شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حرية المعتقد في المغرب... مذاهب وديانات

حرية المعتقد في المغرب... مذاهب وديانات "مُحاصَرة" في انتظار التحرّر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 17 ديسمبر 202204:40 م

إذا كان "لكل إنسان الحقّ في حرية الفكر والوجدان والدين"، فإن حقّه وحريته في المغرب، كما في كثير من بلدان الجوار، يُعدّان أمراً يقع "تحت طائلة القانون". والحريات الدينية في المغرب هي أشكال مختلفة من التدّين والإيمان، لكنها موقوفة التنفيذ في الواقع، حتى تكون إسلاميّةً وسنّيةً بشكل خالص.

مع ذلك، يبدو أنّ الدولة المغربية صارت تتعامل بمرونة مع الحساسيّات الدينية، بما أنّهم يستطيعون تنظيم لقاءات وندوات فكريّة... إلخ. هكذا، أصبحت، في المقابل، المواضيع المتّصلة بحرية العقيدة أو حرية التّدين خارج صندوق "التابوهات" المسكوت عنها، أو اللا مُفكَّر فيها. لقد كان النقاش في السابق متعثراً بفعل ارتباط هذا الموضوع بالجانب الروحي للمجتمع المغربي "المسلم"؛ ولأنه أيضاً موضوع يدخل في سياق المتعارف في الأدبيات الفكرية والسوسيولوجية، الثالوث المقدس/ المحرم: الدين والجنس والسياسة.

معتقدات محاصَرة

لمعاينة "الحصار" الذي يمارَس على حرية العقيدة في المغرب، ومعرفة مدى حدّته، وهل هو واقع أو مجرد مزايدات، تواصل رصيف22، مع أشخاص منتمين إلى حساسيات دينية مختلفة، منهم بهائيون وشيعة ومسيحيون وملاحدة أيضاً غادروا أفق العقائد برمّتها.

يلخص يزيد، 28 سنةً، وهو بهائي مغربي، مشكلة المغرب في أنه ليس ثمّة قانون صريح يجرّم حرية المعتقد، أو الخروج من ملّة الإسلام إراديّاً. لكنّ الفصل 220 من القانون الجنائي، يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أشهر وثلاث سنوات، حسب كل شخص، كل من "استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى". هذا الفصل فضفاض جداً، فأي محاولة منك للمجاهرة بدينك قد تُعدّ، ربّما، سعياً مبيّتاً إلى نشر ديانتك، وهي بالضرورة ديانة مخالفة لـ"لدين الرسمي للمملكة المغربية".

في المغرب ليس ثمّة قانون صريح يجرّم حرية المعتقد، أو الخروج من ملّة الإسلام إراديّاً. لكنّ الفصل 220 من القانون الجنائي، يعاقب بالسجن كل خارج على "دين الدولة"

يرى يزيد أنّ "غير المسلمين معرضون لكي يصبحوا متهمين بغتةً بزعزعة عقيدة المغاربة"؛ وأضاف: "سيقولون إننا نمعن في إقناع المغاربة بتغيير دينهم إلى دين آخر. هذا سيفتح باب النيران علينا، إما بتحريك المسطرة القانونية من طرف النيابة العامة، وإما سيقوم بعض المتطرّفين برفع دعوى قضائية ضدك غيرةً على دينهم".

"الزجّ بنا في السجن ممكن"، وفق تعبير المتحدث، لهذا يضيف: "إنّ محنة العقائد المحاصَرة تتلخص قانونياً في هذا النص القانوني؛ بما أن الفصل 220 يحتملُ العديد من التأويلات. طبعاً، لم نشهد في السنوات الأخيرة أي مشكلات قانونيّة باسم المعتقد ونعيش حياتنا بشكل عاديّ، ونمارس حياتنا بأريحية كبيرة مقارنةً مع الماضي، بيد أنّ استمرار وجود الفصل في حد ذاته مشكلة بالنسبة إلينا تهدّد وجودنا".

إذا كان يزيد حكى تفاصيل الفصل 220 من قانون العقوبات المغربيّ، فإنّ الشيعيّ المغربيّ سعيد، 38 سنةً، يجدُ أنّ "خطاب اليقينيات هو السّبب في كلّ ما يحصل. المؤمنون السنّيون، المغاربة، على يقين أنّ الإسلام السنيّ هو الصّحيح، ونحن نرى أنّ التشيع هو الأصل، بعد ما جرى منذ الأمويين من مجازر باسم أهل السنّة والجماعة. بيد أنّ نقاش السنّة والشيعة قديم، نحن الآن لا نتحدث عن الطوائف، لأن كلّ فرد منا يعتقد بصوابية ما يعتنقه، ولكلّ فرد الحقّ في أن يعتنق ما يشاء".

"سيقولون إننا نمعن في إقناع المغاربة بتغيير دينهم إلى دين آخر. هذا سيفتح باب النيران علينا"

هذه الأسباب، في تقدير سعيد، تجعل نقاشنا حول حرية الضمير معاصراً بالإطلاق، فهو "لا يتم باسم الماضي. نحن نريد حرية العقيدة هنا والآن. لا نناقش الصواب والخطأ لأن الإيمان شيء صعب أن يُنسف. نناقش حقّاً مهضوماً. نريد أن يصبح الدين عامل توحيد في دولتنا وليس عامل تفرقة بين مسلم وغير مسلم. نريد أن يعيش الكلّ في كنف دولة آمنة تحفظ كرامتنا، وتبين لنا واجباتنا التي لا ينبغي نهائيّاً أن تتعارض مع القانون".

كخلاصة، يقول المتحدث: "نحن نتصور أنّ تديّننا ليس منقوشاً على بطاقة هويتنا الوطنية، لهذا من الصواب ألا يناقَش أساساً. إلاّ أنّ ثمّة مشكلة أخرى هي أنّ بلدنا يقرّ دستورياً أنه "دولة إسلاميّة"، ومن ثمّ التعدّد العقائدي مسألة معقدة جدّاً. هذا الإقرار جعل السياسات الرسمية بكاملها توضع على مقاس مسلم سنّي مالكي وأشعري العقيدة. وهذا الوضع يجعلنا، بالتّبعة، مجبرين على العيش، كمسلمين أو كسنّيين من المهد إلى اللّحد. أنا شيعي، ولكني مسلم ابتداءً، فهل التشيع يعني الخروج من الإسلام؟ أو الدعوة إلى دين جديد مثلاً؟ هناك خلط غريب ومريب".

أمّا رئيس اتحاد المسيحيين المغاربة، آدم الرباطي، فيجزمُ بأنّ من يقول إنّ الإسلام دين الدولة يردّد خدعةً فقط. الدولة بمعناها المجرد لا دين لها؛ والدولة المغربية تعي بأنها "حبلى" بزخم من المواطنين من ديانات مختلفة، وهم مغاربة وولدوا مغاربة ويسكنهم حبّ المغرب. "لسنا أجانب مقيمين كما يتصورنا البعض؛ وسياسات الدولة لا بد أن تراجَع لأننا بدورنا مغاربة، وحرية المعتقد هي الحلّ لكي ننال حقوقنا كبقية المواطنين الآخرين"، يقول.

أنا شيعي، ولكني مسلم ابتداءً، فهل التشيع يعني الخروج من الإسلام؟ أو الدعوة إلى دين جديد مثلاً؟ هناك خلط غريب ومريب

يعدّد الرباطي لرصيف22، مطالب المسيحيين المغاربة، ولعلّ أولها أن يتمكنوا من الزواج بشكل مدني وعلى الطريقة المسيحيّة، وألا يبقى العقد الإسلامي مفروضاً عليهم. يلجأ المسيحيّون إلى العقد الإسلاميّ لأنه لا بديل منه، فهو الذي يخول الولوج إلى "الحالة المدنية" (القيد العائلي) وتسجيل الأطفال... إلخ.

يأمل الرباطي، أخيراً، أن "نحسم مع العبادات التي تتمّ في السّر، وأن تكون لنا حرية ممارسة شعائرنا في العلن أيضاً وفي كنائس مغربية معترف بها رسمياً، وأن يكون لنا الحقّ في اختيار أسماء لأطفالنا المسيحيين، وأن تكون لنا مقبرة خاصّة بنا وفق طقوسنا المسيحيّة الإنجيلية وطرق الدّفن المرتبطة بديننا، وفي الأخير إزالة مادة التّربية الإسلاميّة والاستعاضة عنها بالتّربية الدينية".

المجتمع متّهم؟

ربّما، تغدو مشكلة المجتمع قابلةً للفحص حين نراها من زاوية "الأقليات الدّينية". مثلاً، يقول عدنان، وهو ملحد مغربي يبلغ من العمر 26 سنةً، إنّ هناك عنفاً قوياً يغفو داخل وجدان الأغلبية، يتلخص في بعض الأحيان بتغيير المنكر باليد.

في تواصله معنا يقدّم عدنان، نموذجاً ملتقطاً من حياته المعيشة. يقول: "لا أصوم رمضان، لكن لماذا سيشعرُ المسلم بأنني أستفزه؟ حين أفطر أفكر في أنّني لست مسلماً، ومن حقي أن آكل حين أشعر بالجوع أو أشرب حين أشعر بالعطش. فلماذا عليّ أن أتخفى داخل بيتي وأنا لم أقم بأي أذى جسديّ أو اعتداء على الصائمين؟ قد تعرضك الأغلبية للاعتداء الجسدي، خصوصاً إذا صادفت جماعةً من المتعصّبين المستعدّين للقيام بأيّ شيء. أتصور أنّ الفصل 222، المجرّم للإفطار العلني، يحمل لنا ضرراً كبيراً ويتنافى مع جوهر حرية العقيدة.

بما أنه ملحد خارج نطاق كلّ الملل، فعدنان، بالرغم من ذلك، يرى أنّ المجتمع يدفعك أحياناً لكي تكون منافقاً. قد لا يتقبّلك إذا ولدت مسلماً وغيّرت دينك أو خرجت من حدود الدين. "المجتمع" يؤمن بأن حكم الردّة القتل. هذا ما يردَّد على مسامعنا كثيراً. لكن الجميل أنّ المغاربة محصّنون من تطبيق هذا التفكير المتطرف. التطرف موجود في خطاب المغاربة، وفق المتحدث، لكنّه مكبّل، ولا يمكن أن يصير أحداثاً إرهابيّةً ضد المختلفين عقائدياً.

"لا أصوم رمضان، لكن لماذا سيشعرُ المسلم بأنني أستفزه؟ حين أفطر أفكر في أنّني لست مسلماً، ومن حقي أن آكل حين أشعر بالجوع أو أشرب حين أشعر بالعطش"

في النهاية، يقول محدّثنا إنّ "خطاب الكراهيّة لا زال قوياً عند الفئات الشعيبة، ولعلنا نلاحظ ذلك في التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي على مختلف المضامين التي تبيّن وجود حساسيات دينية أخرى داخل المجتمع المغربي وتتقاسم هموم هذا المجتمع الدنيوية. تقبّل الآخر المغاير دينيّاً يبقى رهيناً بدرجة الوعي عند المغاربة، فهناك من يستمع بأمانة إلى شيوخ السلفية ويردّد ما يبثونه من سموم في ذوات المسلمين، وهناك من يصغي إلى نور عقله دائماً، ولا يخضع أيّ شخص للتنميط بسبب تدينه أو معتقداته كيفما كانت".

في المنحى ذاته المتعلق بالمجتمع، يشعر الشيعيّ سعيد، بالحيف بفعل اختلال الموازين "الدينية" في معيشة المغاربة؛ يتحدث قائلاً: "يقول المسلمون إنّ علينا أن نحترم شعور الأغلبيّة، لكن تلك الأغلبية تحتفل بعاشوراء بالرغم من أنها نكسة نفسيّة حقيقيّة تذكّرنا بمقتل الحسين نحن الشّيعة. السنّيون يخلقون من إيماننا نكتاً. يصفوننا بالحمقى ويضحكون على أئمتنا، ولكنك لو فعلت الشيء ذاته ضدّ المسلمين قد تحاكَم بتهمة ازدراء الأديان.

الغريب، بالنسبة لسعيد، أنّ المغاربة المسلمين تعايشوا منذ قرون مع اليهود. والمكون اليهودي يعيش حياته بشكل عاديّ ويمارس التجارة ومختلف المعاملات، والمغاربة لا يحملون أي ضغينة تجاه اليهود، بالعكس هناك اعتزاز بهذا التعايش الذي كان منذ زمن طويل. هذا يجعلنا نتساءل: لماذا يتقبل المجتمع يهودياً ولا يتقبل مسيحياً أو شيعياً أو بهائياً أو ملحداً؟ في الواقع، لا نجد مشكلات في المجتمع، لكن النظرة السطحيّة إلى التشيّع والأحكام الظنية لا زالت قويةً عند عامة الناس.

تعايش قديم... لكنه محدود

يرى الباحث السوسيولوجي مصطفى بنزروالة، أنه لو أردنا أن نقارب الموضوع من زاوية علم الاجتماع، ستكون القراءة المتأنية لطبيعة النسق الاجتماعي السائد، والبنية المركبة للمشهد الاجتماعي مغربياً، موحيةً بأن حريّة الضمير في المغرب تُمنح من خصوصيّة متفرّدة، فعلى مرّ التاريخ عرف المجتمع المغربي نوعاً من التعدد الثقافي والديني، بالنظر إلى وجود مكونات دينية مختلفة، وعلى رأسها المسلمون واليهود.

حرية المعتقد، حسب ما فسره بنزروالة، لرصيف22، ليست بالمعطى الطارئ على طبيعة البنية الاجتماعية بقدر ما دبّر المغاربة منذ قرون خلت اختلافاتهم العقدية والدينية والثقافية، بمنطق التعايش والسلم واحترام الاختلاف، كما أن تعايش المغاربة وقربهم من ثقافات أخرى واحتكاكهم بتجارب حضارية أخرى، ساهما في الاستعداد الدّائم لقبول الآخر المختلف ثقافيّاً ودينيّاً.

لماذا يتقبل المجتمع يهودياً ولا يتقبل مسيحياً أو شيعياً أو بهائياً أو ملحداً؟

لكن "الانفراج على مستوى الذهنيات والتمثلات الخاصة بحرية المعتقد عند المغاربة، ساهمت فيه وبشكل كبير المنظمات الحقوقية، والهيئات المدنية المشتغلة في المجال الحقوقي، بحيث جعلت هذه الهيئات من دعم الأقليات الدينية جزءاً من أنشطتها وأجندتها"، يقول بنزروالة، ثم يواصل: "هذه الهيئات الحقوقيّة احتضنت النقاش الفكري والأيديولوجي وسهرت على تأطيره معرفيّاً بجانب مؤسسات أخرى كالجامعات، والمدارس العليا. وبعض الكتابات لمثقفين وباحثين تؤسس لنقاش معرفي وأكاديمي حول حريّات المعتقد في المغرب".

بالنسبة للمتحدث، لا يمكن الحسم والتسرّع في القول إن المغاربة طبّعوا مع الحريات الدينية، والعقائدية، بشكل مطلق؛ لكن هذا لا يمنع كذلك من القول إنّ هناك انفراجةً حقيقيةً في تمثلات المغاربة حول الاختلاف الديني والعقائدي، وهو ما يتجسد في الملموس في أحيان كثيرة على منصّات التواصل الاجتماعي، وعلى تطبيقات التراسل الفوري، إذ تشهد هذه المواقع نقاشاً حقيقياً حول المعتقد وحرياته.

اليوم، نجد مواعيد لمناظرات وحلقات نقاشية، تتطرق إلى الإلحاد، التدين، والمذهبية، ونقاشات عقائدية وفلسفية وأخرى فكرية توحي بالملموس بأننا تحولنا فعلياً من الحريات الدينية كـ"تابو" إلى الحريات الدينية كموضوع عادي للنقاش وهو مؤشر حقيقي على التحول النوعي لتمثّل المغاربة للاختلافات العقائدية والدينية نحو قبول وتقبل أكبر من سياقات التسعينيات من القرن الماضي على الأقل. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard