في تعريفه للثقافة، خلال استضافته عام 2018 في برنامج "كل يوم"، قال إنها "لا تعني المسرح والسينما والتلفزيون والكتاب والفنون التشكيلية فقط، لكنها خطة Patron (أي قالب الثوب)"، وتابع: "إنت عايز مواطن شكله إيه تعملهولك الثقافة؟".
هكذا تفكر الشؤون المعنوية المختصة بتجييش البشر لإنجاز غرض ما من أغراضها. هنا لا يكون الإنسان غاية بل وسيلة... هكذا فهم فنان المسرح المصري، محمد صبحي، والذي يُطل على المصريين دائماً باعتباره وجه الحكيم المُربّي ليعلّمهم القيم والأخلاق الرفيعة، لكن... أي قيم وأي أخلاق؟ يبدو أنها قيمه هو وأخلاقه، أو ما يريد أن يكون عليه "إنسان المحمد صبحي"، إنْ جاز التعبير.
فاكتشفنا بعد سنوات أن بطلنا المحرِّر كان يستعير الأفكار الكبرى من آخرين لم ينعموا بنجوميته، ويرددها من ورائهم في وسائل الإعلام.
لا أحد ينكر اجتهاده الدراسي، فقد تخرج من المعهد العالي للفنون المسرحية، قسم تمثيل وإخراج، بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف عام 1971، وتم تعيينه معيداً في المعهد، لكنه فضّل أن يترك العالم الأكاديمي ليؤسس مع الكاتب المسرحي الكبير وابن دفعته، لينين الرملي، مشروع "استديو الممثل".
لا أحد يُنكر اشتغاله على إمكانياته ككوميديان، رغم فقر ملامحه الكوميدية، باعترافه هو، في أحد اللقاءات التلفزيونية، فقد عمل على تعويض هذا الفقر في الأدوات الشكلية بأداء حركي كلّفه الكثير من التدريبات البدنية والانضباط الذي يليق ببطل رياضي لا بممثل.
لا أحد ينكر قدرته على العمل لفترات طويلة بإدارة دكتاتورية صارمة، مارست سطوتها على ممثلي فرقته المعيّنين لديه بدرجة "سنّيدة" ومساعدين، وغير مسموح لأحد منهم أن يكون بطلاً، تماماً كما كان يفعل أي حاكم مصري مع أي شخصية سياسية يبزغ فجرها شعبياً... لا أحد ينكر أنه تربّى، بشكل أو بآخر، على بعض أعماله المسرحية... صحيح أننا عرفنا في ما بعد أن النصوص لهذه الأعمال كانت لرجل اختفى وراء الستار (أي لينين الرملي)، لكن لـ"صبحي" جهد في تلقي النص واستيعابه والتعامل معه. صادف ذلك ما تربّت عليه الأجيال المصرية التي نشأت في العهد الساداتي، وما روّجه من "قانون العيب"، والعهد المباركي وما تداوله الآباء، آباؤنا، خلاله من أساليب تستخدم العصا وتلوِّح بشبح الإرهاب لتدجين الشعوب/ الأجيال الجديدة.
لا أحد ينكر قدرة محمد صبحي على العمل لفترات طويلة بإدارة دكتاتورية صارمة، مارست سطوتها على ممثلي فرقته المعيّنين لديه بدرجة "سنّيدة" ومساعدين، وغير مسموح لأحد منهم أن يكون بطلاً، تماماً كما كان يفعل أي حاكم مصري مع أي شخصية سياسية يبزغ فجرها شعبياً
وُلدنا هناك في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، في جو صدئ لم يمنعنا من الحنين إليه الآن. وُجدنا في ركود الخوف و"الضبط والربط"، كمفهوم عسكري للحياة، وكمفهوم روتيني ولوائحي بمنطق "نفّذ وبعدين اتظلّم". وقتها راج مسرح "صبحي" باعتباره "مسرح عقل" ومسرح "أنت حر"... لم نكن ندرك حجم الخبث المستتر وراء خلاياه الأبوية، فاكتشفنا بعد سنوات أن بطلنا المحرِّر كان يستعير الأفكار الكبرى من آخرين لم ينعموا بنجوميته، ويرددها من ورائهم في وسائل الإعلام، وكلما زاد الترديد زاد وجوده، إذ كانت ثقافته السمعية مواكبة لثقافة جيل كامل تلقى وعيه عبر أذنيه لا عبر قراءة وتحليل واستنتاج. وبعد سنوات تيه أكبر استوعبنا أنه كان يحارب الدكتاتور والدكتاتورية ويدعونا للثورة عليهما في الظاهر، فيما كان هو ينظم الأناشيد ويرص مدائح بلا ظلال لرؤوس أنظمة اعتبرها، كما توهمنا وقتها، "أنظمة استبدادية".
إنها المفارقة المضحكة المبكية التي جعلتنا نكتشف كم كنا ساذجين مع محمد صبحي، تماماً كما اكتشفنا كم كنا ساذجين مع آبائنا وإخوتنا الأكبر، حين كانوا يقنعوننا أن "الغولة" تنتظرنا لو طلعنا فوق السطوح.
استعارات في شكل سرقات
تتيح لك مصر على استعارة أفكار الغير والمتاجرة بها... وبالتالي، ستربح. في مصر يمكنك أن تحفظ الكلمات الرنانة وتصوغ تراكيب منمّقة تجعل منك بطلاً، المهم أن تعرف كيف تلقيها على مسامع الحاضرين. فالشعر الحقيقي الذي يجعلك تفكر وتحس في آن، لا لزوم له إنْ لم تطرب له آذان المراهقين عبر إيقاعات نحاسية، ودروب العقل صعبة وسالكوها ندرة... أدرك ذلك كله "سنبل"، اسم شهرة "صبحي"، فقرر أن يلعب في الواقع لعبة أخرى غير تلك التي يمارسها على خشبة المسرح.
كثيرون استفادوا من فساد الأراضي في مصر قبل ثورة يناير 2011، وقد رددت حسابات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، كما قصص عديدة (وذلك نظراً لصعوبات استخراج أوراق رسمية من مصر) بأن الفنان محمد صبحي كان من بين المنتفعين من أراضي الطريق الصحراوي، بين مدينتي القاهرة والإسكندرية، إذ امتلك "مدينة سنبل"، وأقام صرحاً استثمارياً وترفيهياً عليها بعد نجاح مسلسله "رحلة المليون"، الذي أدى فيه درامياً شخصية القروي الساذج صاحب رحلة الكفاح والصعود، عام 1987.
هذه الزعامة الفنية واقتران الرجل بعاطفة العرب، خلق منه حالة مثالية، في وقت افتقد فيه العرب الزعامة السياسية الحقيقية.
وبحسب تقرر نشره موقع "رصد" المصري في شباط/ فبراير 2016، فأن الممثل الكبير قد قام بعد المسلسل، بشراء أرض على طريق مصر-إسكندرية الصحراوي، مباشرة لإنشاء "مدينة سنبل الزراعية"، ودفع في الفدان الواحد 200 جنيه، أي أربعة قروش للمتر، وعند تسجيل الأرض تبين أن الفنان "القدوة" استولى على 9748.5 متراً مربعاً، فرفضت الدولة تسجيلها، لكنه ضغط حتى تم إعادة تثمين مساحة المباني من قبل لجنة تثمين الأراضي، ليصبح ثمن المتر 12 جنيهاً فقط بدلاً من ثلاثة جنيهات، واستغل الفنان كامل مساحة الأرض المقدرة بـ25 فداناً في المباني، وقام بتغيير النشاط المباعة من أجله الأرض وهو الاستصلاح الزراعي، وحوّلها إلى مشروع سياحي محاط بسور ارتفاعه أكثر من ثلاثة أمتار، يضمّ مبانيَ يتجاوز ارتفاعها ستة طوابق، وذلك كله بالمخالفة للقانون، بحسب تقرير "رصد" ذاته.
ودافع كثيرون عن الفنان بالقول إن الأرض وقتها كانت صحراء ولم يكن هناك مَن يستطيع أن يجازف ويدفع فيها مليماً واحداً... ليكن، لكن أليس الحصول على أرض بسعر الاستصلاح الزراعي ثم تغيير نشاطها للمباني، مخالفة مبدئية وتربوية تستوجب المحاسبة؟
لاحظ هنا أن الدولة المصرية وقفت بالمرصاد لحالات شبيهة بحالة "صبحي" تلك، لرجال أعمال اشتروا أرضاً على طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي بأسعار هزيلة، وبعد أن قامت ثورة يناير ضغطت الدولة لاسترداد حقها، وتم تسعير الأرض من جديد، ودفع رجال الأعمال مضطرين وإلا سُحبت منهم تلك الأراضي، لأنهم خالفوا عقود الحصول على الأرض، من استصلاح إلى منتجعات سياحية، تماماً كما فعل "صبحي"... ما رأي منظومة المبادئ والقيم والأخلاق، أهؤلاء هم الذين يريدون أن يصنعوا لنا مواطناً صالحاً؟
استتر محمد صبحي وراء قضايا كبرى، كقضية فلسطين وحقوق الشعب المسلوب، وكلما خفت له نور أعاد نفسه إلى نقطة الضوء، بأعمال مثل مسرحية "ماما أمريكا" ومسلسل "فارس بلا جواد"
كُن مزدوج الوجه ليعبدك الآخرون
والناس تنسى كلما دارت عجلة الوقت، وتستمر التجارة في زمن صارت الدعاية فيه طريق الخلاص من الشبهات وطريق صناعة الشبهات في آن. يمكنك أن تصنع نجماً بالدعاية وقتل فكرة شريفة بالدعاية، وما دمت تملك الآلة المرعبة التي تمكن الإنسان من الظهور على الشاشة أو الإمساك بمايكروفون، يمكنك أن تتحكم في العقول ومنتجاتها.
لم يكن "صبحي" معارضاً ولا داعياً للحرية، بل كان مقتنص فرص أتاحها الزمن ومقدراته الفاسدة. بدا ثابتاً في خطابه الجماهيري كأي زعيم روحي، لكنه من الداخل "مدجَّن" لا يحب إلا المدجَّنين. استتر وراء قضايا كبرى، كقضية فلسطين وحقوق الشعب المسلوب، وكلما خفت له نور أعاد نفسه إلى نقطة الضوء، بأعمال مثل مسرحية "ماما أمريكا" ومسلسل "فارس بلا جواد".
هذه الزعامة الفنية واقتران الرجل بعاطفة العرب، خلق منه حالة مثالية، في وقت افتقد فيه العرب الزعامة السياسية الحقيقية. استغل الفراغات وملأها بأي شيء، ليس المهم هنا الحشو... المهم أن يظهر كأنه الحشو المناسب. لعب على ما ينقص المجتمع كأي تاجر شاطر: درس السوق جيداً، رمى له بضاعته في الوقت المناسب... المهم أن يكون شكل البضاعة يحاكي الأصلي منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com