أشير إلى سائق التاكسي طالباً منه التوجّه إلى النادي الثقافي الفلسطيني، فيسألني عن مكانه بالتحديد. نلجأ إلى غوغل، فيردد السائق: هذا في مخيم مار إلياس. مُخيّم؟! ألا يكفي تزامن وجودي في بيروت مع تنظيم ندوة لإبراهيم نصر الله، أحد كتّابي المفضّلين، يتحدث فيها عن غسان كنفاني الذي يملك مكانةً في قلبي لا يضاهيها أحد، والآن هذا كله داخل مخيّم فلسطيني، أي تجربة أنا على وشك خوضها؟
يُخرجني صوت السائق من شرودي، ويسألني عن اسم المكان مرةً ثانيةً فأجيب، ثم يخبرني بأن السيارات لا تدخل إلى هناك بسبب ضيق الشوارع، وأردّ: أنزلني في أقرب نقطة. يكتم ضحكةً ساخرةً، ويقول زاعماً حبّي: لن تجد أحداً هناك، ثم مالي أنا المصري -كما أدرك من لكنتي- بندوة في مخيم فلسطيني؟ أعذره، فوسط دوامة أكل العيش ليس هناك وقت كبير للندوات، لكنه يُكمل محذّراً إياي من المخيّم. أستفسر أكثر فيوضح أن هناك شباناً يبيعون المخدرات علناً، وربما أتعرّض لما هو أكثر من ذلك. ضحكت أنا هذه المرة: أهذا كل ما في جعبتك؟ في القاهرة، وفي أشهر شوارعها، يحدث هذا. أنا أصلاً أسكن في منطقة يحدث ذلك على نواصيها، لكن هذا لا يمنع أني كرهته، لا لسخريته، لكن لأنه أخافني.
أنا الآن داخل أصغر مخيّمات اللاجئين الفلسطينين في لبنان، يصطحبني رجل غريب بعد أن سألته عن وجهتي فعرض علي إيصالي. أقارن بين ما قرأت وعرفت وبين ما أرى وألمس. ترتبط المخيمات في ذهني بالإشفاق والفقر. أعرف أن فيها أناساً طُردوا من منازلهم جبراً، وأتخيّل شكل أطفالهم يسيرون عراةً في الجزء الأسفل، أما الفتيات، فتخشى إحداهن أن تفتح شباكها فيرى أحد ما لا يصح. المخيّمات مرتبطة لدي بنشرات الأخبار، ومنظمات الإغاثة، وقول محمود درويش: "حين يبتسم المخيّم تعبس المدن الكبيرة".
أتخيّل شكل أطفالهم يسيرون عراةً في الجزء الأسفل، أما الفتيات، فتخشى إحداهن أن تفتح شباكها فيرى أحد ما لا يصح. فبماذا ترتبط مخيّمات اللاجئين لمن لم يزرها من قبل؟
لم تعد المخيّمات خياماً، لكنها أحياء كاملة. هل تمسّكهم بوصف "مخيّم" دلالة على أن وجودهم مهما طال، مؤقت؟ يسير الرجل الغريب أمامي بخطوات بطيئة أتأمل فيها أكثر. لم تكذب علينا الكتب، فالمخيّمات مرتبطة بالفقر، لكنه فقر لم تستطع الكلمات وصفه، فالممرات بين البيوت تكفي بالكاد لمرور شخص واحد بالعرض، هل تتخيّلون المساحة وتلاصق البيوت إلى هذا الحد؟ لم تكذب علينا الكتب حين ذكرت أن القهر يسكن المخيمات، لكنها فشلت في ذِكر ضيق المساحات التي تجبرك على إغلاق باب بيتك، فلو واربته فقط فهذا يعني أنك مكشوف أمام العابرين.
يُكمل دليلي السير ويتوغل بي في ظلام حالك. أخاف، هل يَصدق السائق فيوقفني الغريب هنا ويقول لي أخرج ما معك؟ أطمئن نفسي، فمعظم ما أملك وجواز السفر في الفندق. لن يأخذ الكثير، لكني سأكره أن ترتبط ذكرى دخولي مخيماً للمرة الأولى في حياتي بحادثة سرقة بالإكراه، كأن المكان الذي أحببته يرتبط لدي بقهر نفسي. يسير الرجل أكثر فأرفع رأسي مطالعاً صوراً كبيرةً لياسر عرفات، فهو وحده الرمز والقائد ولا صورة لغيره.
يكسر الرجل الغريب الصمت، ويُخبرني بأن جدّه تزوج مصريةً. أطمئن قليلاً، وأفكر هل أمنحه بعض المال جرّاء مساعدته؟ أكره الفكرة. هذا شعب أبيّ ربما يفهم سلوكي خطأً. يكمل كلامه بينما أتلمس حوائط متهالكةً، ونوافذ مظلمةً وصامتةً، هل خفض الصوت هو ما تعلّموه هنا؟ فإن علا صوتهم سيعرف الجيران أسرار البيوت، ولو تركوا العنان لأنفسهم، سيستمع الجميع إلى أسرار غرفة النوم. يعيشون بصمت ويحبّون بصمت ويبوحون بصمت، لكنهم يقولون لا بصوتٍ عالٍ.
عرفت بالوصول إلى وجهتي حين رأيت ضوءاً من بعيد. هل مقصود أن تكون الثقافة مرادفاً للنور، وسط ظلمة حالكة؟ أحببت الفكرة. أشار لي الدليل إلى المكان وتركني. أمسكت يده وشكرته بامتنان، لا لأنه ترك ما يفعل واصطحبني أنا الغريب، والغريب ممتن دوماً لأصغر الأشياء، ببسمة عابرة ومساعدة عادية. لكن شكرته لأنه لم يخذلني.
أتلمس حوائط متهالكةً، ونوافذ مظلمةً وصامتةً، هل خفض الصوت هو ما تعلّموه هنا؟ فإن علا صوتهم سيعرف الجيران أسرار البيوت. يعيشون بصمت ويحبّون بصمت ويبوحون بصمت، لكنهم يقولون لا بصوتٍ عالٍ
داخل غرفة صغيرة رأيت إبراهيم نصر الله، والشباب أمامه يملأون المشهد. جميل هذا الكاتب وعظيم أيضاً. يأتي إلى هذا المكان الخالي ليس من باب الرفاهية، بل ليتحدث إلى أبناء شعب عن تاريخهم. يتحمّل وقوفه لأكثر من ساعتين ويلتقط الصور التذكارية بحب وتواضع. جلست أستمع وهو يروي عن غسان الفكرة والإنسان، ويؤكد أن أعماله التي تُنشر في الخارج ليست لها علاقة بفلسطين، بل بإنسانية كتاباته. الناشر لا يريد سوى المكسب، لكن أهم ما قاله بالنسبة لي، أن المجد ليس في استشهاد غسان كنفاني فهذا يحدث لكثيرين، لكن المجد في ما قدّمه قبل اغتياله. تلك هي القضية.
ينتهي من الحديث وتبدأ الأسئلة، وبالرغم من أني قرأت غسان وعشت مع رسائله كثيراً، لكن الاستماع عنه من أبناء المخيمات أنفسهم، أمر عظيم. أنصت لحديث شاب يروي كيف قاده غسّان للتعّرف على وطنه. آخر يسرد كيف جلب له أخاه الأكبر أعمال غسان لزرع روح الانتماء، وفتاة تؤكد أنها فتحت عينيها على اسمه في مكتبة أبيها. تجارب وحكايات تقود إلى النتيجة نفسها؛ هذا الكاتب الذي رحل في سن الـ36 عاماً فقط، علّم أجيالاً معنى الوطن وشرح لهم القضية فاتفقوا -بالرغم من اختلافهم- حوله.
أطلب الكلمة بعدهم. لكنتي دفعت كثيرين إلى الالتفات إلى هذا المصري القابع في وسطهم. أتوتر قليلاً وأسأل نصر الله: ماذا لو امتد العمر بغسان، هل كان سيأخذنا إلى فضاء أوسع مثلما فعل محمود درويش؟ ثم أستمع إلى وجهة نظره وهو يستشهد بأمثلة لكتّاب مصريين مردداً: "بما أن لدينا صديقاً مصرياً...".
في ختام الندوة، اكتشفت أن السيدة آني زوجة غسان كنفاني حاضرة، فأتأملها من بعيد: رأيتها زوجةً وفيةً، بالرغم من السن، تتحامل على نفسها وتجيء لتحيي ذكرى زوج توفي قبل نصف قرن حتى لو كان الراحل غسان، وتساءلت: حتى متى سنظل نكتب إلى من لا يستحقون ونترك من يحبوننا من دون كلمة؟
قبل الرحيل، وقفت أدخّن سيجارةً متأملاً المشهد. يتعرّف إليّ الباحث المصري أحمد عبد الحليم، الذي لم تسعفني الصدفة لمعرفته في القاهرة. أسعد به وتدور بيننا أحاديث عادية قبل أن يُعرّفني على ميرا كريّم، الفلسطينية والناشطة في المجال الثقافي، ثم انضمت إلينا الكاتبة الإيطالية فيرونكا، وتبادلنا حسابات فيسبوك، وتركتهم مخلّفاً ورائي بضع ساعات رأيت فيها مخيماً والتقيت بإبراهيم نصر الله وسمعت عن غسان كنفاني من أبناء المخيّم ورأيت زوجته وصار لي أصحاب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت