تعاني الثقافة الرسمية المؤسسية في مصر أزمات جوهرية تفقدها حضورها الفاعل داخليًّا وتأثيرها المأمول عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، حيث تبدو معزولة عن الواقع المعيش وحركة الحياة النابضة، ومحصورة في إطار نخبوية متوهَّمة، ومحكومة بمركزية متجبرة. كما أنها ثقافة كرنفالية هشة، تحفل بما هو خدمي ودعائي وشعاري لصالح السلطة، نائية عن التطور الملموس للإبداعات المعاصرة والمبتكرة في قلب البلاد وخارج حدودها.
يضاف إلى ذلك، ما تعانيه هذه الثقافة الاجترارية المحنطة من تكلس وجمود وضيق أفق وضبابية الرؤية وفقدان الاستراتيجية، وذلك بسبب إسناد سائر المهام القيادية، التخطيطية والتنظيمية والإدارية، إلى الموظفين البيروقراطيين والمنتفعين وأهل الثقة والحظوة، وضعف الاهتمام والتمويل من جانب الدولة، وإقصاء عناصر القوى الناعمة الحقيقية من المبدعين المستقلين والمختصّين المؤهلين، القادرين على إحداث التقدم الطليعي واستثمار الاحتكاك مع الثقافات الأخرى لإيجاد حالة حراك خصبة في المشهد.
كسر القيود الفاسدة
لهذه الأسباب كلها، وغيرها، تشكّل المهرجانات والمؤتمرات المستقلة والأهلية والخاصة والشعبية في مصر، طوق إنقاذ للحياة الثقافية والفنية والإبداعية. فهذه المهرجانات البديلة، ذات الطابع الدولي في معظم الأحيان، تحمل على عاتقها إيجاد متنفس متسع وجاد للفنون والإبداعات الملتحمة بالجماهير، والمعبّرة عن اللحظة الراهنة. وتقام الفعاليات عادة في الهواء الطلق، خارج القاعات المغلقة الضيقة، لتعكس روح التجديد والتمرد على الساكن والمستقر، والرغبة في تحطيم القيود البالية والوضعيات الفاسدة، وتخاطب الضمير الجمعي المتعطش إلى التحرر وكسر الأطر الرجعية المفروضة.
تشكّل المهرجانات والمؤتمرات المستقلة والأهلية والشعبية في مصر، طوق إنقاذ للحياة الثقافية والفنية والإبداعية. فهذه المهرجانات البديلة تحمل على عاتقها إيجاد متنفس متسع وجاد للفنون والإبداعات الملتحمة بالجماهير، والمعبّرة عن اللحظة الراهنة
وتزخر هذه الملتقيات البديلة الناجحة، التي تبدو طبيعية وكأنها نشأت من تلقاء ذاتها، بحضور زاخم لسائر الفنون الأدائية والحركية والبصرية والميديوية والرقمية الحديثة، التي باتت قادرة على مزاحمة فنون وأدبيات أخرى راسخة منذ أقدم العصور. كما يكتسب الشعر والسرد والمسرح والفوتوغرافيا والغناء والموسيقى أبعاداً جديدة في هذه المهرجانات النوعية المتفوقة، التي تُبرز الجانب الثقافي والإبداعي لمصر الغنيّة بأبنائها عبر الأجيال، ويمتد الرهان ليشمل كل طرف وهامش في خريطة البلاد.
وتكاد تلتقي بروتوكولات هذه المهرجانات والمؤتمرات البديلة كلها في فلسفة واحدة تتضمن نقاطاً جوهرية، يمكن بلورتها في: رفض الوصاية الفوقية الأبوية ونبذ الذهنيات الجاهزة والأفكار المسبقة والمعلّبة، والانتصار لبراءة الفن وقدرته على مخاطبة العاديين والبسطاء، والعمل على إثبات التعددية وفي الوقت نفسه إبراز المشترك الإنساني حول العالم وتعزيزه ودعمه، وتعميق التواصل بين متذوقي الإبداع بشتى صوره وألوانه من شعوب مختلفة، وتعظيم دور الآداب القيّمة والفنون الرفيعة وأبجديات الثقافة والمعرفة عموماً لبناء الوعي واستشعار الجمال.
كل هذا إضافة إلى إعلاء فكرة استقلالية الإبداع والمبدعين في أداء رسالتهم الفنية المجردة بغير توجيه أو إغراض، و إثراء الحوار الحضاري ونشر مبادئ الإخاء والتسامح، وتغذية أواصر التبادل الثقافي وسبل قراءة الآخر، والاطلاع على روافد جديدة للفكر والعلم، وتنشيط حركة الترجمة، والخلاص من مركزية العاصمة والثقافة المحافظة والمغرضة، والفكاك من رواسب عصر الشمولية وتأميم الإبداع وإحكام السيطرة على المثقفين، وربط الفعل الثقافي والإبداعي بالمجتمع المدني ربطاً واضحاً ومباشراً.
فعاليات حيوية جاذبة
وتتعدد نماذج المهرجانات والمؤتمرات البديلة، المحلية والعربية والإقليمية والدولية، التي شهدتها مصر خلال الفترة الماضية، والتي تضيء الحالة الثقافية والفنية والإبداعية بقدر كبير من الشفافية والمصداقية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة "دي- كاف" الذي عُقدت دورته العاشرة منذ أيام قليلة، و"مؤتمر قصيدة النثر"، ومؤتمر "شعر العامية"، و"مهرجان طنطا الدولي للشعر"، وغيرها.
ويحتفي مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة "دي- كاف" بأحدث تيارات الفن المصرية والعربية والعالمية، خصوصًا عروض الشارع التلقائية وبرامج روح المدينة والأعمال القائمة على التفوق التكنولوجي وتجليات الميديا الحديثة. ويحفل بالعروض الجريئة، المبتكرة والتجريبية، في المسرح والسينما والموسيقى ورقص الشارع وورش العمل والحكي والفيديو التفاعلي والعروض السمعية البصرية وثلاثية الأبعاد والسينوغرافيا والفنون الأدائية والتفاعلية المختلفة.
ويتميز "دي كاف" عادة بطرح كل ما هو جديد على مستوى الرؤى والأفكار والتخييل والمعالجات الجمالية الطازجة المبتكرة، وكذلك على مستوى التقنيات المتفوقة والإمكانات المبهرة، وذلك في ضوء ما يحرص عليه المهرجان من المزج الشفيف بين الثيمات الفنية المتعددة. وقد تضمنت الدورة الأخيرة للمهرجان مجموعة من العروض المسرحية والسينمائية والتشكيلية والأدائية والحركية المتميزة، التي تعانقت فيها مستجدات الفنون المعاصرة المتنوعة.
ومن هذه التجارب اللافتة العرض المسرحي المغربي "بلا عنوان - 14 كم" من تأليف وإخراج وأداء المسرحي المغربي يونس عتبان، الذي يقترح ما يمكن تسميته "فسيفساء مسرحية" تتقاطع فيها خيوط كثيرة من فضاءات مختلفة. كما يتسع الكولاج المسرحي لكل تجليات الرقص التعبيري المعاصر، والأداء الجسدي الحركي لمجموعة اللاعبين الذين لا يعتمدون على اللغة المنطوقة في أغلب المشاهد.
تتعدد نماذج المهرجانات والمؤتمرات البديلة التي شهدتها مصر خلال الفترة الماضية. ومنها على سبيل المثال: مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة "دي- كاف" الذي عُقدت دورته العاشرة منذ أيام، و"مؤتمر قصيدة النثر"، ومؤتمر "شعر العامية"، و"مهرجان طنطا الدولي للشعر"
كما ينفتح العرض على المسرح الوثائقي بما يقدمه من صور أرشيفية ومواد فيلمية ومعلومات تاريخية وتسجيلية، إلى جانب الاستفادة من السينما بوجود شاشات عرض في الخلفية، ويتماهى الممثلون مع ما تطلقه هذه الشاشات من أضواء وأصوات ومواقف درامية مستدعاة من الواقع الدامي، بوصفه "مسرحًا مأساويًّا أكبر".
ومن فعاليات "دي كاف" المتفوقة كذلك "ستوديو فلاش" من الدنمارك، ضمن برنامج "الفنون البصرية والميديا الحديثة"، ويهدف إلى النظر إلى الحيوانات بشكل جديد وبرؤية مختلفة، ومعرض "فصائل مهددة بالانقراض"، وهو معرض واقع معزز للتوعية بالخطر المهدد الناتج عن تلوث البيئة.
وكذلك العرض المسرحي "طبخة" القائم على نص يتم تقديمه للممثل لأول مرة ليلة العرض دون أي تحضير، حيث يقوم الفنان المصري سيد رجب بتمثيل النص أمام الجمهور وهو يعد الطعام. وأيضاً العرض النمساوي "ما زلت في طنجة "، والعرض المجري "ماندالا"، وعرض الرقص المصري المعاصر "ارتكاز"، والعرض التفاعلي "خارج النطاق المحلي: تأثير تاتشر" ضمن برنامج محادثات جديدة، عن التعاون بين مصر وبريطانيا، والفيلم الوثائقي المصري "البحث عن الطرب"، الذي يحكي قصة راقصين من سويسرا يقومون برحلة إلى مصر بهدف التعرف على المعنى الحقيقي والروحي للطرب، وكذلك معرض اللوحات التفاعلي المصري بواسطة الذكاء الاصطناعي بعنوان "من الكلمة إلى النص: دمقرطة الفن بالذكاء الاصطناعي"، الذي يلقي الضوء على التطور المذهل الذي يشهده العالم نحو الفن الرقمي.
أما مؤتمرات الشعر ومهرجاناته الدولية البديلة في مصر، ومن أبرزها "مؤتمر قصيدة النثر" ومؤتمر "شعر العامية" و"مهرجان طنطا الدولي للشعر"، فإنها تأتي جميعها منحازة إلى التجارب الجديدة في الكتابة، سواء في شعر العامية المصرية وقصيدة النثر والشعر الأدائي والحركي. وهي ملتقيات جماهيرية تنعقد في الأمكنة المفتوحة (ساحة مسجد السيد البدوي، الحدائق العامة، المواضع الأثرية، إلخ)، وتعلي صوت التنوع مفسحة الفرصة للشباب لتجاوز الفزاعة النخبوية المزعومة، وتخطّي أمراض "لجنة الشعر" التابعة للمجلس الأعلى للثقافة وما تتسم به من تشرنق وتعالٍ وانعزالية ودوران في الفراغ. وتعكس هذه الفعاليات انحيازاً تامّاً للجماليات الإبداعية الخالصة، إلى جانب التلاحم الحي بين المبدع وجمهوره، والانتصار للكلمة الجديدة تحت شعار "الشعر للجميع".
ويجد الشعراء المصريون الجدد في هذه المهرجانات البديلة المجال سانحًا لإثبات الذات وتحقيق الهوية ونشر الذائقة الفنية المغايرة، تحت مظلة أن "الإبداع يسع الجميع". كما يجدون الرد العملي على ما يعانون منه من تهميش وإقصاء من مؤتمرات الشعر الرسمية بمصر، وكذلك الرد على استبعادهم من جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية في الشعر، التي يمنحها "المجلس الأعلى للثقافة" عادة للشعراء المحافظين والتقليديين والأتباع والمدجّنين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين