قبل عدة سنوات، كنت في زيارة قصيرة لفلسطين. استلزم الأمر تحضيراً كبيراً قبل خوض الرحلة لمعرفة ثقافة البلد المحلية، لكن من يقرأ ليس كمن يرى، ومن يرى ليس كمن يتذوق. كانت الجولة الحية تتضمن ما يمكن أن يطلق عليه "سياحة الطعام"، لم أرد أن أفوت فرصة أتناول فيها طعاماً فلسطينياً. اخترت أن أخصص جزءاً من الرحلة لاكتشاف الثقافة المحلية عبر تناول الأطعمة الشهيرة المطهية من قبل سكان محليين وفي أماكن تكشف عن ثقافة البلد في رام الله، والقدس، ونابلس، وبيت لحم.
حكاية "مسخّن" رام الله
أراد صديق صحافي فلسطيني أن يضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهو يعرف اهتمامي بالنسوية، ورغبتي في تجربة الطعام الفلسطيني. ذهبنا إلى مطعم تابع لجمعية "إنعاش الأسرة" مقرها رام الله بجوار موقف الحافلات. لم أعرف بما همس صديقي إلى مديرة المطعم الملحق داخل الجمعية، لكنها أومأت رأسها بالإيجاب، مبتسمة، قبل أن يخبرني صديقي أن غداء اليوم "مفاجأة".
دقائق مرت، أقبل أحدهم حاملاً صينية تحتوي رغيفاً من الخبز، سميكاً، وكبيراً يكفي عدة أفراد، ومغطى بالسماق والصنوبر والبصل المكرمل، وفوقه قطع من الدجاج المطهو في الفرن أو المحمر.
"المسخن" أكلة محلية غرضها التدفئة لما تحتويه من كمية كبيرة من زيت الزيتون المُسخن على حرارة مرتفعة، ولولا سلطة الزبادي التي تجاهلت تناولها بأكملها لكنت أصبت بحمى
لكن أهم ما كان يميز الأكلة هو وجود طبق من سلطة الزبادي، ولم أعرف علاقتها بالأطباق الأخرى إلا ليلاً. أخبرني صديقي إنها أكلة تدعى "المسخّن"، ولا غنى عنها في أي بيت فلسطيني، خاصة في الشتاء، وكانت زيارتي في ختام أكتوبر/ تشرين الأول، حينما بدأ الجو يبرد قليلاً. أصر صديقي على تناولي سلطة الزبادي أثناء تناولي "المسخن"، أكلت القليل لكني لم أقتنع. جاء الليل، عرفت ما يمثله "المسخن" من خلال ارتفاع درجة حرارتي، وكان هذا هو أول تأثير من أكلة فلسطينية. "المسخن" أكلة محلية غرضها التدفئة لما تحتويه من كمية كبيرة من زيت الزيتون المُسخن على حرارة مرتفعة، ولولا سلطة الزبادي التي تجاهلت تناولها بأكملها لكنت أصبت بحمى.
الكنافة النابلسية في نابلس
من خلال جولة قصيرة استمرت في نابلس لعدة ساعات، من الطبيعي أن تتضمن تناول الطعام، وبالأخص إحدى أشهر الحلويات، ليس في نابلس فقط وإنما في العالم أجمع، وهي الكنافة النابلسية، التي تشتهر بها المدينة. ذهبت أنا وصديقي إلى أحد أقدم صانعي الكنافة، وهو صاحب "حلويات الأقصى"، الذي تحدث معي قليلاً عن تاريخ المحل، وطريقة تصنيعه للحلوى. كان ذلك عندما شاهدت العشرات يقفون أمامه في ممر ضيق، يشبه حارات "مصر القديمة" في القاهرة، خاصة شارع المعز، ذلك الطابع الفاطمي المميز للمباني.
كان الرجال ينتشرون في الممر، يتناولون الكنافة بطرق مختلفة، ولعل الأشهر هي الطريقة التي لم أجدها في أي مكان آخر: تناول الكنافة في رغيف من الخبز الأبيض. كنت قد تذوقت الكنافة سابقاً في مصر على يد سوريين بالطبع، لكن أن تأكلها في موطنها الأصلي أو حسبما يدافع عنها فلسطينيون، فذلك مختلف، فهي تجربة مطعمة بمشهد تراثي من محل عمره أكثر من 100 عام، أقدم من وجود الاحتلال، وفي صحبة عدد من السكان المحليين. أن تكون فلسطينياً يعني أن تؤمن أن الكنافة النابلسية هي طريقة لتواصل أجيال قديمة مع أجيال حديثة. وكثيراً ما يلتقي الجيران والأصدقاء على شرف صينية كنافة نابلسية ساخنة، فوقها قطر "شربات"، وفستق مبشور، وأبريق من القهوة.
سمك وفلافل من القدس
القدس مدينة فلسطينية كما قال الكتاب، تملؤها أشجار الزيتون، الذي تعبق رائحته في أنحاء المدينة، لكن لا يتاح لكثير من الفلسطينيين دخول القدس، لأن الأمر يستلزم أحياناً تصاريح خاصة من الاحتلال، وقد يحظر على بعضهم دخول القدس نهائياً، لذلك اعتبرت دخولي تلك المدينة بمساعدة مقدسيين فرصة رائعة لحفظ أكبر قدر من الذكريات البصرية والحسية داخلي. في صباح يوم جمعة، تجولت مع سكان محليين عبر الطريق القديم المؤدي إلى الأقصى، وكطقس فلسطيني اشترينا كعكاً مقدسياً مميزاً يشبه السميط ومزيناً بالسمسم مع الفلافل المميزة لأهل فلسطين، وتناولناهما قبل صلاة الجمعة داخل المسجد الأقصى.
أن تكون فلسطينياً يعني أن تؤمن أن الكنافة النابلسية هي طريقة لتواصل أجيال قديمة مع أجيال حديثة. وكثيراً ما يلتقي الجيران والأصدقاء على شرف صينية كنافة نابلسية ساخنة، فوقها قطر "شربات"، وفستق مبشور، وأبريق من القهوة
في عدة مطاعم بالقدس، سنقرأ بجوار كلمة "فلافل"، "فلسطينية"، شعرت وقتها أنها حقيقة مؤكدة، لكن ربما تكون وسيلة لمقاومة محاولات تغيير التراث، التي يسعى إليها الاحتلال صابغاً كل شيء فلسطيني بهويته؛ فيطلق على الفلافل اسم "الفلافل الإسرائيلية" على مطاعمهم، وفي بعض المواقع الإلكترونية الموالية لهم. كان ذلك قبل أن نقرر الخروج من الأقصى والتجول قليلاً داخل حارات القدس القديمة، ولقاء السكان المحليين، والتقاط بعض الصور، ثم الذهاب إلى مطعم محلي، وتناول السمك المشوي المميز، ولأنني مصرية مولودة في مدينة شمالية أعرف أهمية السمك جيداً، فلم أرد أن أفوت هذه الفرصة لمعرفة الفارق بين السمك في مصر والسمك في فلسطين. لن أنتصر لأحدهما لأن تجربة كل منهما مختلفة، لكن المميز ما يصاحب السمك في القدس، الصحبة آنذاك والمطعم الذي أخذ طابعاً حمل في بعض أركانه ديكورات تراثية فلسطينية، معلقاً داخله مفتاحاً، ولمن لا يعرف فإن بعض الفلسطينيين الذين هُجروا من أراضيهم حمل كل منهم مفتاح بيته القديم معه، على أمل أن يعود إليه يوماً بعد انتهاء الاحتلال.
الريف الفلسطيني في بيرزيت
كنت فضولية جداً وأنا أقرأ قائمة الطعام في مطعم "الريف الفلسطيني" في بلدة بيرزيت التي تقع شمال رام الله بالضفة الغربية، فوقعت عيني على كلمة "قلاية بندورة"، فسألت صديقي: ما هي؟ قال إنها طريقة لتحضير صوص الطماطم، ومزينة بالصنوبر والبقدونس، وهي أكلة محلية فلسطينية، نادراً ما سمعت عنها في أي مطعم شامي أو فلسطيني ذهبت إليه في مصر.
رغم أننا كنا نتناول طعاماً إيطالياً متمثلاً في البيتزا فإن لمسة فلسطينية كان يجب إضافتها للقائمة، متمثلة في "قلاية البندورة"، ولا داعي لأن أقول أني أنهيتها قبل أن أبدأ بالبيتزا.
صحيح أن المطعم يبدو في طابعه عصري إلا أن ديكوراته مميزة، إذ يقدم لمحة من التراث الفلسطيني في أيقونات ساحرة تملأ المكان بموتيفات متنوعة بألوان العلم الفلسطيني. لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية المقاومة، ولا أهمية الطعام في الثقافة الفلسطينية.
تناول الكنافة في رغيف من الخبز الأبيض. كنت قد تذوقت الكنافة سابقاً في مصر على يد سوريين بالطبع، لكن أن تأكلها في موطنها الأصلي أو حسبما يدافع عنها فلسطينيون، فذلك مختلف
"مقلوبة" في بيت لحم
أغرب ما حدث أثناء زيارتي لفلسطين هو أن دعتني أنا وصديقتي سيدة فلسطينية تدعى أم محمد، التقينا بها لمرة واحدة، وأصرّت، حينما عرفت أننا مصريتان وجئنا في زيارة قصيرة، على دعوتنا إلى بيتها، وبالطبع كانت دعوة تناول الطعام، هكذا يرى الفلسطينيون وأغلب الشعوب العربية أنه دليل على الكرم، أن يدعوك أحدهم إلى وجبة كبيرة مشبعة. استقللنا سيارة من رام الله إلى بيت لحم، وهناك بحثنا في قرية العبيدية عن أم محمد وأبو محمد اللذين فشلنا في تواصلنا معهما هاتفياً بسبب رداءة التغطية، وبعد حوالى ساعة، وجدناهما في ضواحي القرية.
كان بيتاً مميزاً مكوناً من طابقين، أمامه حديقة صغيرة، وأبو محمد الثمانيني يجمع الزيتون منها في ذلك اليوم. واهتمت أم محمد، المرأة الستينية البشوشة، بنا، واستقبلتنا بحفاوة، كأنهما يعرفانا منذ زمن، وداخل صالون بسيط في الطابق الأول وجدنا صوراً لشهداء يبدو أنهم من العائلة، وصورة مفتاح بيت قديم معلق على الحائط يعود لبيت عائلة أبو محمد قبل أن يهجروه، وصوراً له في خدمة المقاومة، التي كانت في الأربعينيات من القرن الماضي.
حكى لنا أبو محمد، وأمامنا سدر كبير من المقلوبة يكفي 10 أفراد، تعلوه قطع الدجاج، عن أيام شبابه حينما كان يقطع المسافة من بيت لحم إلى القدس يومياً لأداء صلاة الظهر بالأقصى، ثم العودة إلى بيت لحم سيراً، وتندر بينما كان يأكل الدجاج ويأكل الأرز بالبطاطس على الأيام الحالية، التي فصلت فيها القدس، وتم إحاطتها بسور يستلزم حوالى 45 دقيقة لعبوره، وتصاريح خاصة للدخول.
كان تناول الطعام معهما نافذة لمعرفة جزء صغير ومهم من الثقافة والتاريخ الفلسطينيين.احتسينا عقب المقلوبة، أكواباً من الشاي بالميرمية، تم قطفها من حديقة منزلهما، وكان هذا آخر أيامنا في فلسطين، إذ عدنا إلى القاهرة في اليوم التالي محملين بروائح الزيتون، والزعتر، والميرمية، وأطعمة، وأحاديث سمر ودودة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...