لم يعد عليّ (اسم مستعار- 27 سنة)، مجبراً على إخفاء معتقداته الشخصية، أو حتى أن يساير القناعات السائدة في مجتمعه، الآن بات لادينياً فكراً وممارسة، لكن خارج بلده المغرب.
"لم أُطِقْ أن أساير أنماط وتقاليد مجتمعي، أردت أن أمارس قناعاتي بحرية وراحة، كما تصورتها. لذلك هاجرت نحو هذا البلد الآسيوي"، يقول الشاب العشريني، الذي تحفظ على ذكر اسمه، أو البلد التي هاجر إليها، حرصاً على إخفاء هويته.
كثيرا ما يواجه الملحدون واللادينيون في المغرب، كحال دول عربية عديدة، نظرة ضيقة واختزالية مثقلة بالأوصاف الجاهزة.
"شخصياً، أتفهم عدم قبول المؤمن للملحد، أتذكر نفسي عندما كنت مؤمنة، كنت أرى الملحد/اللاديني على أنه مرادف للنجاسة والقذارة، وبكونه حطباً لجهنم، ولن يرى الله وجهه"، تقول نهيلة (23 عاماً) تعمل مبدعة محتوى في المواقع الإلكترونية، وتسكن الدار البيضاء.
يضطر العديد من الملحدين واللادينيين إلى إخفاء قناعاتهم وأفكارهم، وغالبا ما لا يترجمونها إلى ممارسات في حياتهم اليومية، ومازال الكثير منهم تحت كنف العائلة التقليدية، وما تفرضه من وصاية وأنماط سلوكية، إضافة إلى القوانين التي تجرّم الخروج من الدين الرسمي، في ظل مجتمع يوصف بكونه "أحادياً لا يؤمن بالاختلاف".
ماذا يحدث لو كشفت إلحادك؟
لم يكن عليّ أفضل حالاً عندما كان بالمغرب، إذ واجه مشاكل، وعراقيل كثيرة ليجاهر، ويعبّر، ويمارس قناعاته بلا مواربة، أمام مجتمعه المُصغَّر.
"رغم أنَّ أفراد عائلتي متعلمون، وحاصلون على شهادات عليا وجامعية، ولديهم ما يكفي من المستوى الثقافي والمعرفي، إلا أنهم لم يقبلوا فكرة تواجد لاديني بينهم، وهو أمر قد يعرضني للنبذ والسخط"، يقول عليّ.
"شخصياً، أتفهم عدم قبول المؤمن للملحد، أتذكر نفسي عندما كنت مؤمنة، كنت أرى الملحد/اللاديني على أنه مرادف للنجاسة والقذارة، وبكونه حطباً لجهنم، ولن يرى الله وجهه"
في الأعياد والمناسبات، يجد علي نفسه مضطراً لإخفاء مواقفه المعارضة للطقوس الدينية.
يقول عليّ لرصيف22: "في رمضان مثلاً، لا أستطيع أن أفطر بشكل علني، وهذا ما حصل لي عندما شاركت السكن مع شخص مسلم، كنت دوماً حذراً، لا أظهر له فعل الإفطار، أحياناً آكل في المرحاض، وتارة أخرى أخفي آثار الأكل...موقف تكرر معي، أحس وكأني مجرم".
ويضيف علي: "أما في عيد الأضحى، فإن أفصحت عن معارضتي الشديدة لذبح الأضحية، فقد يعتبر الآخرون الأمر قلة رجولة، خصوصاً العنصر الأنثوي، لذلك ألجأ للتحفظ عن مواقفي تجاه هذه الطقوس".
كثيرا ما تحاشى الشاب العشريني مجادلة أصدقائه وزملائه المدرسين في العمل، عن مواضيع جدلية تخص الدين والوجود، بعد أن واجه ردة فعل وصلت لحد التكفير والتشهير به.
"ستخسر أعز أصدقائك فقط عندما تفصح لهم عن لادينيتك"، ويكمل علي حديثه: "والأكثر من ذلك، لا يمكنني أن أُعبِّر عن قناعاتي، وأفكاري على السوشال ميديا. باختصار، أعيش حالة من الازدواجية، جزء لذاتي وآخر لمجتمعي المصغر".
"أخفي إلحادي حتى لا أصدمهم"
على حسابها الفيسبوكي، لا يظهر على أمال، اسم مستعار، (23 عاماً) ما يشي بإلحادها، صور معدودة مع غطاء الرأس، قليل من المنشوراتـ ومحتوى لا يثير الاستفزاز أو يعبر عن مواضيع ذات طابع إلحادي.
"لا أشارك قناعاتي على السوشال ميديا، خصوصاً تلك التي تبدي انتقاداً أو سخرية من الدين"، تقول أمال، وتضيف لرصيف22: "لكن لا أخفي قناعاتي أمام أصدقائي المقربين، أو حتى مع الأشخاص الذين تربطني معهم تجربة عاطفية، أعبر عنها بوضوح".
تجد الشابة العشرينية صعوبة في التعبير عن إلحادها أمام أفراد عائلتها، وتحاول أن تجاهر به بالتدريج، تقول أمال: "أخفي إلحادي مخافة أن أصدمهم وأجرحهم خصوصاً والدي أو حتى أتصادم معهم، لا أريد أن أخسرهم".
بالموازاة، لا تخفي الشابة العشرينية ولعها بأجواء المناسبات الدينية، لذلك لا تجد غضاضة في مشاركة تلك المشاعر في الأعياد والمناسبات الدينية، إذ تعتبرها فرصة متجددة للبهجة والتشارك والاحتفال بالحياة.
أما في حياتها المهنية، فلا تنكر بأنها تعيش حالة من الازدواجية في عملها كمدرسة للغة الإنجليزية، بمنطقة محافظة غير بعيدة عن الدار البيضاء.
تحكي أمال: "هنا لا أستطيع أن أخرج طلابي من منطقة الراحة (comfortable zone)، فحينما يطرح طلاب معيّنون أسئلة جدلية، أحاول دوماً أن أناقش بشكل محايد، لا أريد أن أدخل في صراعات ضيقة مع زملائي، وأيضاً مع الوسط الذي يظل محافظاً جداً ومنغلقاً على ذاته".
"أجاهر بإلحادي لماما"
"أجاهر بإلحادي لماما، لكن أحس بأن أبي وإخوتي يعرفون ذلك"، تقول عائشة (19 سنة).
رغم ذلك، تبقى تجربة عائشة الإلحادية قيد الكتمان، إذ لا تفصح عن قناعاتها أمام عائلتها أو زملائها في الدراسة، فقط أصدقاؤها المقربون المعدودون هم من يعرفون.
"في كل الأحوال، أستطيع أن أعبر عن قناعاتي الاعتقادية بشكل واضح، وأتحمل مسؤولية العواقب التي تنتظرني، لكن أفضل عموماً التحفظ وعدم الإفصاح، لأني لست منغمسة في العلاقات الاجتماعية بالقدر الكافي".
وعلى منوال علي وأمال، اضطرت عائشة في البداية أن تساير التقاليد، لكنها أحست بأنها تنافق، والحل حسبها هو أن تزاوج بين المرونة مع ما تعتقده والقيود التي يفرضها مجتمعها، "لكن إلى متى سأخفي قناعاتي؟"، تتساءل عائشة.
وتقول أمال لرصيف 22: "في رمضان، وصلت لمرحلة أن أجاهر بإفطاري أمام عائلتي بطريقة أو بأخرى، مثل أن أتذوق أكلاً خفيفاً في المطبخ، أو أن أشرب الماء، أما خروف عيد الأضحى فلا أتناول لحمه. موقفي واضح من هذا الطقس حتى ولو لم أكن نباتية".
"لن يتقبلوا إلحادي"
"أظنّ أن أفراد العائلة والمقربين قد عرفوا قناعاتي المختلفة، والآخرين لم يعرفوا بعد، عموماً أنا لا أعبر عن إلحادي بشكل صريح، أحاول ما أمكن ألَّا أكشف عنه، لأن عائلتي ليست منفتحة بالقدر الكافي، فمعظم أفرادها ضد العلمانية، ويؤمنون بأن الدولة لها الحق في تطبيق الشرع الإسلامي".
لا تلوم نهيلة مجتمعها المصغر على ما يمارسه أحياناً من تضييق، بل المجتمع بأكمله وقوانينه التي لا تعترف بوجودها وحريتها كفرد مستقل.
تقول نهيلة لرصيف 22: "ما لا يعجبني هو عندما يفرض المجتمع هذه التقاليد والأنماط علينا، وكمثال على ذلك، المغربي المتزوج الملحد والقاطن في منطقة شعبية، يضطر أن يذبح الأضحية حتى ولو كان ضد هذا الطقس، أو يسلك حلولاً أخرى تكلفتها مرتفعة، كالعيش في حي راقٍ يسوده الاحترام بغض النظر عن معتقدات أفراده، أو أن يسافر خارج البلد، وسواء اقتنع الفرد أم لم يقتنع بهذه الشعيرة، تظل سلطة المجتمع حاضرة في فرض وصايته على الكل".
"المغربي المتزوج الملحد والقاطن في منطقة شعبية، يضطر أن يذبح الأضحية حتى ولو كان ضد هذا الطقس".
في المناسبات الدينية، تعترف الشابة العشرينية بأنها "تنافق" وتساير الثقافة السائدة، خصوصاً في المناسبات الدينية، والسبب حسبها يكمن في أنها تقطن حالياً مع أسرتها: "وحتى لو سكنت لوحدي لن أقول لهم بأني لا أصوم"، تردف نهيلة.
لكن، حتى وإن ساومت الثقافة السائدة، وتعاملت معها بشكل مرن بدون تصادم أو تمرد، ستظل تدفع ضريبة ما تؤمن به: "في النهاية، لا أستطيع أن أعبر عن كياني ولا أن أكون كما أريد"، تختم نهيلة كلامها لرصيف22.
"الملحدون بالكاد يظهرون"
لا توجد إحصاءات دقيقة حول تعداد اللادينيين والملحدين في المغرب، ومعظمها صادر من مؤسسات وجهات خارج البلد، وغالباً ما يتم التشكيك في دقتها، إذ عادة ما تكشف عن عدد قليل من المصرحين بهذه الفئة، الذين يظلون حذرين من المجاهرة بقناعاتهم الاعتقادية، في ظل حضور قوانين تجرم بشكل أو بآخر تغيير أو تخلي المغاربة عن ديانتهم الإسلامية.
آخر هذه الأرقام، هي ما أفاد به مسح استطلاعي قامت به مؤسسة بي بي سي (البارومتر العربي) خلال العام الماضي، إذ صرح 13% من المستجوبين بأنهم غير متدينين، وهي نسبة مرتفعة قياساً بعام 2013 (8%).أما إحصاءات معهد غالوب-وين لعام 2015، فتفيد بأن 1% من المستجوبين صرحوا بإلحادهم، و 4% عبروا عن عدم تدينهم.
"أجاهر بإلحادي لماما، لكن أحس بأن أبي وإخوتي يعرفون ذلك"، تقول عائشة (19 سنة)
وبشكل غير صريح، يجرم القانون الجنائي المغربي في فصله 220، كل من قام بـ"زعزعة عقيدة مسلم"، وهو فصل يعتبره نشطاء حقوقيون بأنه لا يستهدف فقط التبشيريين، بل أيضاً المعتنقين لقناعات لادينية.
وعلى ذلك، يلجأ الكثير من الملحدين واللادينيين إلى عوالم الويب والسوشال ميديا للتعبير عن أفكارهم، لكن في الغالب بهوية غير مكشوفة. هنا الحرية لا سقف لها، لأن ذلك "يسمح له بالتحايل على الرقابة السياسية والفقهية والاجتماعية، فالإنترنت حين يضمن المجهولية للفرد الملحد يمكنه من إنكار وجود الله، ومن نقد الدين دون مخاطرة بسلامته"، بحسب دراسة للسوسيولوجي المغربي، عبد الصمد الديالمي.
المجاهرة مخاطرة
ما يجمع قصص أمال وعائشة ونهيلة وعلي، هو عدم إفصاحهم بقناعاتهم أمام أسرهم، وهو معطى يراه الباحث المغربي مراد لمخنتر: "بأنه سائد لدى معظم هذه الفئة من المغاربة".
ويوضح لمخنتر في دراسته المعنونة بـ"لادينيون مغاربة: دراسة في الإلحاد من خلفية إسلامية"، أن "وصاية الآباء على الأبناء في المجتمعات الإسلامية دائمة، مادام الابن لم يغادر منزل الأسرة، خصوصاً في المسائل الدينية، فخروج أحد الأبناء عن دين الآباء يعتبر فضيحة وصدمة لهم، لذلك يختار الكثير من الشباب الصمت".
"الملحدون المغاربة لا يجاهرون بإلحادهم كثيرا مقارنة بمصر أو لبنان".
ويضيف لمخنتر: "نجد أن الملحدين المغاربة لا يجاهرون كثيراً بإلحادهم مقارنة مع مصر مثلاً، أو لبنان، فمبدأ التقية هو السائد في المغرب حالياً".
أما الديالمي فيرى بأن المجتمع العربي عموماً "مجتمع جمعي، تلعب داخله نظرة الآخر دوراً أساسياً ومؤسساً، فهي نظرة تقضي بالموت الاجتماعي (والجسدي أحياناً) ضد الإنسان الذي يخرج عن الإجماع".
و يخلص الديالمي في دراسته "سوسيولوجيا الإلحاد في العالم العربي" إلى "الإقرار بوجود ترابط إيجابي، بين غياب الحرية الدينية (على مستويات الدولة والمجتمع والأسرة) وبين تدني نسبة الإلحاد، أو على الأقل نسبة المجاهرة به، فالمجاهرة به مخاطرة وجود".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 9 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.