامي ولا تكسر منصوباً"، أو "لو شتمتني بالفصحى، لكان أحب إلي من أن تمدحني بالعامية". ثم يضيف ضاحكاً أن "هذه العبارات جرت مجرى المثل في أوساط معارفي؛ يقولون هذا يغار على الفصحى أكثر مما يغار على زوجته!".

"جميع المتكلمين والكتاب، بأي لغة، يقترفون أخطاءاً لغوية بصرف النظر عن درجة طلاقتهم في تلك اللغة، لذلك يُعد الخطأ من طبيعة الإنسان"، يقول توماس سكوفيل في كتابه علم اللغة النفسي، فيما يشير العفيف الأخضر، في كتابه "إصلاح العربية"،إلى أن "الجاحظ اقترف 200 خطأ"

بالعودة إلى المنصات المعنية بالنحو، نجد فيها محتوى مماثلاً مقتبساً من الموروث يوافق سلوكهم يتمثل بـ"الطرائف النحوية، فكثيراً ما تجد قصة إسحاق بن إبراهيم، يروي قصة حضوره "جنازة بمصر، فقال رجل منهم من المتوفي؟ فقلت: الله. فضُرِبت حتى كدت أموت". أو قصة أخرى عن سؤال أحد النحويين لابن المتوفى "ما المرض الذي مات به أبوك؟ قال: ورمت قدميه. قال النحوي: قُل ورمت قدماه لأنه فاعل مرفوع. قال: ورمت قدماه ثمّ انتقل الورم من قدماه إلى ساقاه. فجن جنون النحوي، وقال: قل من قدميه إلى ساقيه لأنها مجرورة. قال ابن المتوفى: والله لموت أبي أهون علي من نحوك هذا".

تُنشر من هذه القصص، دون أن يستوقفهم أحدٌ معترضاً، أو مستدركاً على الأقل، بأن هناك مواضعَ يجب أن يُغض النظر فيها عما يخص النحو والإملاء، لكن المفارقة الحقيقة، أن بعضاً من هذه القصص منشورة في كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين"، لابن الجوزي، والأخير أحسن في وضعهم بالباب المناسب "في ذِكر المغفلين من المتحذلقين فيمن قصد الفصاحة والإعراب في كلامه من المغفلين".

صراعٌ جندري

من المنشورات التي كثيراً ما تتكرر "طرفة" عن مضارع يقضي عمره حراً طليقاً بين رفع ونصب وجزم، حتى تتصل به نون النسوة، فيُبنى على السكون. 

والطرف (جمع طرفة) التي تحتوي مضموناً ينال من المرأة، أو يتطابق مع الصور النمطية الموضوعة عنها تتكرر دائماً، ففي منشور آخر تجد مضموناً يبدأ بتناقض فاضح، بحجة الطرافة: "يُقال إن اللغة العربية ظلمت –أنصفت- المرأة في خمسة مواضع"، ثم يسرد هذه المواضع وكلها تنتقص من المرأة، بذكورية واضحة فهي الحية، والمصيبة، والقاضية (المصيبة العظمى)، والنائبة (اخت المصيبة) والهاوية (اسم لجهنم).

وفي التعليقات على المنشور، تستمر معركة النيل بين الطرفين، يقول أحدهم: "يقال إنها (اللغة) ظلمتها ولكنه إنصاف في حقها فهي حية ومصيبة وداهية وهاوية في رأي الكثيرين"، ويرد مدون آخر "الحب مذكر، الصدق مذكر، الإخلاص مذكر، والخيانة مؤنث، الزناخة مؤنثة، والود مذكر، التعاسة مؤنثة، والفرح مذكر، خفة العقل مؤنثة، والوعي مذكر".

وكمعادل موضوعي، تُدرج إحدى المعلقات صورة تتضمن محتوى يحط من الذكر، فهو "الجحيم والحزن والمرض والموت والحقد والحسد والغضب، والقرف والتعب، والنكد".

"جميع المتكلمين والكتاب، بأي لغة، يقترفون أخطاءاً لغوية بصرف النظر عن درجة طلاقتهم في تلك اللغة، لذلك يُعد الخطأ من طبيعة الإنسان"، يقول توماس سكوفيل، في كتابه علم اللغة النفسي. فيما يؤكد هذه الحقيقة العفيف الأخضر، في كتابه "إصلاح العربية"، مشيرا إلى أن "الجاحظ اقترف 200 خطأ، وأن المتنبي زلت به اللسان"، لافتاً إلى أن "النحاة والنقاد تعقبوا كل جديد من لسان العرب باسم اللحن، وعند ألمع كتاب وشعراء العربية، وفي القرآن أيضاً".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image