أمل كبير ببعض الإنصاف التاريخي، وببعض التسهيلات في زمن الحرب، هذا ما زرعه قرار اليونسكو بإدراج عنصر صناعة العود والعزف عليه في سوريا على قائمة التراث الإنساني الثقافي اللامادي.
لم تكن صناعة العود السوري بمنأى عن تبعات أحداث العقد الأخير، حالها حال كل شيء في البلاد، فالألحان الممتعة السعيدة التي قدمتها هذه الأعواد إلى العالم بلغها الحزن كما بلغ صنّاعها، فهل تنجو صناعة العود الأقدم في العالم من آثار السنوات العشر الأخيرة كما نجت من 4000 عام قبلها؟
للإجابة على هذا السؤال زار رصيف22 بعض أهم ورشات صناعة العود في دمشق القديمة، والتقى بشيوخ الكار وببعض أشهر العازفين والصنّاع ممن توارثوا هذه المهنة من آبائهم وأجدادهم كما توارثوا أسماء عائلاتهم.
احتفال شيوخ الكار
رشا برهوم هي المساعد التنفيذي في برنامج التراث الحي في الأمانة السورية للتنمية، ومن المشتغلات في ملف الترشيح المشترك السوري-الإيراني، تشير إلى أن الأمانة السورية للتنمية كانت قد حضرت بكامل فرقها وبشكل متزامن، لقاءات على هامش منتدى المنظمات الدولية في مركز التراث اللامادي في طهران، وهناك تم طرح فكرة إعداد ملف مشترك حول صناعة العود والعزف عليه، وأن العمل على هذا الملف مستمر منذ العام 2018، حيث تم حصر مئة عنصر من التراث الحي في سوريا ومن ضمنها صناعة الأعواد.
تقول: "التقى فريقنا شيوخ الكار الذين أبدوا تخوفهم من خطر يهدد الحرفة خاصة في فترة الحرب، وهذا دعَم زخم تواجد الملف في اجتماعات اليونيسكو. بالتعاون مع وزارة الثقافة أعددنا ملفاً علمياً متكاملاً عن كل ما يخص صناعة الأعواد والعزف عليها، مرفقة بأفلام مصورة وصور فوتوغرافية لورشات وممارسي المهنة".
اعتراف اليونسكو سيُساهم في انتشار آلة العود عالمياً، وبالتالي في انتشار التجارب الموسيقية لعازفي الـ"سولو"، أو المؤلفات الأوركسترالية المخصصة للعود
برهوم تعدُّ النجاح في إدراج العود على لائحة التراث الإنساني لليونيسكو إنجازاً حقيقياً بعد عشر سنين من حربٍ طالت الهوية والوجود والثقافة، تقول: "هذا جعلنا نحتفل به مؤخراً يومَ الاحتفالية في دار أوبرا دمشق".
أما قائدُ الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية وعازفُ العود عدنان فتح الله، فيرى أن اعتراف اليونسكو سيُساهم في انتشار آلة العود عالمياً، وبالتالي في انتشار تجاربهم الموسيقية كعازفي "سولو"، و المؤلفات الأوركسترالية المخصصة للعود، مثل مقطوعة السوري نوري إسكندر"كونشيرتو العود من ثلاث حركات"، والتي أثبتَ فيها أن العود آلة مرنة مطواعة ومنسجمة في عزف النمط الكلاسيكي الغربي للموسيقا، وليس فقط في التخت الشرقي الأصيل.
ويضيف من موقعه كعميد للمعهد العالي للموسيقا: "هناك شيء آخر مهم باعتقادي في سوريا، هو أن ذلك سيُحملنا المسؤولية كمؤسسة تعليمية لنتفق على منهاج علمي شامل لتعليم العود، يمكن تطويره بتراكم التجارب المتميزة، مع أمنية أن يتشجع الناس وطلاب العود أنفسهم على أن يمتهنوا حرفة صناعة العود".
مثل الياسمين والورد الجوري
في حديثه لرصيف22 يرى الأستاذ حسين السبسبي الصانع وعازف العود الذي تتلمذ على يد الموسيقي نديم درويش، وأمير البزق محمد عبد الكريم، والعراقي الراحل منير بشير أن إدراج العود على لائحة التراث الإنساني لليونيسكو هو فرح كبير له كموسيقي، لأنه يذكر الناس أن العود موجود في سوريا منذ 4000 سنة، وأن صناعته متجذرة في وجدان السوريين مثل الياسمين الشامي والوردة الجورية والسيف الدمشقي، كجزء من التراث العالمي المعجون بالجمال الذي يعني كل العالم.
وقد كانت الأمانة السورية للتنمية قد تواصلت معه، حيث أشرف بشكل غير مباشر على ما جمعوه من معلومات ووثائق، كما كان لمساعدته دور مهم في معرفة إلى من يتوجهون من صنّاع العود الأهم.
وعن ميزة العود الدمشقي، يقول: "ميزة العود الدمشقي أو للدقة السوري متأتية من مهارة الصنّاع، فمثلاً أفراد عائلة النحّات صنعوا آلات أقرب إلى معجزات صغيرة لن تتكرر، لأنهم كانوا يعتمدون على العمل بمزاج عال، ويشتغلون أياماً طويلة لإنجاز عود واحد. وقد اقتنى من أعوادهم المميزة الراحل وديع الصافي".
أحد شيوخ الكار: "إدراج العود على لائحة التراث الإنساني سيذكّر الناس أن العود موجود في سوريا منذ 4000 سنة، وأن صناعته متجذرة في وجدان السوريين مثل الياسمين الشامي والوردة الجورية والسيف الدمشقي"
أما أهم الفنانين العرب الذين اقتنوا وعزفوا على أعواد السبسبي فعبادي الجوهر، شربل روحانا، نصير شمة، ومارسيل خليفة، وغيرهم الكثير.
لا يرى السبسبي أن الشكل الذي وصل إليه العود السوري حالياً هو ما يميزه، لأن الشكل فعلياً مشترك مع الوطن العربي كله، بالإضافة إلى تركيا وإيران واليونان. ويشرح: "بالنسبة لي تكمن الخصوصية في الذاكرة، في المنمنمات المتعلقة بنا مثل العادات والتقاليد، فالذاكرة هي كل ما سمعه العازف والصانع من موسيقا هذي البلد. هكذا يصبح صوت العود السوري في قلب العازف السوري، بل ويمسي استحضاراً لكامل مخزونه الفكري والثقافي والاجتماعي والديني والموسيقي منذ الفارابي وصولاً إلى عمر البطش الحلبي، وأبو خليل القباني الدمشقي".
عود فريد الأطرش
منصور فؤاد حيدر هو ابن صانع العود والعازف والشاعر الراحل فؤاد حيدر، الذي تعلم المهنة من والده، منذ حوالي 37 عاماً، وعشق كل ما له علاقة بها من أخشاب الجوز والورد والأرز، وروائحها وألوانها التي جذبته وجعلته يقضي معظم حياته داخل الورشة التي ورثها عن والده.
من أهم الفنانين العرب الذين اقتنوا وعزفوا على أعواد السبسبي عبادي الجوهر، شربل روحانا، نصير شمة، ومارسيل خليفة
يقول: "نتمنّى أن يساعدنا إدراج صناعة العود والعزف عليه في زيادة تسويق الآلة وبيعها لمزيد من الناس داخل وخارج البلد، أحد المشاكل التي تواجهنا هي أن مهنتنا مصنفة كمهنة صناعية لا ثقافية، والفرق أننا نحاسَب على التكاليف من حيث الضرائب وتسعيرة فواتير الكهرباء وتواجد المكان على أساس صناعي وتجاري، بدلاً من أن نتلقى الدعم، لكننا نتأمل خيراً الآن".
يروي حيدر لرصيف22 عن العائلات التي امتهنت الحرفة في سوريا، فيذكر عائلة من عائلة النحّات حنّا وروفان من الجيل المؤسس، وهؤلاء هم أول من بدأ صناعة العود في حيّ القيمرية في دمشق القديمة منذ العام 1890، وآخرهم جرجي النحات في الخمسينيات من القرن الماضي.
وهناك الأرمني سِنباط ديربدروسيان في دمشق الثلاثينيات، ومهران ميسسيان. ومن دمشق أيضاً بيت الوتّار في الثلاثينيّات الذين اشتهروا بصناعة أوتار العود من أمعاء الغنم، فكانوا يجففونها ويجدلونها ويبيعونها لورشات صناعة العود.
أما في حلب بحسب حيدر فاشتهر أنطوان أبرص، وجميل قندلفت الذي صنع عوداً خاصاً لفريد الأطرش كتحية لعظمته الموسيقية، وكان عوداً مطعّماً بالموزاييك ظهرَ مع فريد الأطرش في معظم أفلامه وصوره الشهيرة.
وفيما يخص الصعوبات التي تواجهها صناعة العود فيتحدث مع رصيف22 صانع الأعواد الشهير المهندس إبراهيم سكر من حلب، وهو أوّل من أدخل الليزر إلى هذه المهنة في التسعينيات، وأول مَن صنّع بيتا للعود من مادة "الفايبر" لحمايته أثناء الشحن وسفر العازفين، يقول: "تصنيف ورشات صناعة العود ضمن ورشات نجارة الخشب يظلم عراقَة المهنة وحقوق الصناع المعنوية والمادية".
صنع جميل قندلفت عوداً خاصاً لفريد الأطرش كتحية لعظمته الموسيقية، وكان عوداً مطعّماً بالموزاييك ظهر معه في معظم أفلامه
فيما عانى السبسبي من صعوبات في موضوع الاستيراد نتيجة الحصار وتبعات الحرب، يقول: "بعض الشركات تُبلغنا بأنها غير مسؤولة عن فقدان شحنات الخشب المرسلة إلينا، وحصل معي شخصياً أنني تعرضت للنصب من شركات وهمية دفعنا لها مبالغاً خيالية، ثم تبين أنها غير مسجلة في بلد المنشأ، وهكذا ضاعت الشحنة والمال والتعب".
أول صانعة أعواد
لعل ولع السوريين بآلة العود جعل نسغ الأجداد يسري في عروق الأحفاد، فها هي ماري الطويل ابنة صانع الأعواد الدمشقي أنطون الطويل تروي لرصيف22 حكايتها، تقول: "كنت في طفولتي أدخل ورشة جدي إبراهيم الطويل في الشام القديمة، ألعبُ بالأخشاب وعلب الصمغ والألوان، أشاكسهُ وأدور حوله، وقد أخرب له ما اشتغله في محاولة مني للفت نظره. حتى صنَع لي مرسماً خشبياً خاصاً بي ليتخلص من شقاواتي، ثم عندما كبرت وتقريباً في عام 2008 طلبتُ من والدي أنطون الطويل أن أعمل معه في ورشته في سوق المهن اليدوية، استغربَ واعتقد أنني أمازحه، لكنه عندما وجد محبتي الشديدة للرسم وزخرفة قمرات العود (الشمسيّات التي توضع على فتحات العود) علمني أسرار المهنة، وشجعني لأشتغل يدوياً في تخريق وتفريغ الزخرفات، ثم تعلمت كيفية تجميع صدر/وجه العود بالغراء والكاوي، وبعدها تطعيم الصدر بالموزاييك، وكل ذلك يدوياً لأننا لا نستخدم الآلة في صناعة أعوادنا.
أفراد عائلة النحّات صنعوا آلات أقرب إلى معجزات صغيرة لن تتكرر، لأنهم كانوا يعتمدون على العمل بمزاج عال، ويشتغلون أياماً طويلة لإنجاز عود واحد. وقد اقتنى من أعوادهم المميزة الراحل وديع الصافي
شاركت ماري في معرض طريق الحرير، ومهرجان الضيعة، وفي مهرجان شيوخ الكار في محطة الحجاز في دمشق، ويومها حصلت على شهادة "شيخة الكار في صناعة العود"، تقول "بحسب علمي أنا الصبية الوحيدة التي تعمل في هذه المهنة في سوريا".
وحول ردود الفعل، تقول: "ردود متباينة، قلة مَن وجد ذلك تميزاً، للأسف معظمهم استهجنَ وجودي في مهنة تُعد مهنةَ ذكور، في حين أذكرُ أن الأجانب الذين تواجدوا قبل الحرب كانوا يبتهجون ويطلبون أن يلتقطوا صوراً تذكارية معي. أتمنى أن أتمكن من الاستمرار، فأنا رغم شغفي الشديد بهذه المهنة متزوجة، وعندي أولاد أحدهم في البكالوريا وبحاجة إلى دعمي وتفرغي له، كما أنني شخصياً طالبة في السنة الرابعة باختصاص سياحة".
ماري الطويل ليست الوحيدة من السوريات اللواتي ورثنَ جينات "أورنينا" المغنية في معبد عشتار في مملكة ماري القديمة، إذ تألقت الكثيرات في عوالم العزف على العود مثل: عبير حسون، وماري نعيم، ورحاب عازر.
يختم فتح الله بقوله: "نأمل أن يلفتَ هذا الإنجاز أنظار أصحاب رؤوس الأموال لكي يدعموا وينتجوا -على غرار شركات الإنتاج الدرامي-مؤلفات موسيقية يكتبها شباب سوريون مبدعون، خاصة أن لدينا تجربة معاصرة مهمة ومميزة هي "رباعي العود السوري" الذي أسسه وكتب. مؤلفاته الأستاذ والعازف محمد عثمان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 8 دقائقحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...