تغرق الجدة فتحية، ربَّة منزل 67 عاماً، بنشوة في حنين ذكرياتها وهي تُعدّ كِمّيات وفيرة من الشعيرية والرقائق اللازمة لإعداد مشروب الأبريه، شاركت في إعداد الطعام وهي صبية الجدات والأمهات في مسقط رأسها بالنوبة أو "الجنة القديمة" كما تحبّ أن تتتخيَّلَها، تصنع خليطاً سائلاً من الماء ودقيق القمح والذرة مع الخميرة، وتصبّه على صاج، ليصبح بعد نضجه هشاً وجافاً، فتقوم بتكسيره وتعبئته لاستخدامه عند الحاجة.
هكذا تستعد الجدة قبل أسابيع من بدء شهر رمضان كل عام، وعندما تنتهي ترسل "كرتونة البلد" لأحبّائها ممَّن فرَّقهم السد العالي، الذي بني في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، واعتبره مناصروه إنجازاً قوميا، ولكن بالنسبة لها هو الذي أغرق قراهم في النوبة القديمة، وأنزلهم من جنتهم، مُشتَّتين ومُهجَّرين في شمال مصر وجنوبها.
تملأ الجدة الصناديق بكرات العرديب والشعيرية والأبريه والكركديه والدوم، ومثلها تفعل معظم بيوت النوبة، ليحمل قطار أسوان- القاهرة مئات الكراتين كل عام.
تملأ الجدة الصناديق بكرات العرديب والشعيرية والأبريه والكركديه والدوم، ومثلها تفعل معظم بيوت النوبة، ليحمل قطار أسوان-القاهرة مئات الكراتين كل عام.
وبعيداً جداً عن "الجنة القديمة" تبدأ أسرة نوبية في القاهرة، إفطارها بتناول المشروبات التي أرسلتها قريبتهم الجدة فتحية.
تعدّ منّة، وهي شابة عشرينية لم تزر النوبة من قبل، مشروب الأبريه كما أعدته أمها وجداتها قبل عشرات السنين، تصنع أكوابا من عصير الليمون والكركديه والعرديب، وتضيف لكل منهم بعض رقائق الأبريه، ليحصل كل صائم على مذاقه المُفضَّل.
لا تنسى منّة، أن تقوم صباحاً بوضع التمر المقطع في اللبن الساخن، وتعد مغلي البلح بالماء، و"تنقع" الكركديه والدوم والعرديب، لتضمهم لاحقا لصينية المشروبات العامرة بمذاقات لذيذة وصحية ولها رائحة جنّتهم القديمة.
ترسل الجدة كل عام "كرتونة البلد" لأحبائها ممن فرقهم السد، الذي بُني في عهد عبد الناصر، وأغرق قراهم في النوبة القديمة، تملؤ الصناديق بكثير من الحب، تصاحبه كرات العرديب والشعيرية والأبريه والكركديه والدوم.
الجدة فتحية وأسرتها يعدون مشروبات عديدة، ومثلهم معظم النوبيين الذين يشربون السوائل عند الإفطار متأثرين بطول فترة الصيام، وارتفاع حرارة بلادهم القابعة في الجنوب، ورغم أنّ منة وأسرتها يقيمون في القاهرة الأقل حراً، إلا أنهم ممن انتقلت لهم تلك العادة، رغم مغادرتهم الجنوب منذ عشرات السنين.
البحث عن مشروبات النوبة في شوارع القاهرة
المشروبات النوبية تجد عشاقها، فالسيدة ماجدة، 53 عاماً موظفة حكومية وتسكن في القاهرة، التي لم تزر النوبة ولم تكن تعرف حتى بوجودها، حصلت على كيس صغير من الأبريه هدية من زميلتها النوبية العائدة من زيارة قصيرة لبلدتها القديمة، ومعه بعض كرات من العرديب والكركديه والدوم، لينضموا بعدها لقائمة مشروباتها المفضلة.
سريعاً نفذت الهدية وبدأت الموظفة، الواقعة حديثا في حب مشروبات النوبة، البحث عن مشروباتها الجديدة، وشجعها كونها صحية أكثر من مشروبات الكافيين التي اعتادت عليها، وجدت الكركديه والدوم بسهولة في محالّ العطَّارين، أمَّا الأبريه والعرديب فكان العثور عليهما صعباً، حتى وصلت لباعة قريبين من منطقة تجمع للنوبيين والسودانيين بمنطقة أرض اللواء بمحافظة الجيزة المجاورة للقاهرة، وهناك وجدتهم بسهولة وبأسعار زهيدة، ليصبحوا ضيوفاً على مائدة إفطارها كل عام.
يذهب الرجال عادة لصلاة المغرب بعد تناول مشروباتهم، بينما تبدأ الحفيدات في وضع أطباق الإفطار، جهزن مع الجدة الجاكود، وهو الملوخية التي يتم إعدادها بالنوبدي أو المفراك، وأضافوا لها قليلا من البامية الجافَّة، والسخينة المعدة من صلصة الطماطم المضاف إليها لحم الدجاج أو الحمام، وخبز الدوكة والكابض الذي خبزته جدتهم.
على صوت وقع الأطباق تتذكر الجدة الصينية التي كانت تتولى تجهيزها في شبابها كل يوم طوال شهر رمضان، تضع عليها ما لذ وطاب من الأطباق التي صنعتها مع والدتها، وتسلمها لأحد إخوتها ليضعها في الساحة حيث يتجمع الأطفال، يهتفون باللغة النوبية "مالي أرجبوري"، وتعني نشعر بالجوع، حتى يأتي الرجال بعد صلاة المغرب ويفطرون معاً.
الجاكود والسخينة والكودبيه موضوعين في أطباق الكوريه البيضاء برسومها وألوانها التي تشتهر بها النوبة، ومغطاة بالتاجدي وهي أطباق كبيرة ملونة مصنوعة من جريد النخل لتغطية الطعام.
دفء عائلة الجدة فتحية المجتمعة للإفطار يذكرها بحميمية اللغة القديمة التي تفتقدها، حيث لا يتحدث معظم الصغار النوبية ولكنهم يعرفون كلمات منها، ليقطع حبل حنينها أحد الصغار "كل أشريما أناو"، أي الطعام لذيذ يا جدتي، وتصاحب خطوط تجاعيد سنين عمرها ابتسامة خفيفة بينما تتابع جدل اثنتين من حفيداتها تصر إحداهن أن أحد الأطباق "أنمبود أنرج أنيسي" أي ينقصه ملح يا أختي.
تفيق الجدة على صوت قرقعة الأطباق الصيني التي حلت محل الكوريه في معظم البيوت النوبية، وتتذكر أنَّ الإفطار الجماعي لا يحدث يومياً كما في الماضي، ولكنها ترضى بما يتم الاتفاق عليه، عدة مرات خلال الشهركمواعيد للإفطار الجماعي، وفيه تُنزل أطباق التاجدي الملونة التي صنعتها في طفولتها مع والدتها عن جدران المنزل لتغطي صواني الطعام المتجهة لساحات القرية، ومعها بهجة تغطي وجهها.
تعشق منة، المطبخ النوبي حيث يقدم أطباقاً عدة لوجبات الإفطار، تناسب أذواقاً مختلفة، وتتميز بتكلفتها الاقتصادية المحدودة.
الوجبات النوبية: "عزومات" كثيرة وتكاليف قليلة
تعشق منة، المطبخ النوبي الذي يقدم أطباقاً كثيرة لوجبات الإفطار، تناسب أذواقا مختلفة، وتتميز بتكلفتها الاقتصادية المحدودة، لذا تتمكن من دعوة صديقاتها للإفطار كل عام.
تتجنب إحدى صديقات منة دعوات الإفطار لاتباعها "النظام النباتي" وعدم توافر خيارات مناسبة لها على موائد "العزومات" الرمضانية العامرة بكثير من منتجات اللحوم والألبان، لكن الشابة النوبية أصرت على دعوة صديقتها؛ وعدتها بأطباق لم تذق مثلها من قبل، وجميعها تناسب نظامها الغذائي.
حصل أصدقاء منة، على مائدة إفطار غنية بالأطباق اللذيذة، تضم السخينة، والتي يمكن تناولها كَفَتَّة غير تقليدية، بإضافة عيش الدوكة لصلصة الطماطم المطبوخة مع لحم الدجاج أو الحمام، والكاشيد المعد من لحم الضأن مع البصل ويتخلف عن نضجه صوص لذيذ قدمته مع طبقها، وبجواره خبز الكابض الذي يشبه الرقاق المعروف في محافظات الدلتا.
لصديقتها النباتية كان أمام الشابة النوبية خيارات عديدة، ففتَّة البصل المصنوعة من البصل الصغير المحمَّر والمُضاف له عصير الطماطم تضاف إلى خبز الدوكة عند نضجها لتصبح طبقاً مختلفاً ولذيذاً، والجاكود المعد من الملوخية المفروكة، والكودبيه المصنوع من البامية المجففة، كانت كلها ضمن قائمة تختار منها ولا تكلفها الكثير.
بعد الإفطار تسرع منة النوبية المقيمة بالقاهرة، وواحدة من حفيدات الجدة فتحية التي تعيش في إحدى قرى التهجير ، إلى مطبخها لتعد الإتشي كول أو مشروب الشاي بالحليب، الذي يبدأ النوبيون في الأيام العادية يومهم بتناوله، ولهم طريقتهم الخاصة في إعداده على بساطته، فالشاي يجب أن يكون ثقيلاً ومغلياً، ويُضاف له قليل من اللبن الساخن.
الحلوى نوبية أيضاً، فالشعرية التي أعدتها الجدة قبل رمضان تقوم الحفيدات بطهوها مع إضافة اللبن أو الماء والسكر، ليحصلن على مذاق مُميَّز يختلف عن مثيلتها التي تباع في الأسواق، وتضم الشابات الأرز باللبن أيضا لقائمة التحلية، بالإضافة للحلوى الشرقية التقليدية كالكنافة والقطايف.
في السحور تقدم منة وحفيدات الجدة فتحية، "الملاح نصي" أو اللبن الرائب، بالإضافة للشيعرية المصنوعة منزلياً، ويخلط البعض اللبن الرائب مع الكنافة لتمنحهم الكنافة المُحلَّاة الطَّاقة، ويُجنِّبهم الرائب الشعور بالعطش، كما يُفضّل بعض أفراد الأسرة تناول الأبريه مرة أخرى استعداداً ليوم صوم لا يشعرون فيه بالعطش.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com