شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لماذا كذب علينا

لماذا كذب علينا "ونيس" في يوميات عائلته؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 20 ديسمبر 202201:16 م

ما فعلته الدراما المصرية القديمة بأدمغتنا على مدار سنوات طويلة، أمر يستحق الدراسة والتحليل. ومع أخذ مسلسل "يوميات ونيس" نموذجاً، لا بد لي أن أتساءل: ما الذي كان يدور في بال صُنّاع العمل، وعلى رأسهم بالطبع محمد صبحي، عندما قدّموا هذا المسلسل؟

ظهر ونيس وعائلته إلى العلن، عندما عُرضت الأجزاء الخمسة الأولى من المسلسل، بدءاً من عام 1994، وحتى 1998، بالإضافة إلى مسرحية قُدّمت في 1997، تحت اسم عائلة ونيس، وفي 2009 حتى 2013، تم عرض ثلاثة أجزاء جديدة لم تكن بقوة الأجزاء القديمة وشعبيتها نفسها.

كل هذا كان يتم في إطار من الكوميديا الاجتماعية، لكن هل كان كل ما تم تقديمه في المسلسل يمثّل واقع الأسرة المصرية أم أنه عمل خيالي بحت؟

أذكر أني في طفولتي كنت واحدةً من هؤلاء الذين أُعجبوا بذلك الأب الحنون، والزوج المخلص، الذي لطالما وقع في مشكلات اجتماعية مضحكة، لكنه يخرج منها فوراً بفضل مثاليته وصدقه وحسن تربيته لأبنائه، ونواياه الطيبة مع تلك الأم خفيفة الظل، وأطفالها المشاكسين الذين يحاولون استكشاف العالم تحت مظلة قيم وأخلاقيات الأب الذي ينشد الكمال ويحارب سطحية المجتمع.

كل هذا كان يتم في إطار من الكوميديا الاجتماعية، لكن هل كان كل ما تم تقديمه في المسلسل يمثّل واقع الأسرة المصرية أم أنه عمل خيالي بحت؟

لو كان يمثل المسلسل الواقع أو جزءاً منه، فأنا وغيري من مواليد ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، كنا غير محظوظين لخروجنا من عائلات تعيسة عصف بها الاغتراب والرأسمالية، ولم تقترب ولو بجزء بسيط من عائلة ونيس. ولو كان هذا العمل خيالياً لكان يتحتم على الصنّاع قبل بداية عرض كل حلقة منه التنويه بـ"أن كل ما سنراه محض خيال ويُمنع على المشاهدين منعاً باتاً تجربة ما يتم عرضه في المنزل".

أكذوبة العائلة المثالية

في طفولتي، اعتقدت أن هناك خطباً ما في عائلتي وشعرت بنوع من النقص، فلا يوجد طابور يحكي فيه كل ابنٍ عما حدث معه خلال يومه، كي يتمكّن الأب من متابعه أبنائه أو ما يُعرف في المسلسل بحديث الثلاثاء الذي يقدّم فيه ربّ الأسرة النصح والإرشاد بأسلوب طيب صبور، بل كانت هناك حياة غير منظمة ومشكلات عائلية لا تنتهي بالنهاية نفسها المعروضة في المسلسل. كنت أعيش في مسلسلي الخاص المليء بالتعنيف اللفظي والصمت العقابي، وتحطيم الأحلام، والإهمال، والهجر والخذلان، وهو مسلسل لم يكن مثالياً أو تربوياً على الإطلاق، وبطله بالطبع لم يكن ونيس القدوة الحسنة.

وحتى عند محاولاتي لسد النقص وإضفاء بعض التصرفات النموذجية، والنظام مع إخوتي الصغار، وتقديم النصح بصفتي الأخت الكبرى، كنت أقابَل منهم بعاصفة من عدم الاكتراث ولهم كل الحق في ذلك؛ فهذه المهام التربوية تتعلق بالأب في المقام الأول.

كنت أعيش في مسلسلي الخاص المليء بالتعنيف اللفظي والصمت العقابي، وتحطيم الأحلام، والإهمال، والهجر والخذلان، وهو مسلسل لم يكن مثالياً أو تربوياً على الإطلاق، وبطله بالطبع لم يكن ونيس القدوة الحسنة

في كثير من الأحيان، كنت من تبادر إلى إصلاح بعض المشكلات في العائلة، وأتصرف بمثالية زائدة وأحاول ألا أقع في أي خطأ، كنت أقلّد "ونيس" من دون وعي مني، لكن المأساة تكمن في أنه لا يُطلَب من طفلة أن تتحمل كل هذا العبء لمجرد أنها شاهدت وتعلقت بعائلة سعيدة ومضحكة في مسلسل، وقارنت بين ما يحدث على التلفاز وما يحدث معها في الواقع.

لم يستمر بحثي عن المثالية عندما كبرت وأدركت أن نموذج "ونيس" وعائلته غير قابل للتحقيق، على الأقل في عائلتي.

بعد مرور سنوات ودخولي الجامعة، تطرقت في أحد الأيام إلى الحديث عن المسلسل مع إحدى زميلاتي لأوضح لها أن عائلتي لم تكن جيدةً مقارنةً بعائلة "ونيس"، لأجدها تضحك على بلاهتي وتخبرني بأنه لا توجد عائلة في الشرق أو الغرب تشبه هذه العائلة. إنه عمل مدرسي أقرب ما يكون إلى فيلم الكرتون أو أفلام الخيال العلمي، فكما قال تولستوي في بداية رواية آنا كارينينا: "جميع الأسر السعيدة تتشابه، لكن لكل أسرة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة"، وتحدثت عن عائلتها وعن المشكلات العائلية التي أحاطت ببعض زميلاتنا اللواتي كنت أظن أنهن يعشن في عائلات نموذجية.

لم يستمر بحثي عن المثالية عندما كبرت وأدركت أن نموذج "ونيس" وعائلته غير قابل للتحقيق، على الأقل في عائلتي.

الأدب والسينما في مواجهة المسلسلات المصرية

يمكن عدّ مهمة تقديم "العائلة المثالية" حكراً على بعض الأعمال التلفزيونية المصرية إذا ما قارنّاها بما قُدّم من أفلام وروايات عن بعض العائلات المصرية ومشكلاتها.

ففي الأدب العربي سوف نجد على سبيل المثال "ثلاثية نجيب محفوظ" المكونة من "بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية"، التي قدّمت أسرةً مصريةً متوسطةً ومتماسكةً وقويةً، لكن الأب فيها متسلط يقمع أبناءه وبناته، ويقهر زوجته الضعيفة، ويخونها في آخر الليل مع الراقصات، ويعاقر الخمر.

بالإضافة إلى رواية أخرى لمحفوظ هي "السراب"، التي نجد فيها عائلةً في ظاهرها حسنة السيرة تنتمي إلى أصول عريقة ومكانة اجتماعية محترمة، لكنها قائمة على أب سكّير ومدمن للقمار يعيش بعيداً عن زوجته، وابن يعاني من عقدة أوديب.

أما السينما المصرية، فتطرقت إلى الكثير من أشكال العائلات، لكن حتى أكثر العائلات سعادةً وطيبةً في فيلم الكوميديا الاجتماعية "أم العروسة"، لم تكن مثاليةً، فشخصية الأب الطيب الحنون، أقدمت على خيانة الأمانة وامتدت يداه إلى خزينة الشركة كي يستطيع إتمام مراسم زواج ابنته الكبرى.

هذا هو الصدق في تقديم الحياة اليومية للعائلة، وليس عملاً تلفزيونياً ينغص حياة طفلة قارنت بين حياة عائلتها وعائلة ادّعت التصرفات الملائكية على شاشة التلفاز.

لم يتطرق المسلسل إلى جميع المشكلات التي تدور في كل بيت مصري، وكيف يتعامل معها أفراد الأسرة "بشكل واقعي" وهذا أمر عادي؛ لأن المسلسلات المصرية في ذلك الوقت، كانت تتحدث مع المشاهد بمثالية زائدة رغبةً من صنّاع العمل في تقديم عمل يناسب الأسرة المصرية وقيم "المجتمع المحافظ". ربما كان هذا سبب نفور البعض منها ولجوئهم إلى المسلسلات الأجنبية التي يطغى على مشاهدها الكثير من الواقعية ولو تخللتها بعض المبالغات التي تلحق بأي عمل درامي يُقدَّم على الشاشة، كما أنها لا تعامل المشاهدين كأطفال بلهاء بحاجة إلى التلقين والتربية فهذه وظيفة البيت والمدرسة.

بعد مرور سنوات، اكتشفت أن عائلتي لم تكن استثناءً في التعاسة، فجميع العائلات تعيسة والدراما المصرية القديمة كذبت على جيلنا

وهم الكمال الأخلاقي

بعد مرور سنوات، اكتشفت أن عائلتي لم تكن استثناءً في التعاسة، فجميع العائلات تعيسة والدراما المصرية القديمة كذبت على جيلنا.

"عائلة ونيس" كانت في نظري العائلة كما ينبغي أن تكون: مرحة، ومتعاونة، وتتبع قواعد شبه صارمة، ومترابطة، وتتمسك بالقيم والأخلاق، لكن هذا مجرد حلم صعب المنال في ظل حياة امتلأت بالتعقيدات الاجتماعية والاقتصادية التي يصعب فيها على المرء الحفاظ على توازنه النفسي، فما بالك بتنشئة أبناء أسوياء في زمن الأمراض والحروب والفساد بشتى أنواعه؟ أنا هنا لا أتحدث عن هذا الزمن فقط، بل حتى عن تلك السنوات التي عُرضت فيها الأجزاء الأولى من المسلسل، إذ لم تكن الحياة ورديةً كما تخيلنا بسبب ما تم تقديمه من مثالية على شاشات التلفاز في شهر رمضان خلال تسعينيات القرن المنصرم؛ لذلك أصيب عدد كبير من جيلنا بالإحباط بعد مواجهة الحياة الحقيقية.

كبرنا، واصطدمنا بواقع تعس يكاد يخلو من كل المبادئ والأخلاق الحميدة والقيم الطيبة التي نادى بها "ونيس"، وكان ينشد أن يحمل أبناؤه من بعده الشعلة، لكن باعتراف أبناء ونيس في الأجزاء الحديثة من المسلسل التي عُرضت قبل عشر سنوات، الأخلاق التي تربّوا عليها لم تجعلهم مؤهلين للنجاح في المجتمع، والذنب يقع على والدهم، وهنا نسف المسلسل نفسه بنفسه.

إذاً في الواقع كان مسلسل "يوميات ونيس" بمثابة كتاب تنمية ذاتية يتحدث عن إيجابية سامة وأهداف وهمية، وطرق غير منطقية للوصول إليها

إذاً في الواقع كان المسلسل بمثابة كتاب تنمية ذاتية يتحدث عن إيجابية سامة وأهداف وهمية، وطرق غير منطقية للوصول إليها.

ليس كل الآباء طيبين وأصحاب مبادئ ويحملون حس الدعابة ويخافون على أبنائهم مثل ونيس، فهناك من زرعوا الخوف والكراهية في قلوب أبنائهم، وهناك آخرون تنمّروا على أطفالهم وحطموهم وهناك آباء خذلوا أبناءهم وتخلّوا عنهم.

كان من الصعب على هذه الفئة أن تشاهد حياةً عائليةً سويةً تحت قيادة أب نادر من نوعه في نظرهم.

ويبقى السؤال: لماذا كانت تتعمد المسلسلات المصرية القديمة بشكل عام، وونيس بشكل خاص، تقديم حياة غير موجودة سوى في الخيال، أو لنقل في أحسن الأحوال متوفرة مع قلة قليلة من العائلات المحظوظة؟ هل كانت ترغب الدراما في تجميل المجتمع وتهذيبه أم إصابته بالإحباط؟

لماذا كذب علينا ونيس؟ أو لنقل لماذا خدعنا؟ ألا يعلم أن هناك آلاف الأطفال من عائلات تعيسة كانت تشاهد يومياته؟

جدير بالذكر أنه عند البحث عن مرادفات لكلمة "مثالي" التي طعّمت بها المقال مرات عدة، سوف تجد في قاموس المعاني أن أول مرادفة تظهر لكلمة مثالي هي: خيالي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard